والولايات المتّحدة الأميركيّة. وتوزّعت الأوراق المقدّمة في المؤتمر على أربعة محاور: الحدث، شهود عيان، الذاكرة والتاريخ، ومقاربة نقديّة.
أحداث 1860 الطائفيّة لـمّا تنتهِ بعد. تستعيدها الذاكرات في كلّ مرّة تذرّ الفتنة الطائفيّة بقرونها منذرةً بأيّام سوداء وعجاف آتية عاجلاً أم آجلاً. أحداث عمرها قرن ونصف قرن، لكنّ آثارها ما زالت حيّة وماثلة في العقول والأفئدة. لذلك لم يتوانَ المشاركون عن المقارنة بين ما جرى سنتذاك وما يجري اليوم وما يهيّأ للغد إذا لم يتمّ تدارك الأمور والانتفاع من دروس الماضي الأليمة لتفادي مصير يكاد أن يكون محتومًا.
غاص الباحثون في سبر غور الأسباب والدوافع التي أدّت إلى الحوادث المذكورة في جبل لبنان وفي دمشق. فلم يغفلوا الأبعاد الداخليّة لها والصراعات على النفوذ والنزاعات الطائفيّة المستشرية. غير أنّهم بيّنوا أيضًا الأبعاد الخارجيّة التي فعلت فعلها السلبيّ في إذكاء النزاعات ووصولها إلى حدّ ارتكاب المجازر والمذابح والتهجير. فالسلطنة العثمانيّة بولاتها والدول الأجنبيّة بقناصلها أدّت دورًا كبيرًا في الحضّ على النزاع عبر إغداقها الوعود بالمساندة والدعم، واستجاب لها أصحاب الطوائف والمذاهب قارعين أنفار الحرب.
وأبرز المحاضرون الذين قدّموا أبحاثًا عن شهود العيان، الذين دوّنوا مذكّراتهم عن تلك الحوادث في مخطوطات بعضها لم يُنشر بعد، كيف أنّهم عبّروا عن خيبة الأمل بالدول التي حضّتهم على النزاع ثمّ تخلّت عنهم عندما تبدّلت المصالح والأهواء العليا. ففرنسا وروسيا والسلطنة العليّة وسواها من الدول استغلّت الغرائز الطائفيّة الموجودة أصلاً لدى الجماعات الدينيّة العديدة المنتشرة في بلاد الشام ولبنان لتوريطها في الحوادث ثمّ اللعب بها كما يلعب الهواء بأوراق الشجر.
كما تناول بعض المشاركين النتائج الاقتصاديّة والخسائر الهائلة التي ترتّبت عن النزاعات، والتعويضات التي صُرفت للمتضرّرين. ولم يغفل هؤلاء الإشارة إلى الفساد الذي ساد توزيع تلك التعويضات والرشاوى التي دُفعت لبعض الوجهاء ورجال الإكليروس الذين أسهموا في تحصيلها. فديمتري الدبّاس الدمشقيّ (1837-1912) الذي هاجر إلى بيروت إبّان تلك الحوادث التي دوّن أخبارها في مذكراته يقول: "كانت أكثر النقود تُدفع براطيل إلى أعضاء الكومسيونات. وصارت تباع المائة بستّين أو سبعين يأخذها أغنياء بيروت فيدفعون منها للحكومة ويقبضونها، حتّى صارت مصائب قوم لقوم فوائد".
يضيق بنا المجال هنا لعرض كلّ وقائع هذا المؤتمر، غير أنّه يسعنا القول بأنّ الأبحاث التي قُدّمت كانت على مستوى رفيع من العلميّة والدقّة والصراحة الفائقة. والمشاركون لم ينحازوا إلى سوى البحث عن الموضوعيّة والاقتراب قدر الإمكان من الحقائق التاريخيّة، إذ يتعذّر الوصول إلى حقيقة جازمة في التأريخ. وقد صدق الكاتب سليمان تقي الدين حين قال: "التأريخ السياسيّ يسيطر على التأريخ الاجتماعيّ. ولم نجد بعد رواية نقديّة تؤسّس لتجاوز ذاكرة الحروب".
هذا المؤتمر بكلّ ما دار فيه من أفكار ونقاشات مهمّ جدًّا. فالسوريّون واللبنانيّون، مسلمون ومسيحيّون، الذين يمرّون اليوم في فترة عصيبة تتحدّد فيها مصائرهم ينبغي لهم اسخلاص العبر والدروس ممّا جرى في بلادهم عام 1860 وسواه من أعوام المحن والفتن كي لا يسقطوا مجدّدًا في الفخّ الذي سقط فيه أجدادهم.
النهار 16/10/2011