والثقافة من خلال إصدار الكتب والمؤلفات على أنواعها. فتجاوباً مع هذه النهضة احضرت الرهبانية اللبنانية المارونية خلال العام 1855 مطبعة إلى دير سيدة طاميش الذي كان أسسه المطران جبرائيل البلوزاني العام 1673 في منطقة المتن جنوب وادي نهر الكلب، وتسلمته الرهبانية المارونية اللبنانية العام 1727. وهذه المطبعة اشترتها الرهبانية اللبنانية المارونية العام 1855 وأحضرتها من أوروبا على يد ابراهيم الديراني وفي أيام الأب العام عمانوئيل المتيني ولكن ثمنها دفع في عهد خلفه الأب العام لورنسيوس الشبابي في أوائل عهد رئاسته العامة (دير سيدة طاميش بين الأمس واليوم صفحة 526 – 2003). وصدر عن هذه المطبعة خلال فترة عملها التي امتدت الى العام 1882 مؤلفات عدة دينية وتاريخية وأدبية، منها "الدر المنظوم" للبطريرك بولس مسعد الصادر العام 1863 وكتاب "فصل الخطاب" للمطران جرمانوس فرحات العام 1867.
وما تجدر الإشارة إليه هو أن أول كتاب صدر عن هذه المطبعة هو "مختصر اللاهوت الأدبي المؤلف من القديس الجليل الفونسيوس ليكوري" وقد صدر منه المجلد الأول عام 1857 في 759 في حلة جميلة وورق مصقول، وورد في صدر الكتاب انه "طبع في دير سيدة طاميش في جبل لبنان بإذن الرؤساء وبنفقة الرهبان اللبنانيين المارونيين وذلك سنة ألف وثمانماية وسبعة وخمسين مسيحية".
أما المفيد الإشارة إليه فهو التوضيح الذي أورده طابع الكتاب في الصفحة الثانية من مقدمته حيث تكلم على ظروف طبع الكتاب قائلاً: "أما بعده فيقول العبد الفقير… الخوري يوسف عطية المرسل اللبناني احد تلامذة مدرسة عين ورقة في جبل لبنان الماروني ملة والصوري موطنا إنني لما رأيت الكتاب المقتضب عن اللاهوت الأدبي المؤلف من القديس الجليل الفونسيوس ليكوري دي ماريا من الاب الفاضل ريناكوت الكاهن والمرسل القانوني في أبرشية روتانسا هو جزيل الإفادة من حيث انه يشتمل على المباحثات المختصة بهذا العلم الضروري لمن يختص بهم ذلك فبادرت لترجمته عن أصله اللاتيني أولا امتثالاً لمن أمره لا يرد ثانيا إيفاء عن جزء يسير مما انا مديون به. فترجمته على حسب ما أفادتني إليه الفطنة العقيمة والمعرفة السقيمة. فبعد انجازي هذا الأمر الصعب جدا قدمت نسخة الترجمة لدى سيدي وأستاذي قدس السيد البطريرك بولس مسعد الكلي الغبطة والجزيل الطوبى وذلك ليطالعها بعين الانتقاد فتنازل لالتماسي منعما ولبى طلبي مكرما وتقابلت نسخة هذه الترجمة بمطالعته على أصلها اللاتيني فهذب منها ما شط وخل حيث شتان بين مذاقة السلافة والخل ضاربا صفحا عن استخدام الألفاظ العربية الغريبة غير المفهومة تاركا التراكيب في الجمل على أسلوب حقايقها في أصلها اذ المقصد المأثور في هذه الترجمة لا فصاحة اللغة العربية ولا تركيب الجمل المعقدة بل المقصود هو إفادة المطالع فمن ثم قد تراعى في هذا الانتقاد التركيب الذي يسهل على القارئ إدراك المعاني لا ارتباك فهم المعاني فجاءت بعونه تعالى كتابا محكم النقل يغني الدارسين في هذا العلم عن مثله ملتمسا لي ولمن تعب فيه حسن الثواب من الرب الوهاب لأنه حسبنا ونعم الوكيل أمين وقد تعين بأمر الرؤساء مناظر على طبعه الشدياق انطون المكرزل".
وفي الصفحة الأخيرة من الكتاب المطبوع (ص. 759) أورد الخوري يوسف عطيه ما يلي: "قد تم طبع هذا الجزء الأول من تأليف اللاهوت الأدبي… في مطبعة دير سيدة طاميش من معاملة كسروان بإذن قدس السيد مار بولس بطرس مسعد البطريرك الإنطاكي الكلي الطوبى وبعناية قدس الأب لورنسيوس شبابي أب عام الرهبانية اللبنانية الكلي الاحترام وباهتمام الأب يوسف بليبل ريس الدير المذكور. وذلك بنفقة الرهبانية المذكورة. وكان ختام طبعه في أوائل شهر كانون الأول سنة 1857 للتجسد الإلهي. يرجو التعبون في المساهمة والغفران من الله المنان والذكر الصالح من المطالع فيه طالبين غض النظر عما وقع في طبعه من السهو والزلل والنقص والخلل لأنه هو أول كتاب جرى طبعه في هذه المطبعة المستجدة…"
وتقتضي الإشارة الى ما يلي:
1 – ان الخوري يوسف عطية الذي نقل هذا الكتاب الى اللغة العربية هو خليل ابن الخوري بشارة عطية وقد اختار اسم يوسف عند دخوله الكهنوت. ولد العام 1809 في مدينة صور ودخل في الخامس من شهر أيار 1825 مدرسة عين ورقة على ما يفيد سجل تلامذة هذه المدرسة الذي نشره الأب ناصر الجميل في كتابه ("التبادلات الثقافية بين الموارنة وأوروبا" – الجزء الثاني – ص. 1061).
2 – ان البطريرك بولس مسعد (1806 – 1890) الذي انتخب بطريركاً على الطائفة المارونية العام 1854 هو من رعيل تلامذة المدرسة المارونية في روما ومن كبار بطاركة الطائفة المارونية وهو صاحب مؤلفات بارزة منها "الدر المنظوم" الصادر عن المطبعة نفسها عام 1863.
3 – ان الرئيس العام للرهبانية المارونية اللبنانية الذي أشار اليه مترجم الكتاب هو لورنسيوس يمين الشبابي (1814 – 1896) الذي عينَه الكرسي الرسولي رئيساً عاماً مرتين الأولى في 21/ 11/ 1850 والثانية في 13/ 11/ 1856 إلى أن انتخب أبا عاماً في مجمع عام للرهبانية سنة 1859 – علماً ان الأب نعمة الله كساب الحرديني كان أحد المدبرين الأربعة معه بين 1856 و1858. وخلال رئاسته دفعت الرهبانية ثمن مطبعة دير سيدة طاميش سنة 1856 البالغ 75 ألف قرش وكانت هذه المطبعة مؤلفة من حرف عربي وسرياني ولاتيني ومن أمهات للأحرف الثلاثة ومقطع ورق، ومعدات للعرم والتجليد (يراجع كتاب دير سيدة طاميش بين الأمس واليوم ص. 126 – 2003).
4 – اما رئيس الدير عند صدور الكتاب الأول من مطبعته فهو الأب يوسف بليبل من قرية بحرصاف وقد ابرز نذوره في 1/ 11/ 1841 في دير قرطبا وارتسم كاهناً في 23/ 3/ 1847.
نستنتج من كل ما سبق الدلالات لميزات المجتمع اللبناني في هذه الحقبة من القرن التاسع عشر المليء بالأحداث السياسية والأمنية، منها الرغبة في طبع الكتب المتعلقة بثقافة المجتمع ونشرها والاهتمام المباشر للبطريرك الماروني بولس مسعد بتحقيق هذه المؤلفات منعاً لحصول أي أخطاء أو تباينات دينية، كما انها تلقي الضوء على الالتزام الثقافي لتخصيص القدرات لنشر العلم والثقافة في مجتمع كان في بدايات الحداثة. وهذا ما حدانا إلى تمييز هذا المؤلف الذي كان باكورة منشورات مطبعة دير سيدة طاميش في حينه مدى نحو ربع القرن.
هيام جورج ملاط / النهار
لبنان :أول كتاب مطبوع في مطبعة دير سيدة طاميش العام 1857
يشكل تعدّد المطابع في لبنان ابتداء من القرن الثامن عشر وبخاصة مع الانفتاح التدريجي للمجتمع اللبناني على سائر المجتمعات الأجنبية والعربية في القرن التاسع عشر البنية الأساسية لنشر العلم