من الدراسات والأطاريح، في المجال التاريخي الكنسي ما يلقي ضوءاً كاشفاً على مسألة، أو مرحلة، كانت ولا تزال الى حينه، موضع جدل أو تأويل. ومن هذه الأطاريح ما أنجزه المطران يوحنّا
جهاد بطّاح، للسريان الكاثوليك، والذي احتفل بسيامته مطراناً على طائفته في لبنان في تموز من العام الجاري، وكان عنوان أطروحته، التي أعدّها في روما بالايطالية:
Due sinodi della chiesa siro-cattolica: Sinodo di Sciarfé (1853-1854), Sinodo di Aleppo (1866).(*)
وترجمته بالعربية:
سينودسا طائفة السريان الكاثوليك: سينودس الشرفة (1853-1854)، وسينودس حلب (1866).
كانت هذه الأطروحة ارتكزت على اكتشاف الباحث بطّاح، في سياق دراساته وتقصيّاته الطويلة، مخطوطتين (بالعربية والإيطالية) عائدتين لكل من هذين السينودسين، اللذين كانا لا يزالان، في منظور التاريخ والقانون الكنسيين حلقتين مفقودتين، على مدار ثلاثة قرون من الزمن، منذ آخر سينودس للسريان، كان أُطلق عليه اسم سينودس الزعفران (1521م) برعاية الأسقف أغناطيوس عبدالله.
والحال أن المطران يوحنّا جهاد بطّاح، كان وقع على مخطوطتي السينودسين المذكورين، وبالصدفة الدالة، بعد بحث مضنٍ عنهما، مضمومتين الى سجّلات الكنيسة المارونية، باعتبار الأخيرة سريانية في تراثها ولغتها، وأرثوذكسية في إيمانها، حتى قبل الانقسامات العبثية في الكنيسة الواحدة.
ومن نافل الكلام أن البحث التاريخي أو التأريخي، بات يكتسب صدقيته من المراجع والمصادر، أو من المدوّنات (corupus) التي يقدمها الباحث، تأييداً لرأيه واستنتاجاته. وعلى سبيل المثال أُنجز العديد من الدراسات في التأريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، انطلاقاً من مدوّنات مكتشفة أو سجلات أو دفاتر عائدة الى مرجع اجتماعي أو طائفة (وقف مسيحي، إسلامي، وثائق السلطنة العثمانية، السفارات، السجلات الإفرادية، وثائق البطريركيات، ومراكز الإفتاء، والمراكز الدينية الشيعية والدرزية، وغيرها).
وفي السياق عينه، يعدّ اكتشاف المطران يوحنّا بطّاح هاتين المخطوطتين حدثاً بالغ الأهمية لدارسي التراث القانوني والتاريخ الكنسي والاجتماعي لطائفة السريان، التي دخلت في الكثلكة منذ منتصف القرن السابع عشر. وثانياً، لأن هاتين الوثيقتين تغطيان مرحلة في حياة طائفة السريان الكاثوليك، كانت شديدة الحساسية، لتداخل كثير من العوامل الخارجية فيها، كالعامل السياسي من مثل قيام نظام الامتيازات في جبل لبنان، وحوادث العام 1860، والعامل الثقافي التربوي المتمثّل بانتشار التعليم وتعاظم أثره في التكوين الاجتماعي، في الديار السورية بعامة، بين حلب وجبل لبنان، والعامل الاجتماعي العمراني المتمثّل في نزوح العائلات المسيحية من الأرياف، واستقرارها في المدن السورية، وسعيها الدؤوب الى الترقي الاجتماعي متكلةً على تراثها الروحي والعلمي. وثالثاً، لأن هاتين الوثيقتين، إذ تحفظان أعمال السينودسين، وتبسطان جلّ العقائد الايمانية للسريان الكاثوليك، فإنهما تعيدان صياغتها وفق الزمان الذي اندرجتا فيه، ونعني به القرن التاسع عشر، ولاسيما عقائد التثليث، والأسرار الكنسية، والطبيعة الالهية والانسانية للسيد المسيح، وهي ارثهم العقائدي العزيز الذي بقي لهم من ارثوذكسيتهم القديمة. بيد ان الوثيقتين، المكتوبتين بالعربية والايطالية (*)، والواردتين، في متن الاطروحة، ومذكورتين بلغات ثلاث متوازية، في الصفحة ذاتها (الايطالية، والعربية والفرنسية)، لم تغفلا تصوير الواقع العمراني والاجتماعي الكنسي الذي نشأ بعيد الحوادث الطائفية، في جبل لبنان ودمشق وبعض المناطق، من حيث "الدور المحروقة"، (ص: 295) و"عدد التلاميذ والمدارس" (ص: 294) بالتزامن مع ذكرهما الارث الغني والعريق الذي تختزنه الكنيسة السريانية على مر القرون، منذ السينودس الاول، المنعقد في دير مار متى، في العراق (628)، وصولاً الى السينودسَيْن المذكورين، في القرن التاسع عشر.
وبالنظر الى مضمون السينودس الاول (1853 – 1854) المنعقد في الشرفة، يمكن القول انه ينطوي على شقين، عقائدي وعملاني في آن: العقائدي المتمثل في ركائز الايمان التي سبقت الاشارة اليها، اما الجانب العملاني فتمثل في القوانين التي يجب ان تنظم علاقات الكاهن برعيته، والسمات العامة لكل من الاسقف والمطران، والرتب البيعية (الكنسية)، والاعياد، والصيامات الكنسية، وكيفيات دفن الموتى، ووظائف المدرسة العمومية الاكليريكية للطائفة.
اما السينودس الثاني، المنعقد في حلب (1866)، فاتّبع فيه المطارنة المجتمعون المسار ذاته، اذ باشروا العقائديات على ما بيّنه نص المخطوطة الثانية، مؤكدين تسليمهم بكل "ما تعتقد به وتعلمه الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية الرومانية (ص: 264)، وعلى تبنّيهم كل ما صدر عن "المجامع العامة" التي اعتبرتها الكنيسة الكاثوليكية محطات لازمة في بناء العقيدة.
ومن ثم واصل المؤتمرون تقويم رتب الاسرار، من مثل المعمودية والميرون والتوبة، والقربان المقدس، والمسحة الاخيرة، والكهنوت، والزيجة اي الزواج… الى ان بلغوا الكلام على "الالزامات الاكليريكية"، اي الواجبات التي يفترض بالكاهن ان يتقيد بها، في حياته وموته، و"الزامات السادات رؤساء الاساقفة والاساقفة" في ما خص الارث، والمحافظة على املاك الكنيسة، وكيفية تدبيرها، وايام الصوم، والخطوط العامة لإدارة "المدرسة العمومية الاكليريكية، والمدارس الخصوصية للطائفة" (ص: 297).
مما لا شك فيه ان اطروحة المطران يوحنا جهاد بطّاح، عن السينودسَيْن (الشرفة، حلب)، والتي لم تترجم بعد من الايطالية الى العربية، سوف تثير اهتمام الباحثين في الشؤون الكنسية والاجتماعية والثقافية، مما يتصل بحياة اهل سوريا ولبنان، في منتصف القرن التاسع عشر، ثم ان الكشف عن مضمون هذين السينودسين، في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة، لحظة التحديات والانتفاضات في العالم العربي، قد يكون علامة او اضاءة رجائية على مصير المسيحيين الضاربة جذورهم في المشرق.
كما يؤمل ان يكون هذا الكشف دليلاً الى أن الأزمنة مطواعة للكلمة، عندما يعمل على توحيدها، وعندما يشع سلامها على كل الجماعات الدينية المتآخية في الشرق، بلا ظلم ولا منّة ولا حدود.
Due sinodi della chiesa siro-cattolica: Sinodo di Sciarfé (1853-1854), Sinodo di Aleppo (1866).(*)
وترجمته بالعربية:
سينودسا طائفة السريان الكاثوليك: سينودس الشرفة (1853-1854)، وسينودس حلب (1866).
كانت هذه الأطروحة ارتكزت على اكتشاف الباحث بطّاح، في سياق دراساته وتقصيّاته الطويلة، مخطوطتين (بالعربية والإيطالية) عائدتين لكل من هذين السينودسين، اللذين كانا لا يزالان، في منظور التاريخ والقانون الكنسيين حلقتين مفقودتين، على مدار ثلاثة قرون من الزمن، منذ آخر سينودس للسريان، كان أُطلق عليه اسم سينودس الزعفران (1521م) برعاية الأسقف أغناطيوس عبدالله.
والحال أن المطران يوحنّا جهاد بطّاح، كان وقع على مخطوطتي السينودسين المذكورين، وبالصدفة الدالة، بعد بحث مضنٍ عنهما، مضمومتين الى سجّلات الكنيسة المارونية، باعتبار الأخيرة سريانية في تراثها ولغتها، وأرثوذكسية في إيمانها، حتى قبل الانقسامات العبثية في الكنيسة الواحدة.
ومن نافل الكلام أن البحث التاريخي أو التأريخي، بات يكتسب صدقيته من المراجع والمصادر، أو من المدوّنات (corupus) التي يقدمها الباحث، تأييداً لرأيه واستنتاجاته. وعلى سبيل المثال أُنجز العديد من الدراسات في التأريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، انطلاقاً من مدوّنات مكتشفة أو سجلات أو دفاتر عائدة الى مرجع اجتماعي أو طائفة (وقف مسيحي، إسلامي، وثائق السلطنة العثمانية، السفارات، السجلات الإفرادية، وثائق البطريركيات، ومراكز الإفتاء، والمراكز الدينية الشيعية والدرزية، وغيرها).
وفي السياق عينه، يعدّ اكتشاف المطران يوحنّا بطّاح هاتين المخطوطتين حدثاً بالغ الأهمية لدارسي التراث القانوني والتاريخ الكنسي والاجتماعي لطائفة السريان، التي دخلت في الكثلكة منذ منتصف القرن السابع عشر. وثانياً، لأن هاتين الوثيقتين تغطيان مرحلة في حياة طائفة السريان الكاثوليك، كانت شديدة الحساسية، لتداخل كثير من العوامل الخارجية فيها، كالعامل السياسي من مثل قيام نظام الامتيازات في جبل لبنان، وحوادث العام 1860، والعامل الثقافي التربوي المتمثّل بانتشار التعليم وتعاظم أثره في التكوين الاجتماعي، في الديار السورية بعامة، بين حلب وجبل لبنان، والعامل الاجتماعي العمراني المتمثّل في نزوح العائلات المسيحية من الأرياف، واستقرارها في المدن السورية، وسعيها الدؤوب الى الترقي الاجتماعي متكلةً على تراثها الروحي والعلمي. وثالثاً، لأن هاتين الوثيقتين، إذ تحفظان أعمال السينودسين، وتبسطان جلّ العقائد الايمانية للسريان الكاثوليك، فإنهما تعيدان صياغتها وفق الزمان الذي اندرجتا فيه، ونعني به القرن التاسع عشر، ولاسيما عقائد التثليث، والأسرار الكنسية، والطبيعة الالهية والانسانية للسيد المسيح، وهي ارثهم العقائدي العزيز الذي بقي لهم من ارثوذكسيتهم القديمة. بيد ان الوثيقتين، المكتوبتين بالعربية والايطالية (*)، والواردتين، في متن الاطروحة، ومذكورتين بلغات ثلاث متوازية، في الصفحة ذاتها (الايطالية، والعربية والفرنسية)، لم تغفلا تصوير الواقع العمراني والاجتماعي الكنسي الذي نشأ بعيد الحوادث الطائفية، في جبل لبنان ودمشق وبعض المناطق، من حيث "الدور المحروقة"، (ص: 295) و"عدد التلاميذ والمدارس" (ص: 294) بالتزامن مع ذكرهما الارث الغني والعريق الذي تختزنه الكنيسة السريانية على مر القرون، منذ السينودس الاول، المنعقد في دير مار متى، في العراق (628)، وصولاً الى السينودسَيْن المذكورين، في القرن التاسع عشر.
وبالنظر الى مضمون السينودس الاول (1853 – 1854) المنعقد في الشرفة، يمكن القول انه ينطوي على شقين، عقائدي وعملاني في آن: العقائدي المتمثل في ركائز الايمان التي سبقت الاشارة اليها، اما الجانب العملاني فتمثل في القوانين التي يجب ان تنظم علاقات الكاهن برعيته، والسمات العامة لكل من الاسقف والمطران، والرتب البيعية (الكنسية)، والاعياد، والصيامات الكنسية، وكيفيات دفن الموتى، ووظائف المدرسة العمومية الاكليريكية للطائفة.
اما السينودس الثاني، المنعقد في حلب (1866)، فاتّبع فيه المطارنة المجتمعون المسار ذاته، اذ باشروا العقائديات على ما بيّنه نص المخطوطة الثانية، مؤكدين تسليمهم بكل "ما تعتقد به وتعلمه الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية الرومانية (ص: 264)، وعلى تبنّيهم كل ما صدر عن "المجامع العامة" التي اعتبرتها الكنيسة الكاثوليكية محطات لازمة في بناء العقيدة.
ومن ثم واصل المؤتمرون تقويم رتب الاسرار، من مثل المعمودية والميرون والتوبة، والقربان المقدس، والمسحة الاخيرة، والكهنوت، والزيجة اي الزواج… الى ان بلغوا الكلام على "الالزامات الاكليريكية"، اي الواجبات التي يفترض بالكاهن ان يتقيد بها، في حياته وموته، و"الزامات السادات رؤساء الاساقفة والاساقفة" في ما خص الارث، والمحافظة على املاك الكنيسة، وكيفية تدبيرها، وايام الصوم، والخطوط العامة لإدارة "المدرسة العمومية الاكليريكية، والمدارس الخصوصية للطائفة" (ص: 297).
مما لا شك فيه ان اطروحة المطران يوحنا جهاد بطّاح، عن السينودسَيْن (الشرفة، حلب)، والتي لم تترجم بعد من الايطالية الى العربية، سوف تثير اهتمام الباحثين في الشؤون الكنسية والاجتماعية والثقافية، مما يتصل بحياة اهل سوريا ولبنان، في منتصف القرن التاسع عشر، ثم ان الكشف عن مضمون هذين السينودسين، في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة، لحظة التحديات والانتفاضات في العالم العربي، قد يكون علامة او اضاءة رجائية على مصير المسيحيين الضاربة جذورهم في المشرق.
كما يؤمل ان يكون هذا الكشف دليلاً الى أن الأزمنة مطواعة للكلمة، عندما يعمل على توحيدها، وعندما يشع سلامها على كل الجماعات الدينية المتآخية في الشرق، بلا ظلم ولا منّة ولا حدود.
(*) الأطروحة صادرة عن دار سيدراك CEDRAC، مطبوعات جامعة القديس يوسف بيروت – 2011 – 415 صفحة بالقطع الوسط.
(*) النص الايطالي، لمخطوطتي السينودسين، أعدّه القاصد الرسولي للفاتيكان، في كلا السينودسين، مواكبة لأعمالهما وترجمة فعاليتهما، على قدر من الأمانة.
أنطوان أبوزيد النهار