لفتني غلاف أحد الأعداد الحديثة لمجلة "لو كورييه انترناسيونال"، كان يحمل عنوان "طغيان الشفافية"، ويتناول مسألة الحدود الملتبسة، والجدلية، بين الحياتين الخاصة والعامة، ويُظهر قبضة يد تخرج منها عين مخيفة، راعبة، هي من دون شك "عين الرقيب"، أو كل عين لا شأن لها بما نحن فيه، وتلاحقنا.
لطالما تساءلت، في غمر ما يشهده عالمنا الحديث من نزعات استعرائية، على شاشة التلفزيون ومواقع الانترنت خصوصاً، ولكن في الميادين كافة ايضاً وايضاً، أين تنتهي حرية الإنسان الشخصية، وأين تبدأ مسؤوليته ووجوب تعرّضه للمحاسبة. يزداد الأمر تعقيداً من دون شك عندما نفكّر في المسألة من وجهة النظر السياسية، وضرورة تقديم الزعماء والسياسيين جردات حساب، معنوية اولا، وبراغماتية ثانيا، لناخبيهم وللشعب، في ما يتعلق بحيواتهم وسلوكاتهم. ولكن ماذا عن الفرد، الضحية "الجانبية" الكبرى في خضم هذا الصراع؟
لقد دفعني هذا الملف في "لو كورييه انترناسيونال" إلى تذكّر كاتبين مهمين عالجا في كتاباتهما مسألة "العين العليا" التي تنتهك الخاص، وتراقب وتحاسب وتدين، جورج أورويل ("1984") والدوس هاكسلي ("عالم جديد شجاع"). كيف لا، وأعمالهما تبدو كأنها كُتبت للتوّ، بل كأنها حصاد هذا العصر وكوارثه وجرائمه وآفاته وتوتاليتارياته الخفية؟
عام 1948 أنهى أورويل روايته الاخيرة "1984"، التي استوحاها من كتاب "عالم جديد شجاع" لهكسلي، وصوّر فيها يوتوبيته المعكوسة في عالم مستقبلي، واصفا الأخطار المتأتية من الرقابة الاجتماعية والسياسية الخانقة. في هذا النص مرارة حادة تتناسب مع أجواء الرواية المتمحورة خصوصا حول موت الانسان روحياً. الكتاب يبدو أكثر فأكثر، يوماً بعد يوم، نبوءة عارية وفجة، من دون أي مساومة ولا تمويه، تفضح سياسة الرقابة والتنصّت واجتياح العام للخاص وانسحاق حرية الفرد في مجتمع استخباراتي موحّد يخضع لسيطرة "الأخ الأكبر": رقيبٌ يشرف على تجريد الناس من اي مشاعر لكي يدوسوا على احلامهم ومثالياتهم وتوقهم الطبيعي الى الحرية والى عيش حيواتهم مثلما يحلو لهم، في إطار احترام حرية الآخر.
"الحرية عبودية، والجهل قوة": هذه هي المبادئ التي ينادي بها الأخ الأكبر. أما مهمّته فاغتيال حرية التعبير وتجميد الذاكرة وشلّ القدرة على التفكير المستقل وممارسة الرقابة على الحيوات الخاصة، إلى جانب الرقابة على الكتب والصحف والأعمال الفنية التي لا تتماشى مع السياسة الرسمية. هل يذكّركم الأمر بشيء؟
صحيح ان الانسانية خرجت سالمة – ربما- من عام 1984، لكن النبوءة نبوءة حتى عندما لا تتحقق. فكيف عندما تتحقق فعلاً، على ما نحن شاهدون اليوم؟ اذ ان "الأخ الاكبر" يراقبنا فعلا، وينتهك حميميتنا باستمرار، أكان يتخذ شكل برنامج تلفزيوني ام صحيفة صفراء ام نظام سياسي ام شركة عالمية ام حركة اصولية ام الرقابة المدسوسة في الانترنت. لا شك في أننا نعيش في عالم من الكذب المريع تُحوَّر فيه الوقائع والحقائق، تماشيا مع حدس نيتشه حين قال: "ليس ثمة وقائع، بل تفسيرات فحسب". لا شك أيضا، وهنا الطامة الكبرى، في أن ميل الناس إلى امتصاص ما يقدَّم اليهم من أكاذيب وتلفيقات، يزداد، في حين تنخفض لديهم في شكل خطير القدرة النقدية وموهبة المساءلة الحيوية. أما "التفكير المزدوج" الذي تحدّث عنه اورويل، فقد انتصر فعلا على طول الخط من اقصى الأرض الى ادناها، هذي الأرض التي نعيش فيها مخنوقين بحملات الدعاية والترويج الكاذبة تحت أنظار "أشقاء كبار" ينمون ويتكاثرون بطغيانهم يوما بعد يوم، تحت حجة "الشفافية".
سؤال أول: هل نريد حقاً أن نكون "شفّافين"؟ ولماذا؟
سؤال أخير: ترى متى ينتهي عام 1984؟
جمانة حداد
لقد دفعني هذا الملف في "لو كورييه انترناسيونال" إلى تذكّر كاتبين مهمين عالجا في كتاباتهما مسألة "العين العليا" التي تنتهك الخاص، وتراقب وتحاسب وتدين، جورج أورويل ("1984") والدوس هاكسلي ("عالم جديد شجاع"). كيف لا، وأعمالهما تبدو كأنها كُتبت للتوّ، بل كأنها حصاد هذا العصر وكوارثه وجرائمه وآفاته وتوتاليتارياته الخفية؟
عام 1948 أنهى أورويل روايته الاخيرة "1984"، التي استوحاها من كتاب "عالم جديد شجاع" لهكسلي، وصوّر فيها يوتوبيته المعكوسة في عالم مستقبلي، واصفا الأخطار المتأتية من الرقابة الاجتماعية والسياسية الخانقة. في هذا النص مرارة حادة تتناسب مع أجواء الرواية المتمحورة خصوصا حول موت الانسان روحياً. الكتاب يبدو أكثر فأكثر، يوماً بعد يوم، نبوءة عارية وفجة، من دون أي مساومة ولا تمويه، تفضح سياسة الرقابة والتنصّت واجتياح العام للخاص وانسحاق حرية الفرد في مجتمع استخباراتي موحّد يخضع لسيطرة "الأخ الأكبر": رقيبٌ يشرف على تجريد الناس من اي مشاعر لكي يدوسوا على احلامهم ومثالياتهم وتوقهم الطبيعي الى الحرية والى عيش حيواتهم مثلما يحلو لهم، في إطار احترام حرية الآخر.
"الحرية عبودية، والجهل قوة": هذه هي المبادئ التي ينادي بها الأخ الأكبر. أما مهمّته فاغتيال حرية التعبير وتجميد الذاكرة وشلّ القدرة على التفكير المستقل وممارسة الرقابة على الحيوات الخاصة، إلى جانب الرقابة على الكتب والصحف والأعمال الفنية التي لا تتماشى مع السياسة الرسمية. هل يذكّركم الأمر بشيء؟
صحيح ان الانسانية خرجت سالمة – ربما- من عام 1984، لكن النبوءة نبوءة حتى عندما لا تتحقق. فكيف عندما تتحقق فعلاً، على ما نحن شاهدون اليوم؟ اذ ان "الأخ الاكبر" يراقبنا فعلا، وينتهك حميميتنا باستمرار، أكان يتخذ شكل برنامج تلفزيوني ام صحيفة صفراء ام نظام سياسي ام شركة عالمية ام حركة اصولية ام الرقابة المدسوسة في الانترنت. لا شك في أننا نعيش في عالم من الكذب المريع تُحوَّر فيه الوقائع والحقائق، تماشيا مع حدس نيتشه حين قال: "ليس ثمة وقائع، بل تفسيرات فحسب". لا شك أيضا، وهنا الطامة الكبرى، في أن ميل الناس إلى امتصاص ما يقدَّم اليهم من أكاذيب وتلفيقات، يزداد، في حين تنخفض لديهم في شكل خطير القدرة النقدية وموهبة المساءلة الحيوية. أما "التفكير المزدوج" الذي تحدّث عنه اورويل، فقد انتصر فعلا على طول الخط من اقصى الأرض الى ادناها، هذي الأرض التي نعيش فيها مخنوقين بحملات الدعاية والترويج الكاذبة تحت أنظار "أشقاء كبار" ينمون ويتكاثرون بطغيانهم يوما بعد يوم، تحت حجة "الشفافية".
سؤال أول: هل نريد حقاً أن نكون "شفّافين"؟ ولماذا؟
سؤال أخير: ترى متى ينتهي عام 1984؟
جمانة حداد