رحلتي إلى وادي قنّوبين كانت بحثاً عن محابس مغمورة مقدّسة أضاف إليها نسّاك لبنان وقدّيسوه قداسة وصفاءً وصلابة، واستحضروا إليها روح الله وجعلوها مسكناً لهم، وهي ليست شبيهة بمحابس العالم
على حدّ قول الحبيس داريو الذي جزم أنّه لا وجود للنسّاك الحقيقيّين أو للاستحباس الفعليّ سوى في لبنان وفي واديه المقدّس.
غادرت بيروت لأصِل الى دير مار انطونيوس قزحيا نحو الثانية عشرة ظهراً، لعلمي أن الاب جوزف سليمان الذي عايش الاب داريو في «فترة» الابتداء قد سأله مقابلتي، ولكني شعرت بالقلق حين حذرني من خطورة الوصول في مثل هذا الوقت الى المحبسة.
وبعد جولة استكشافية في الدير الذي انتسب اليه الاب الحبيس داريو، تأكدت من انّ الوقت تأخر وكان يجب المجيء باكراً لأن رحلة العودة قد تكون طويلة ومتعبة، بالإضافة الى الضباب واصوات الضباع والخنازير التي من الممكن ان تنشط عصرا وفي بداية المساء، كما قال الاب سليمان.
قصدت مكتبة الدير وفوجئت بمجموعة من الفتية لم تتمكن من مقابلة الحبيس مع انهم طرقوا بابه طويلا وهم مصرون على العودة دائما. لكنه في كل مرة يكون في حالة انخطاف من شدة الصلاة، فلا يفتح لهم الباب ولا يقابلهم.
عدت في الصباح التالي باكرا. رحلة الحج الى المحبسة ليست بالامر السهل. فـ حوقا بالسريانية تعني الدرج، وهي فعلا كذلك اذ انها تقع في منطقة وعرة جدا في وادي قنوبين، وتحديدا دير سيدة حوقا المعلق بين السماء والارض حيث تستحيل الاقامة.
وقد يحتار المرء في تفسير طريقة تشييد الدير في قلب ذلك الجرف الصخري الشاهق من وادي قنوبين الذي لا يمكن الوصول اليه الّا مشياً.
وللدير شرفة مطلة تصل اليها بعد 16 درجة، ويمكن الدخول اليه عبر باب خشبي عتيق تحت قنطرة من الحجر. اما هذه الطبقة فهي تضم كنائس صغيرة لا تتجاوز الواحدة خمسة امتار.
أوّل بَشري التقيته في هذه الرحلة كان الشاب الفرنسي Vincent منسق "كتاب الشرق". وقد كان يلهث من شدة التعب، لأنه يحاول للمرة الثالثة مقابلة الحبيس. ويروي انه في المرة الاولى امضى فترة بعد الظهر ينتظره و"لم يفتح باب المحبسة. اما اليوم وبعد انقضاء ثلاث ساعات فوجىء بهامة بيضاء تشبه القديس شربل تخرج من جحر مع "شوال" على كتفها فهرع اليه…".
شروط الاستقبال هي عدم المكوث طويلا وعدم طرح الكثير من الاسئلة. ولا يحب ان يجلب له احد شيئاً "لأني سأرميه في الوادي لتأكله الحيوانات وتتنعّم".
لا يتكلم الاب داريو العربية لكنه يفهم بعض الكلمات: "مع السلامة" "اهلا وسهلا"، وهو يجيد الفرنسية والانكليزية والاسبانية.
هو بعيد عن وسائل الاتصال ووسائل الاعلام، وهو يؤمن بوعد الاله فقط، وعده للبشرية القائل: اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم.
سألته ماذا تفعل هنا؟ اصحيح انك تشفي البشر؟
اجاب: ليس أنا من يشفي، انما يسوع هو الشافي. كلامه ووعده هما الشافيان.
لمَ يقصدك المؤمنون اذاً؟
اجاب: يجيء الكثير من الاشخاص الذين يضعون صورا لهم ولمعاقين ولخطأة وصورا للبنان، ويطلبون مني الصلاة فأصلي على نيتهم.
وعدد كبير من النساء يقصدنه بغية الحصول على نعمة الحمل. فيطلبن منه الصلاة، ويعدن ليشكرنه على النعمة.
– اتعتقد ان صلواتك هي من اعطتهم هذه النعمة؟
يجيب الاب داريو: ليس من الضروري ان تكون صلاتي هي من اعطتهم النعم. ربما تكون صلاتهم او صلاة مؤمن من اقربائهم قد تكون اكثر فعالية من صلاتي. ولكني بالطبع صليت وتشفعت لهم عند السيدة العذراء ويسوع ومار شربل، ولكن هذا لا يكفي، لأنهم اذا لم يتسلحوا بالايمان وبجوهر طاهر فلن ينالوا ما يطلبون. المسيح قال اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم. من يسأل ينل ولكن بقلب صاف وبإيمان مطلق.
اما عن الانجاب فيقول الاب داريو: انها قصة مختلفة وليست كأثاث منزل يقرر الانسان الزمان المناسب له لفرشه. الانجاب هو هدية من الله وليس حقا مكتسبا للمرء.
لا يمكن للانسان ان يقول: اريد ان انجب طفلا، ليس هو من يريد. فالله وحده قادر على هكذا عطية. سر الانجاب هو عطية من الله، ويلزم الانسان الكثير من الصلاة والتوبة كي يستحق هذه العطية السامية. يمكن للمرء ان يكون مؤمنا وان يصلي كثيرا، فالصلاة تصنع المستحيل، ولكنه ليس بالضرورة ان يحصل على نعمة الانجاب لأن للرب مفهوماً مغايراً لمفهوم البشر، وربما وجد ان هذا المؤمن وبالرغم من إيمانه وصلاته، ليس مهيئا بعد، ولم يحن الوقت لأن يكون أباً، او يرى الرب انه ربما لو تمّت نعمة الانجاب سيترتب عنها ظروف اشد خطورة على حياته ومستقبله.
ولذلك، ارتأى الله ان يبقي هذا الانسان على حاله… ويرجىء استجابة طلبه حتى تحين الساعة المثلى… لمنطق الرب مفهوم لا يمكن للبشر فهمه… الا اذا ذابت انفسهم في كيان الله.
يتابع الحبيس: "اذا تجوّلت حول المغارة وجدت الملايين من قصيصات الاوراق، وكلها صلوات لملايين الاشخاص الذين اتوا وصلوا فيها، وهذه الاوراق تخبر قصصهم ودعواتهم وطلباتهم. قابلت القليل منهم، اما العدد الاكبر فلم اقابله، لأن اوقات فراغي قليلة".
سألته: كيف تكون قليلة وانت تقيم وحيداً منذ اكثر من عشر سنوات في هذه المغارة بمفردك. ألا تكفيك بضع ساعات للصلاة وتخصّص بضعاً من الساعات الأخرى لمقابلة المؤمنين؟.
اجاب الحبيس وقد عَلت على ثغره ابتسامة طفولية زادت وجهه اشراقاً وعينيه بريقاً: "من يعشق الاخر يسعى الى ان يختلي به دائما"، كما يلزمني الكثير من التخلّي عن الذات ومزاولة الاعمال النسكية كي اتحِد بالرب. فأنا لا ارغب بالكلام ولا اقيم في محبستي جلسات اجتماعية، بل ابغي التعمّق بكلمة الله وليس بكلام البشر. ولكني لا اخفي انني، وفي الساعة التي كرّستها من يومي لتنظيف المغارة، ألتقطُ بعض الاوراق اذا كانت مكتوبة بالاجنبية واقرأ البعض منها واصلي على نيّة طالبيها، طبعا هذا لا يعني انني لا اصلي للذين يكتبون بلغات اخرى.
يضيف ان كتاب "قاديشا" يروي في احد فصوله عن سيرة حياته. ويقول فيه ان امرأة جاءت من فرنسا ودخلت اليه اثناء تأديته للصلاة في المغارة الصغيرة المعتمة، وحين جلست بقربه أحسّت بشعور غير طبيعي وبقدرة عجيبة لمستها من الداخل: "لا ادري اذا ما كان الذي كتب في هذا الكتاب هو حقيقي"، يعلّق الاب داريو واصفاً كيف وضع يداه على رأسها وباركها وصلّى على نيتها.
وكشف انه سيصلي اليوم صلاة خاصة لامرأة قصدته من البرازيل لأن لديها مشكلة معقدة، وهو سيبدأ الصلاة بعد قليل على نيّتها. (لا ادري اذا كان هذا الاعلان قد وَجههه للانسحاب والكف عن طرح الاسئلة)
سألته: ماذا تفعل خلال الـ 24 ساعة بمفردك؟ الا تخاف؟
قال: "الشيطان يتسلّى بي، احيانا يزعجني فقط لكنه لا يردعني عن متابعة صلواتي. فهو يفتح الابواب ويغلقها بقسوة اثناء صلاتي، لكنه جبان وليس قادرا سوى على الازعاج فقط. اما القدرة على التغيير فهي ملك للرب وحده".
وهنا كشف الحبيس كوع ثوبه الممزق قائلاً انه أمس وأثناء اهتمامه بالزرع والحقول زَلّت رجله وهوى في الوادي ولا يدري كيف وُجِد حبل لم يره من قبل، تمسّك به وخَلّص من الموت الاكيد. وبرأي الاب داريو ان الشيطان اوقع به، لكن الله كالعادة كان موجودا لحمايته. فقلت له اخبرني حادثة أثّرت فيك واعدك بعدها انني سأغادر المكان "هاي وخَلَص".
ضحك الحبيس من قلبه وربّت على كتفي قائلا: حسناً، سيكون لك ما تريدين شرط ان تعودي يوماً وتخبريني ماذا تغيّر في حياتك بعد هذا اللقاء.
شفاء ماريو الياس
ولمّا اجبته بالموافقة، قال: طبيب من العاصمة بيروت، وهو من عائلة "الياس" يعاين في مستشفيات مهمة في العاصمة، قصدني برفقة ولده "ماريو الياس" المصاب بالسرطان، وكان الاطباء قد عجزوا عن شفائه، وعزم على المجيء عندما سمع عن النعَم التي نالها بعض من معارفه الذين قصدوا المكان.
فقال لي: اريد منك ان تصلي لأجل ولدي "ماريو" الذي اعطاه الاطباء أياماً قليلة فقط للبقاء على قيد الحياة، ولكن الطبيب عاد بعد فترة وجيزة ليقول لي ان ولده قد شفي تماما من المرض، وهو غير مصدّق حتى الآن بعدما كانت الفحوصات قد اكدت أنه لن يعيش اكثر من اسابيع، وقد جاء برفقه ماريو ليشكرني ويطلب البركة مجددا.
أحقاً يمكنك صنع العجائب؟ أتطمح للقداسة؟
ضحك الحبيس مجددا واحتضنني بمحبة قائلا: انت ايضا يمكنك ان تكوني قديسة.
أيمزح النساك ايضا يا أبت؟
استوى الحبيس في جلسته وقد غابت الضحكة فجأة وحلّ مكانها سكون معبّر، وقال: "ليس من الضروري ان تكون صلاتي هي التي شفت ماريو الياس، وليس من الضروري ان تكون صلاة والده! وربما تكون!! وربما يكون رفيق مؤمن صلّى لـ ماريو من قلبه واستجاب الرب لصلواته. فالصلاة يا ابنتي تصنع العجائب".
اما بالنسبة للقداسة فأقول انه لا يلزمنا القيام بأعمال غير اعتيادية او غير طبيعية حتى نكون قديسين. يمكن لأي انسان ان يكون قديساً من خلال تأديته لكل واجباته اليومية بفرح وتفان وصدق ومحبة. فيتقدس يومه ويقدس كل من هو حوله.
المطلوب فقط هو "الارادة". ان يكون لنا ارادة من حديد، والرجاء الذي يطلبه الله من البشر كي يواجهوا الصعاب والامراض غير المتوقعة. والصلاة العميقة يمكنها ان تغيّر المسار والمصير.
ويتابع الحبيس قصصاً كثيرة حصلت وهي مشابهة لقصة الشاب ماريو، وقد نال جميع اصحابها بركة الشفاء ونعمته. ويكشف انه يتساءل احيانا لماذا ترك كل ما يملك ليجيء الى لبنان بغية الاستحباس مع انه كان استاذا في الجامعة ويملك والده مصنع ثلج واموالاً كافية للعيش بالنعيم والترف؟ ولكنه تعرّف الى سيرة القديس شربل وكلّمه يسوع في احد الليالي على حد قوله وطلب منه المجيء الى لبنان لأنّ رسالته هناك… وهكذا كان، وهو اليوم راض ويعيش سلاما داخليا لا يبادله بثروة العالم كلها.
ويضيف الاب داريو: "في هذه المغارة اريد ان ابقى وأموت". لا وجود للنساك الّا في لبنان، على حد قوله، وفي هذا الوادي تحديدا. وهو يستحبس في مغارة سيدة حوقا منذ 12 عاما. ويوجد فقط 3 حبساء على خطى القديس شربل، وهم: الاب يوحنا خوند والحبيس انطون ليشع والاب داريو.
ويخبر عن النساك في استراليا مثلا، وقد قابل احدهم ولاحظ انه يذهب الى المجمعات التجارية للتسوّق، وهذا ما لا يفعله النساك في لبنان مثلا.
كلمة أخيرة قالها الاب داريو: قصدتني امرأة تائبة وقالت لي ان اصلي لها كي ترتدع عن فعل الخطيئة، وان اساعدها على نَيل نعمة الغفران وأباركها فتحلّ عليها نعمة التوبة، وكان لها ما ارادت، الّا انها عادت بعد مدة وقالت لي شكرا يا أبت. ولمّا استوضحتها قالت انها تعرضت لحادث خطير كاد ان يودي بحياتها، وظلت ممدّدة على فراش المستشفى مدة اشهر.
واكثر ما أثر فيّ من هذه السيدة انها استوعبت رسالة الرب، فقالت لي: "لقد ارادني ان اتوقف عن فعل الخطيئة. صحيح انه عرّضني لحادث يؤلم الجسد، ولكنه أراده رسالة ليعيق تحركي ويوقف استمراري عن فعل الخطيئة، اذ انه علم انّ ألم الجسد اخف وطأة على الانسان من الم النفس والروح. لقد خلّص الرب نفسي من خلال هذا الحادث.
وتبسّم الحبيس قبل ان يقف استعدادا لتوديعي، وقال: "انّ فعل المحبة الذي تجسّد في ردة فعل هذه المرأة سيكفل لها غفران الرب والذهاب حتماً الى حضن الآب. فعلينا قراءة مصائبنا انطلاقا من هذا المثل، لأنه لو لم تتعرض هذه المرأة لهذا الحادث الخطير لربما كانت تنتظرها مصائب أقسى واشد ايلاماً".
وقفتُ حائرة ولم يكن لديّ رغبة في ترك المكان، فقلت له ماذا تريدني ان احضر لك في المرة القادمة؟ أتفضّل الحلويات او شيئاً آخر؟
اجاب لا شيء فقط "عودي". لا تحضري شيئا وإلّا سأرميه للحيوانات فتسَرّ به. وهي دائما مسرورة. تصوّري انها لا تشبع. حتى انها تأكل زرعي واحيانا لا اجد شيئا من الحصاد، ولكنني لا أحزن لأنني أعلم انّ الرب يخبىء لي غذاء أشهى وأطيب… وهو غذاء الروح.