المعروف انه بدءاً من القرن السادس عشر درجت في أوروبا عادة جمع المراثي من شعر ونثر وشهادات في الأدباء والشعراء والسياسيين البارزين الراحلين تخليداً لهم ومنعاً من طي النسيان لذكراهم.
هذا النوع من الإصدارات لم يبلغ الشرق إلا خلال القرن التاسع عشر، وعلى رغم ما أنشد من قصائد وألقي من كلمات في مناسبات اجتماعية أو وداعية لم يخطر ببال أحد جمع هذه النصوص في مؤلف واحد ووضعه في متناول المواطنين والقراء.
لذلك رغبنا من خلال مراجعتنا للمؤلفات الصادرة في نشاط الطباعة في لبنان، واستذكاراً لدور الذين اخذوا على عاتقهم بجمع ونشر مصنفات كهذه، إلقاء الضوء على بعض الكتب من هذا النوع التي ميزت الحركة الأدبية في لبنان خلال القرن التاسع عشر، خصوصاً انه يتبين من مراجعتها تضمنها شعراً أو نثراً لكبار الأدباء والشعراء في ذاك العصر مما يقدم المزيد من المعرفة والاطلاع على أدبهم ودورهم في مجتمع تلك الأيام. فللمؤلفات هذه قيمة مضافة تاريخية لأنها تؤرخ لحقبة منسية من الزمن الأدبي اللبناني.
وبالعودة الى المؤلفات والدراسات الموثوق بها، يتبين ان أول من أقدم على جمع المراثي بوفاة شخصيات بارزة في تاريخ لبنان الديني والسياسي والأدبي هو الخوري يوسف الشاعر (1833 -1888)، وهو من مواليد دلبتا (كسروان) وكان نائباً أسقفيا على أبرشية بيروت بين 1859 و 1871، ومن ثم قاضياً رئيساً لمحكمة كسروان بين 1875 و1883، اي حتى قيام المتصرف واصا باشا بعزله لإنهاء التقليد التاريخي الذي كان يجيز ان يتولى الخوارنة رئاسة محاكم جبل لبنان. فعلى اثر وفاة المطران طوبيا عون راعي أبرشية بيروت عام 1871، جمع الخوري يوسف الشاعر وفاء لذكراه و للمرة الأولى في الأدب اللبناني المراثي التي نظمت فيه واصدرها في كتاب يقع في 76 صفحة طبع في المطبعة العمومية في بيروت عام 1871 بعنوان "مجموع المراثي التي نظمت للسعيد الذكر الحبر الجليل والراعي النبيل المثلث الرحمة المطران طوبيا عون رئيس أساقفة بيروت الكلي الشرف والجزيل الوقار". ويقول المؤرخ الأب ميخائيل غبرئيل ان المطران طوبيا عون هو "أول من جمع مراثي الشعراء فيه وطبعت" مما يعزز من مكانة الخوري يوسف الشاعر الأدبية، علماً انه صدّر هذا الكتاب بمقدمة أورد فيها ترجمة مختصرة لحياة المطران طوبيا عون وضعها تبياناً لأعماله ووفاء له، ألحقها بالقصائد التي وردت له من شعراء وأدباء العصر من بينهم الخوري ارسانيوس الفاخوري، الخوري فرنسيس الشمالي، الخوري يوسف العلم، الخوري اسطفان الشمالي، الخوري نعمة الله فرج صفير، نقولا نقاش، سليم النقاش، المعلم شاكر شقير، المعلم فارس شقير، خليل الخوري، المعلم سليم تقلا، الشيخ نعمان حبيش، المعلم شربل تحومي، المعلم بشارة الشدياق، ويوسف الشلفون…
وبعد هذا العمل الريادي، لحق آخرون بالخوري يوسف الشاعر وقد عمدوا عند حصول مناسبات ذات شأن الى جمع القصائد والكتابات الخاصة بأحد الأدباء البارزين والمعروفين. وفي هذا المضمار صدر عام 1889 عن المطبعة الأدبية في بيروت بهمة بشارة زلزل مجموع "مراثي فرع دوحة الأدب وسليل بيت المكرمة والنسب فقيد الوطن المرحوم المأسوف عليه الشيخ خليل ابن العلامة الطيّب الذكر الشيخ ناصيف اليازجي الشهير تغمدهما الله برحمته ورضوانه". يقع هذا الكتاب في 54 صفحة وقد ضمنه بشارة زلزل في مقدمة قصيرة ما حمله على جمع القصائد ومقالات الصحف قائلاً: "أما بعد، فهذه مراثي غصن الشجرة الزكية اليازجية النضير… الذي قضى في ريعان شبابه وعنفوان أمره غير متجاوز السنة الثالثة والثلاثين من عمره…".
أما ما ورد في هذا الكتاب، فبالإضافة إلى مقالات صحف لسان الحال والمصباح والنشرة الأسبوعية وجريدة الحقائق والأهرام والروادي (وهي الجرائد البارزة تلك الأيام)، ورد تأبين الكاتب عزيز صعب وقصائد الأمير شكيب ارسلان (مدير الغرب) وظاهر خيرالله وأمين خيرالله والياس عون وسليم خوري والياس حنيكاتي وسليمان الحداد وولده نجيب الحداد وولده أمين الحداد والمعلم عبدالله البستاني وخليل مطران ( احد أساتذة المدرسة البطريركية قبل سفره إلى مصر) وشعراء آخرين. وفي هذا السرد لهؤلاء الأعلام إشارة إلى قصائدهم المنسية، وفي بعض الأحيان إشارة الى أدباء وشعراء أصبحوا أيضاً طي النسيان لما يتمتع به مجتمعنا الثقافي المتردي من قلة احترام تراث السابقين.
ومن المؤلفات في النوع نفسه ما وضعه الأديب والمحامي اللبناني المقيم في مصر يوسف اصاف، وهو صاحب نشرات سياسية عدة ذات أهمية عن لبنان منها "مركز لبنان السياسي بمقتضى القانون الدولي"(1920) و"استقلال لبنان" (1920). فعام 1883 عند وفاة احمد فارس الشدياق أصدر كتابه "هو الباقي مجموع المراثي التي وردت نثراً ونظماً عند وفاة العالم العلامة الشيخ الفاضل الجليل المغفور له احمد أفندي فارس (الشدياق) رحمه الله رحمة واسعة." طبع هذا الكتاب في مطبعة جريدة القاهرة الحرة سنة 1305 هجرية أي 1887 ميلادية، وهو يقع في 80 صفحة تضمنت مقالات صحف تلك الأيام في مصر، أي القاهرة الحرة والأهرام والوطن المصرية، وفي لبنان أي ثمرات الفنون وجريدة بيروت ولسان الحال والمصباح وحديقة الأخبار. وورد في الصفحة 30 ما كتب عن وصول نعش احمد فارس الشدياق الى بيروت ونقله الى محلة الحازمية. وتضمن الكتاب أيضا قصائد الشيخ إبرهيم الأحدب والشيخ قاسم الكستي وعبد الرحمن النحاس (نقيب إشراف بيروت) وخليل البربير والأمير شكيب ارسلان وبشارة الشدياق وسليم جدي والشيخ يوسف الأسير وجرجي طراد والفيكونت فيليب نصرالله طرزي واحمد شوقي (من نجباء تلامذة قسم الترجمة في مدرسة الحقوق بمصر كما ورد في التعريف).
ان مراجعة هذه المؤلفات هي لإعادة أحياء تراث مضى يعبّر عن شهادة سياسية وثقافية في القرن التاسع عشر، وهي في مطلق الأحوال سبباً وجيهاً لوضعها في متناول الباحثين والمؤرخين للتعريف ملياً عن ماضي مجتمعنا الثقافي قبل إتيان النسيان على ملامحه وشهاداته.
النهار/هيام جورج ملاط
لذلك رغبنا من خلال مراجعتنا للمؤلفات الصادرة في نشاط الطباعة في لبنان، واستذكاراً لدور الذين اخذوا على عاتقهم بجمع ونشر مصنفات كهذه، إلقاء الضوء على بعض الكتب من هذا النوع التي ميزت الحركة الأدبية في لبنان خلال القرن التاسع عشر، خصوصاً انه يتبين من مراجعتها تضمنها شعراً أو نثراً لكبار الأدباء والشعراء في ذاك العصر مما يقدم المزيد من المعرفة والاطلاع على أدبهم ودورهم في مجتمع تلك الأيام. فللمؤلفات هذه قيمة مضافة تاريخية لأنها تؤرخ لحقبة منسية من الزمن الأدبي اللبناني.
وبالعودة الى المؤلفات والدراسات الموثوق بها، يتبين ان أول من أقدم على جمع المراثي بوفاة شخصيات بارزة في تاريخ لبنان الديني والسياسي والأدبي هو الخوري يوسف الشاعر (1833 -1888)، وهو من مواليد دلبتا (كسروان) وكان نائباً أسقفيا على أبرشية بيروت بين 1859 و 1871، ومن ثم قاضياً رئيساً لمحكمة كسروان بين 1875 و1883، اي حتى قيام المتصرف واصا باشا بعزله لإنهاء التقليد التاريخي الذي كان يجيز ان يتولى الخوارنة رئاسة محاكم جبل لبنان. فعلى اثر وفاة المطران طوبيا عون راعي أبرشية بيروت عام 1871، جمع الخوري يوسف الشاعر وفاء لذكراه و للمرة الأولى في الأدب اللبناني المراثي التي نظمت فيه واصدرها في كتاب يقع في 76 صفحة طبع في المطبعة العمومية في بيروت عام 1871 بعنوان "مجموع المراثي التي نظمت للسعيد الذكر الحبر الجليل والراعي النبيل المثلث الرحمة المطران طوبيا عون رئيس أساقفة بيروت الكلي الشرف والجزيل الوقار". ويقول المؤرخ الأب ميخائيل غبرئيل ان المطران طوبيا عون هو "أول من جمع مراثي الشعراء فيه وطبعت" مما يعزز من مكانة الخوري يوسف الشاعر الأدبية، علماً انه صدّر هذا الكتاب بمقدمة أورد فيها ترجمة مختصرة لحياة المطران طوبيا عون وضعها تبياناً لأعماله ووفاء له، ألحقها بالقصائد التي وردت له من شعراء وأدباء العصر من بينهم الخوري ارسانيوس الفاخوري، الخوري فرنسيس الشمالي، الخوري يوسف العلم، الخوري اسطفان الشمالي، الخوري نعمة الله فرج صفير، نقولا نقاش، سليم النقاش، المعلم شاكر شقير، المعلم فارس شقير، خليل الخوري، المعلم سليم تقلا، الشيخ نعمان حبيش، المعلم شربل تحومي، المعلم بشارة الشدياق، ويوسف الشلفون…
وبعد هذا العمل الريادي، لحق آخرون بالخوري يوسف الشاعر وقد عمدوا عند حصول مناسبات ذات شأن الى جمع القصائد والكتابات الخاصة بأحد الأدباء البارزين والمعروفين. وفي هذا المضمار صدر عام 1889 عن المطبعة الأدبية في بيروت بهمة بشارة زلزل مجموع "مراثي فرع دوحة الأدب وسليل بيت المكرمة والنسب فقيد الوطن المرحوم المأسوف عليه الشيخ خليل ابن العلامة الطيّب الذكر الشيخ ناصيف اليازجي الشهير تغمدهما الله برحمته ورضوانه". يقع هذا الكتاب في 54 صفحة وقد ضمنه بشارة زلزل في مقدمة قصيرة ما حمله على جمع القصائد ومقالات الصحف قائلاً: "أما بعد، فهذه مراثي غصن الشجرة الزكية اليازجية النضير… الذي قضى في ريعان شبابه وعنفوان أمره غير متجاوز السنة الثالثة والثلاثين من عمره…".
أما ما ورد في هذا الكتاب، فبالإضافة إلى مقالات صحف لسان الحال والمصباح والنشرة الأسبوعية وجريدة الحقائق والأهرام والروادي (وهي الجرائد البارزة تلك الأيام)، ورد تأبين الكاتب عزيز صعب وقصائد الأمير شكيب ارسلان (مدير الغرب) وظاهر خيرالله وأمين خيرالله والياس عون وسليم خوري والياس حنيكاتي وسليمان الحداد وولده نجيب الحداد وولده أمين الحداد والمعلم عبدالله البستاني وخليل مطران ( احد أساتذة المدرسة البطريركية قبل سفره إلى مصر) وشعراء آخرين. وفي هذا السرد لهؤلاء الأعلام إشارة إلى قصائدهم المنسية، وفي بعض الأحيان إشارة الى أدباء وشعراء أصبحوا أيضاً طي النسيان لما يتمتع به مجتمعنا الثقافي المتردي من قلة احترام تراث السابقين.
ومن المؤلفات في النوع نفسه ما وضعه الأديب والمحامي اللبناني المقيم في مصر يوسف اصاف، وهو صاحب نشرات سياسية عدة ذات أهمية عن لبنان منها "مركز لبنان السياسي بمقتضى القانون الدولي"(1920) و"استقلال لبنان" (1920). فعام 1883 عند وفاة احمد فارس الشدياق أصدر كتابه "هو الباقي مجموع المراثي التي وردت نثراً ونظماً عند وفاة العالم العلامة الشيخ الفاضل الجليل المغفور له احمد أفندي فارس (الشدياق) رحمه الله رحمة واسعة." طبع هذا الكتاب في مطبعة جريدة القاهرة الحرة سنة 1305 هجرية أي 1887 ميلادية، وهو يقع في 80 صفحة تضمنت مقالات صحف تلك الأيام في مصر، أي القاهرة الحرة والأهرام والوطن المصرية، وفي لبنان أي ثمرات الفنون وجريدة بيروت ولسان الحال والمصباح وحديقة الأخبار. وورد في الصفحة 30 ما كتب عن وصول نعش احمد فارس الشدياق الى بيروت ونقله الى محلة الحازمية. وتضمن الكتاب أيضا قصائد الشيخ إبرهيم الأحدب والشيخ قاسم الكستي وعبد الرحمن النحاس (نقيب إشراف بيروت) وخليل البربير والأمير شكيب ارسلان وبشارة الشدياق وسليم جدي والشيخ يوسف الأسير وجرجي طراد والفيكونت فيليب نصرالله طرزي واحمد شوقي (من نجباء تلامذة قسم الترجمة في مدرسة الحقوق بمصر كما ورد في التعريف).
ان مراجعة هذه المؤلفات هي لإعادة أحياء تراث مضى يعبّر عن شهادة سياسية وثقافية في القرن التاسع عشر، وهي في مطلق الأحوال سبباً وجيهاً لوضعها في متناول الباحثين والمؤرخين للتعريف ملياً عن ماضي مجتمعنا الثقافي قبل إتيان النسيان على ملامحه وشهاداته.
النهار/هيام جورج ملاط