قراءة شاملة
يشتمل هذا المجلد في الأساس على أمرين هامين يكمّل أحدهما الآخر. لكل منهما قيمته في حد ذاتها. والأرجح أن الإثنين معاً يعاضد أحدهما الآخر في إنجاز قراءة يراد بها أن تكون شاملة لسيرورة الصحافة اللبنانية في سنواتها المئة الأولى. أولهما التوجه مباشرة الى جعبة التاريخ واستخراج محتوياتها بعقل موضوعي ومنظم على مستوى أسماء الصحف والمطبوعات التي أبصرت النور منذ العام 1858. ومن ثم وضعها في إطارها التاريخي السياسي الاجتماعي لتتحوّل بالفعل أداة علمية متحركة في قراءة مستجدة لقراءة حقبة قد تكون الأخطر في تاريخ لبنان الحديث. والثاني، القيام بإدراج صور نادرة لمجموعات يعتدّ بها من الصحف والمطبوعات. وهي غير مألوفة، بطبيعة الحال، نظراً الى تقادمها في الزمن وحالتها الرثّة التي كانت بلغتها نتيجة للإهمال المستشري من جهة، وفقدان التواصل الحي مع وقائع تلك الفترة. والأغلب أن الأضرار الجمّة التي أصابت هذه المطبوعات هي عينها مما أصاب البلاد من تلف في الذاكرة وتوحش منقطع النظير في فكفكة أوصال المجتمع المدني ومؤسسات الدولة وتعزيز الغرائز الهمجية في الجسد اللبناني الضعيف. ومع ذلك، لا يبدو أن هذا البلد الصغير يصدّق ما يوحى إليه بأنه خطأ فادح جرى ارتكابه بحماقة في حق التاريخ والجغرافيا. لا شيء من هذا القبيل أبداً. على النقيض من ذلك، فإنه سرعان ما يستدرك في كل مرة تُنصب له الأفخاخ، ان الجغرافيا والتاريخ ليسا من صنف الحقائق الثابتة. إنهما، بدلاً من ذلك، من جنس الحقائق المتغيّرة، المتبدّلة التي يصنعها الإنسان، ثم يعيد تصنيعهما وفقاً لطموحات واستراتيجيات مردّها بالدرجة الأولى الى التحوّلات التي راحت تداهم الحياة بوتائر متسارعة.
ارتأى واضعو هذا المجلد أن يستخدموا منهجاً زمنياً (كرونولوجياً) إذا جاز التعبير، في إعادة نسيج بعض من أهم الخيوط في الثوب المتألق للصحافة اللبنانية في قرن كامل. وقد اعتمدوا في ذلك، تقسيماً طريفاً من شأنه أن يضيف حيوية فائقة الى قراءتهم المتحركة لمحطات بارزة في قطار هذه المهنة الصعبة. استهلوها بالفترة الممتدة من عام 1858 الى العام 1870. والأرجح أنهم لم يبتعدوا عن جادة الصواب في مهمة من هذا الوزن الثقيل. وهم يجمعون أن ولادة الصحافة في لبنان كانت على يد خليل الخوري الذي كان أصدر جورنال "الأخبار". ثمة توافق على أن هذه الدورية هي أول صحيفة عربية يصدرها عربي في بلد عربي. شكّلت هذه المطبوعات إيذاناً فعلياً بكرّ سبحة مثيلاتها في وقت قياسي. في العام 1860 أصدر المعلم بطرس البستاني صحيفة "نفير سوريا". أعقب ذلك سلسلة من المطبوعات، من بينها: "لبنان الرسمية"، وهي الصحيفة الرسمية الأولى باللغتين العربية والفرنسية، و"الشركة الشهرية" لصاحبها يوسف الشلفون، و"مجموعة العلوم" لرئيس الجمعية العلمية السورية، حسين بيهم العيتاني، وصحيفة "الجنة" لسليم البستاني. عزّز في تدفق هذه المطبوعات، واحدة بعد الأخرى، أول قانون للصحافة في العهد العثماني أصدره السلطان عبدالعزيز (1861 1871). وقد أقدم هذا الأخير على تنشيط الآداب والصحافة، وكان كريماً مع الصحافيين والأدباء والكتّاب يجود عليهم بالنِعَم والعطايا. وعلى الرغم من الطابع التكويني لصحف هذه الفترة، إذ كانت لا تزال في طور التأسيس الأول لتقنيات هذه المهنة، فقد أطلقت شرارة اللهب في مخيّلة من تولّوا بعد ذلك مواقع صلبة في بنية الصحافة اللبنانية، إصدارات وكتاباً وذوي شغف كبير في دهاليز هذه المهنة التي راحت منذ ذلك التاريخ المبكر تقترب من هوية لبنانية كانت بدورها قيد التكوين البطيء.
بدايات التكوين
تمتد المرحلة الثانية بين العام 1871 و1880. وهي أكثر تعقيداً في وقائعها السياسية، المحلية والدولية، وأكثر اقتراباً مما تفترضه هذه المهنة من ارتقاء بطبيعة الصحافة واستيعاب لخطورة الأحداث القائمة. أولى المفاجآت التي ترصّدت بالصحافة اللبنانية في تلك الفترة، إقدام السلطان العثماني عبدالحميد الثاني على تقييد حرية النشر والكتاب والإجحاف المبالغ فيه بخنق حرية الكلمة. ومع ذلك، لم تسفر هذه الإجراءات عن انكفاء في إصدار المطبوعات الجديدة. من بين أهمها، أول مجلة مخصصة للأطفال في الصحافة العربية هي "كوكب الصبح المنير" أصدرها القساوسة الأميركيون وكانت توزّع مجاناً على تلامذتهم في بيروت، وصحيفة "الجنينة" وهي سياسية تجارية لصاحبها سليم البستاني، و"التقدم" لناشرها يوسف الشلفون. وكانت تقتبس أخبارها من الصحف المحلية والتركية والمصرية. وفي العام 1875 أصدر سعد عبدالفتاح حمادة صحيفة "الجوانب" التي كان أسسها أحمد فارس الشدياق في الاستانة عام 1860. أعقبها "لسان الحال" أطول الصحف اللبنانية عمراً. وقد شهدت هذه الفترة أولى الدوريات العلمية المتخصصة وهي "المقتطف" ليعقوب صروف وفارس نمر. هذا غيض من فيض المطبوعات التي أبصرت النور في تلك الفترة. وقد أخذت أعداد القراء تتزايد باطراد في المرحلة الممتدة بين العام 1881 و1890 نتيجة لافتتاح الجامعتين الأميركية واليسوعية والتوسّع الكبير الذي طرأ على جمعية المقاصد الإسلامية في إنشاء المدارس، إضافة الى مثيلات لها أقدمت طوائف لبنانية متعددة على تأسيسها في مناطق لبنانية مختلفة.. من بين الإصدارات التي احتلت حيّزاً ملحوظاً في تلك الأثناء: "ديوان الفكاهة" لسليم شحادة وسليم طراد، وهي مجلة شهرية تعنى بنشر الروايات التاريخية والأدبية. وكانت الأولى من نوعها بين الإصدارات العربية. ومن المطبوعات الهامة صحيفة "بيروت" لمحمد رشيد الدنا، وهي علمية سياسية أدبية.
بدت الفترات اللاحقة أكثر صخباً وإثارة لنمط من التجاذب السياسي، تحديداً مع نشوب الحرب العالمية الأولى، ثم طيّ صفحة الدولة العثمانية في لبنان وسائر الشرق. وبعد ذلك اندلاع الحرب العالمية الثانية وبداية خلخلة الانتداب الفرنسي على لبنان وصولاً الى نيل الاستقلال. بين العام 1891 1900، أصدر ابراهيم الأسود صحيفة بعنوان "لبنان"، سرعان ما عطّلها المتصّف واصا باشا. كما ظهرت مطبوعات متعددة، من بينها "روضة المعارف" لسليم الانسي. بين العام 1901 1910، صدرت صحيفة "البرق" للشاعر بشارة الخوري، و"الاتحاد العثماني" للشيخ أحمد طبارة، و"العرفان" للشيخ أحمد عارف الزين، و"الحسناء" لجرجي باز، وهي أولى المجلات النسائية في العالم العربي. بين العام 1911 1920، ومع بداية انتشار التيارات السياسية، ولدت مطبوعات عدة، من بينها: "البلاغ" لمحمد الباقر ونصوح بكداش. وأصدرت سليمة أبي راشد مجلة "فتاة لبنان" وهي أولى السيدات الناشرات بين مثيلاتها العربيات بين 1921 1930. وكان الاستقطاب الحاد بين الانتداب الفرنسي والقوى السياسية في لبنان على أشده، اتخذت الصحافة منحى يستجيب للتطورات المتلاحقة. أصدر جبران تويني في تلك الأثناء جريدة "الأحرار"، وأبصرت النور صحيفة "الإنسانية" وكانت لسان حال الطبقة العاملة في لبنان. وأسس فؤاد الشمالي "صوت العمال". كما صدرت باللغة الفرنسية دوريات مختلفة. بين 1931 1940، بدت حركة النشر أكثر قدرة على مخاطبة حقائق العصر. أصدر جبران تويني "النهار" ومحيي الدين النصولي صحيفة "بيروت"، وفؤاد حبيش "المكشوف"، إضافة الى مطبوعات أخرى كثيرة. بين 1940 1950، ظهرت "البشير" و"الطريق" و"بيروت المساء" لعبدالله المشنوق، وكذلك "الحياة"، "الطيار"، "الديار" وسواها. وتميّزت هذه الفترة بصدور مجلة "الصياد" لسعيد فريحة و"الأديب" لألبير أديب، و"المختار" لفؤاد صروف وغيرها من المطبوعات الهامة. بين 1951 1958، خرج الى الضوء خمسون امتيازاً صحافياً جديداً، من بينها "الأنباء" للحزب التقدمي الاشتراكي، و"الكفاح العربي" و"صوت لبنان" و"الآداب" لسهيل اديس. ومن المطبوعات التي تعنى بالسينما والمسرح، ظهرت "دنيا الكواكب"، "السينما والعجايب"، "المسرح"، "الإذاعة"، "نجوم السينما" وسواها. كما صدرت مجلات وصحف عدة باللغتين الفرنسية والإنكليزية.
المدينة المستحيلة
هذه شذرات متفرقة من الخارطة المعقّدة التي ارتسمت معالمها في أفق الصحافة اللبنانية خلال قرن من الزمن. وقد اجتهد واضعو المجلّد، قدر المستطاع، في تقصّي أثرها وتتبّع دلالاتها في البانوراما التاريخية المدرجة. والأرجح أنهم كانوا بذلك يسلّطون الضوء على الحاضنة الأم لهذه الحركة الفكرية السياسية الاجتماعية، بيروت التي بدت في تلك الأثناء من النسيج المتحوّل، الفذّ والفريد لنهوض المارد الصحافي من رحم التجربة اللبنانية. بدت هذه المدينة في رحلة مئة عام من هذه المغامرة المستمرة حتى اليوم أكثر انحيازاً الى الانفتاح على الحداثة الإنسانية والعروبة الإنسانية بعيداً عن معظم الشعارات السياسية ذات الطبيعة الإيديولوجية المغلقة. كانت بيروت من صلب هذه التجربة. وكانت هذه الأخيرة من صلب المدينة أيضاً. ولا تزال التجربة المتحوّلة والمدينة المتحوّلة طائرين يغردان خارج سربهما في العقد الأول من الألفية الثالثة. لا تزال التجربة الصحافية مهيأة للتورط المبدع في معترك الحداثة. ولا تزال بيروت تتطلع الى تلقف هذه المعادلة المتحركة خارج أطر "الثوابت" المتداولة في الدائرة الإقليمية. وقد أصبحت هذه الأخيرة مفرغة بالكامل من أي مضمون إنساني أو سياسي يذكر. والأغلب أن لا تنكفئ بيروت عن المضي في هذه التجربة المغامرة. أليست هي المدينة المستحيلة، المستعصية على التدجين؟.
المستقبل


الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة- لبنان اوسيب – لبنان