لا يمكن عزل اللقاء الماروني الذي انعقد الاسبوع الفائت في بكركي عن مسار تفاعلي تشهده الطائفة المارونية منذ اعوام، وصولاً الى نقطة التحول الأبرز في خطابها السياسي والوطني منذ انتخاب البطريرك
مار بشارة بطرس الراعي على رأس الكنيسة. كما لا يمكن فصل ما حدث اخيرا عن المتغيرات التي تشهدها الدوائر الرهبانية والاكليريكية والسياسية، والذي يضاف الى المشهد السياسي الذي يتخبط به اركان الطائفة في علاقتهم المتبدلة مع الطوائف الاسلامية.
فاللقاء بما انتجه من رسم حدود جديدة تحوّل مادة دسمة للنقاشات في دوائر الانتليجنسيا المارونية، التي لا تزال تناقش وتحلل بعيدا من الانفعالات السياسية تحت وطأة قانون الانتخاب الذي يريد منه اعضاء اللقاء الماروني ان يعيدهم الى مجلس النواب بأي ثمن. فهذه الدوائر لا تزال تتحدث عن الدور الحقيقي للموارنة في اللحظة التاريخية المفصلية، عبر مشروع مدروس وحقيقي مرتكز على الدراسات والابحاث وليس على الانفعالات تحت وطأة الحدث السوري واحتمال المس بوادي النصارى في سوريا. وتعيد النقاشات التذكير بمراكز الابحاث التي كانت تقودها جامعة الروح القدس الكسليك بقيادة الأباتي بولس نعمان، وصولا الى ابحاث "بيت المستقبل" في عهد الرئيس امين الجميل، كمفصلين حقيقيين ساهما في صوغ قاعدة معلومات اساسية في ذلك الحين. واستطرادا فان الكنيسة اليوم التي تطلق اليوم مراكز ابحاث ودراسات لا تزال بعيدة عن استخدام قاعدة المعلومات هذه في صوغ مشروع متكامل قائم على توجه شامل غير مبني على حسابات القيادات السياسية التي لكل منها مصلحة في مشروع خاص مختلف عن الاخر.
يروي احد الذين عاصروا مرحلة الثمانينات انه حين وقع الاختيار على بشير الجميل رئيساً للجمهورية، كان السبب الرئيسي في المفاضلة بينه وبين اقرانه من القادة الموارنة الصاعدين آنذاك، انه كان قادرا على العمل المتواصل خلال 24 ساعة. لكن ايصال الجميل لم يكن ليتم لو لم تكن وراءه مجموعة عمل ومكاتب تواصل ودراسات وصولاً الى الحملة الاعلامية المنسقة. اما ما يحصل اليوم، فهو عكس التيار تماما، اذ ان الاطلالات الاعلامية واللقاءات والدعوات الاجتماعية هي التي تسبق او حتى تحل مكان اي خطة لمقاربة مشروع ماروني متكامل بحجم قانون الانتخاب، وصولاً الى التعيينات، وحق المغتربين في الاقتراع واستعادة الجنسية، الى قانون الايجارات ورفع الحد الادنى للاجور. فأي استراتيجية اليوم لتعيين رئيس مجلس القضاء الاعلى، ما دام ارفع اسمين اي القاضية اليس شبطيني والقاضي طنوس مشلب، يتعرضان لحملة من الافرقاء المسيحيين انفسهم، فقط لان احدهما مدعوم من رئيس الجمهورية والثاني من العماد ميشال عون. في حين ان "حزب الله" لا يريد شبطيني كما لا يريد النائب وليد جنبلاط مشلب، لانه يفضل ان يأتي احد ابناء الشوف في منصب رفيع، من تحت عباءته.
وخطورة اللقاء الاخير في بكركي، بحسب هذه الدوائر، انه يذكّر باجتماعين مارونيين كبيرين حصلا في بكركي في مناسبتين تاريخيتين، لكنهما اديا عكس ما هو مرجو منهما تماما. ففي عام 1988، وعشية الاستحقاق الرئاسي شهدت بكركي اجتماعات مارونية موسعة، تحضيرا لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وبعد زيارات مكوكية للرئيس امين الجميل الى دمشق، وتبليغات الموفد الاميركي ريتشارد مورفي بخيار "مخايل ضاهر أو الفوضى"، ذهب الموارنة الى الفراغ الرئاسي، الذي انتهى بما آلت اليه الامور من حروب انتهت بتوقيع اتفاق الطائف. وهو اتفاق لم يكن ليأتي على هذه الصيغة التي يرى العماد عون انها قللت صلاحيات رئيس الجمهورية، لو كان في سدة الرئاسة رئيس ماروني يحتاج إمرار اي اتفاق الى توقيعه.
عام 1992، تكرر المشهد الماروني في بكركي. اجتمع الموارنة قيادات ونوابا، واتخذوا قرار مقاطعة الانتخابات النيابية والخروج من السلطة. وهو خيار لا يزالون يدفعون ثمنه حتى اليوم، ويجتمعون في بكركي للمرة الثالثة من اجل رسم استراتيجية للخلاص منه. فهل يُكتب للقاء الماروني النهاية ذاتها؟
لم تكن الحملة الاعلامية والسياسية التي تعرض لها لقاء بكركي، لتنتهي لو لم يكن ثمة قرار من جانب قيادات 8 و14 آذار من غير المسيحيين بانهائها. لكن مفاعيل ما حصل لم تنتهِ بعد، تماما كما الحملة التي تعرض لها قانون استعادة الجنسية من مفتي جبل لبنان الشيخ محمد علي الجوزو. ومشكلة الخطأ التاريخي في لقاء الموارنة، انهم ذهبوا في المنحى الذي رسم لهم، فغرقوا فيه. والاخطاء التاريخية لا يمكن ان تمحى بشحطة قلم. وما حصل في بكركي لا يمكن تحميل اي طرف اسلامي مسؤوليته مهما كان نوع التجاوزات السياسية التي ارتكبها.
فجنبلاط الذي يمثل في بلد الاقليات الطائفة الاقل عددا تمكن بفضل زعامته من الوقوف ضد مشروع النسبية الذي ايده المسيحيون مما ادى الى طيه، كما ضد اي مشروع آخر خارج القضاء الذي يمكّنه من ان يكون متحكما بنواب الشوف وعاليه. في المقابل، فان طرح المشروع الارثوذكسي على الطاولة، هدف الى سحب الموارنة اليه، ليرفعوا السقف عاليا معه، حتى يصلوا اخيرا الى مشروع القضاء الذي يرفضونه اليوم، بعدما اعتبروا انهم حققوا ربحا صافيا فيه حين عادوا من اتفاق الدوحة. آنذاك، نصح خبراء موثوف بهم في القوانين الانتخابية عون والكنيسة بعدم القبول بقانون 1960 ولو معدلاً، لان الغاية المرجوة منه ابان الوجود السوري ، انتفت بعد خروج القوات السورية. وها هم الموارنة اليوم يرفضون القانون المبني على القضاء، ليصلوا الى نقطة اللاعودة من دون مشروع واضح. والخشية ان يقدموا بعد ذلك على تنازل جديد اسوة بما حدث عامي 1988 و1992.
لكن المفارقة الاهم ان الموارنة يخوضون مرة اخرى معركة مصيرية من دون استراتيجية، فالملاحظات على اداء الحلفاء السنة والشيعة كبيرة، وسبق ان قيلت قبل اجتماع بكركي. لكن المشكلة ان المعالجة قفزت فوق التحالفات التي اسست سواء في ورقة التفاهم بين "حزب الله" وعون او بين قيادة "المستقبل" و"القوات اللبنانية"، وجعلت صور الدكتور سمير جعجع ترتفع في الضنية، او العلم البرتقالي في الضاحية، لتعيد رسم حالة تقوقع لا تلائمها الظروف الاقليمية. الا اذا كان ثمة رهانات على مشروع شرق اوسط جديد يعيد فرز دويلات طائفية. وهنا خطورة ان يعيد بعض الموارنة الرهان على متغيرات غير مدروسة، ناتجة من احاديث تدور في صالونات سياسية. اما الخبر الاكيد فإما موجود في بئر العبد او في "بيت الوسط"، الذي يزوره السفير جيفري فيلتمان ولو كان صاحبه في السعودية.
فاللقاء بما انتجه من رسم حدود جديدة تحوّل مادة دسمة للنقاشات في دوائر الانتليجنسيا المارونية، التي لا تزال تناقش وتحلل بعيدا من الانفعالات السياسية تحت وطأة قانون الانتخاب الذي يريد منه اعضاء اللقاء الماروني ان يعيدهم الى مجلس النواب بأي ثمن. فهذه الدوائر لا تزال تتحدث عن الدور الحقيقي للموارنة في اللحظة التاريخية المفصلية، عبر مشروع مدروس وحقيقي مرتكز على الدراسات والابحاث وليس على الانفعالات تحت وطأة الحدث السوري واحتمال المس بوادي النصارى في سوريا. وتعيد النقاشات التذكير بمراكز الابحاث التي كانت تقودها جامعة الروح القدس الكسليك بقيادة الأباتي بولس نعمان، وصولا الى ابحاث "بيت المستقبل" في عهد الرئيس امين الجميل، كمفصلين حقيقيين ساهما في صوغ قاعدة معلومات اساسية في ذلك الحين. واستطرادا فان الكنيسة اليوم التي تطلق اليوم مراكز ابحاث ودراسات لا تزال بعيدة عن استخدام قاعدة المعلومات هذه في صوغ مشروع متكامل قائم على توجه شامل غير مبني على حسابات القيادات السياسية التي لكل منها مصلحة في مشروع خاص مختلف عن الاخر.
يروي احد الذين عاصروا مرحلة الثمانينات انه حين وقع الاختيار على بشير الجميل رئيساً للجمهورية، كان السبب الرئيسي في المفاضلة بينه وبين اقرانه من القادة الموارنة الصاعدين آنذاك، انه كان قادرا على العمل المتواصل خلال 24 ساعة. لكن ايصال الجميل لم يكن ليتم لو لم تكن وراءه مجموعة عمل ومكاتب تواصل ودراسات وصولاً الى الحملة الاعلامية المنسقة. اما ما يحصل اليوم، فهو عكس التيار تماما، اذ ان الاطلالات الاعلامية واللقاءات والدعوات الاجتماعية هي التي تسبق او حتى تحل مكان اي خطة لمقاربة مشروع ماروني متكامل بحجم قانون الانتخاب، وصولاً الى التعيينات، وحق المغتربين في الاقتراع واستعادة الجنسية، الى قانون الايجارات ورفع الحد الادنى للاجور. فأي استراتيجية اليوم لتعيين رئيس مجلس القضاء الاعلى، ما دام ارفع اسمين اي القاضية اليس شبطيني والقاضي طنوس مشلب، يتعرضان لحملة من الافرقاء المسيحيين انفسهم، فقط لان احدهما مدعوم من رئيس الجمهورية والثاني من العماد ميشال عون. في حين ان "حزب الله" لا يريد شبطيني كما لا يريد النائب وليد جنبلاط مشلب، لانه يفضل ان يأتي احد ابناء الشوف في منصب رفيع، من تحت عباءته.
وخطورة اللقاء الاخير في بكركي، بحسب هذه الدوائر، انه يذكّر باجتماعين مارونيين كبيرين حصلا في بكركي في مناسبتين تاريخيتين، لكنهما اديا عكس ما هو مرجو منهما تماما. ففي عام 1988، وعشية الاستحقاق الرئاسي شهدت بكركي اجتماعات مارونية موسعة، تحضيرا لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وبعد زيارات مكوكية للرئيس امين الجميل الى دمشق، وتبليغات الموفد الاميركي ريتشارد مورفي بخيار "مخايل ضاهر أو الفوضى"، ذهب الموارنة الى الفراغ الرئاسي، الذي انتهى بما آلت اليه الامور من حروب انتهت بتوقيع اتفاق الطائف. وهو اتفاق لم يكن ليأتي على هذه الصيغة التي يرى العماد عون انها قللت صلاحيات رئيس الجمهورية، لو كان في سدة الرئاسة رئيس ماروني يحتاج إمرار اي اتفاق الى توقيعه.
عام 1992، تكرر المشهد الماروني في بكركي. اجتمع الموارنة قيادات ونوابا، واتخذوا قرار مقاطعة الانتخابات النيابية والخروج من السلطة. وهو خيار لا يزالون يدفعون ثمنه حتى اليوم، ويجتمعون في بكركي للمرة الثالثة من اجل رسم استراتيجية للخلاص منه. فهل يُكتب للقاء الماروني النهاية ذاتها؟
لم تكن الحملة الاعلامية والسياسية التي تعرض لها لقاء بكركي، لتنتهي لو لم يكن ثمة قرار من جانب قيادات 8 و14 آذار من غير المسيحيين بانهائها. لكن مفاعيل ما حصل لم تنتهِ بعد، تماما كما الحملة التي تعرض لها قانون استعادة الجنسية من مفتي جبل لبنان الشيخ محمد علي الجوزو. ومشكلة الخطأ التاريخي في لقاء الموارنة، انهم ذهبوا في المنحى الذي رسم لهم، فغرقوا فيه. والاخطاء التاريخية لا يمكن ان تمحى بشحطة قلم. وما حصل في بكركي لا يمكن تحميل اي طرف اسلامي مسؤوليته مهما كان نوع التجاوزات السياسية التي ارتكبها.
فجنبلاط الذي يمثل في بلد الاقليات الطائفة الاقل عددا تمكن بفضل زعامته من الوقوف ضد مشروع النسبية الذي ايده المسيحيون مما ادى الى طيه، كما ضد اي مشروع آخر خارج القضاء الذي يمكّنه من ان يكون متحكما بنواب الشوف وعاليه. في المقابل، فان طرح المشروع الارثوذكسي على الطاولة، هدف الى سحب الموارنة اليه، ليرفعوا السقف عاليا معه، حتى يصلوا اخيرا الى مشروع القضاء الذي يرفضونه اليوم، بعدما اعتبروا انهم حققوا ربحا صافيا فيه حين عادوا من اتفاق الدوحة. آنذاك، نصح خبراء موثوف بهم في القوانين الانتخابية عون والكنيسة بعدم القبول بقانون 1960 ولو معدلاً، لان الغاية المرجوة منه ابان الوجود السوري ، انتفت بعد خروج القوات السورية. وها هم الموارنة اليوم يرفضون القانون المبني على القضاء، ليصلوا الى نقطة اللاعودة من دون مشروع واضح. والخشية ان يقدموا بعد ذلك على تنازل جديد اسوة بما حدث عامي 1988 و1992.
لكن المفارقة الاهم ان الموارنة يخوضون مرة اخرى معركة مصيرية من دون استراتيجية، فالملاحظات على اداء الحلفاء السنة والشيعة كبيرة، وسبق ان قيلت قبل اجتماع بكركي. لكن المشكلة ان المعالجة قفزت فوق التحالفات التي اسست سواء في ورقة التفاهم بين "حزب الله" وعون او بين قيادة "المستقبل" و"القوات اللبنانية"، وجعلت صور الدكتور سمير جعجع ترتفع في الضنية، او العلم البرتقالي في الضاحية، لتعيد رسم حالة تقوقع لا تلائمها الظروف الاقليمية. الا اذا كان ثمة رهانات على مشروع شرق اوسط جديد يعيد فرز دويلات طائفية. وهنا خطورة ان يعيد بعض الموارنة الرهان على متغيرات غير مدروسة، ناتجة من احاديث تدور في صالونات سياسية. اما الخبر الاكيد فإما موجود في بئر العبد او في "بيت الوسط"، الذي يزوره السفير جيفري فيلتمان ولو كان صاحبه في السعودية.
هيام القصيفي / النهار