إلى إخواننا السادة المطارنة
والرؤساء العامّين والرئيسات العامّات
والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات،
وسائر أبناء وبنات كنيستنا المارونيّة في لبنان والشرق الأوسط وبلدان الانتشار
السلام والبركة الرسولية
مقدّمة
1. ألصوم الكبير رحلة عبور داخليّ نحو الفصح، بالصوم والصلاة والصدقة. وهي أركانٌ ثلاثة للحياة المسيحية مترابطة ومتكاملة، دعا إليها الربّ يسوع، وحدّد شروطها بواحد: أن تكون فعل عبادة وحبّ لله بعيداً عن نظر الناس والتظاهر.
«متى صُمْتَ، فَادْهُنْ رَأْسَكَ، وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِئَلاَّ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّكَ صَائِم، بَلْ لأَبِيكَ الَّذي في الـخَفَاء، وأَبُوكَ الَّذي يَرَى في الـخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيك(متّى 6: 17-18).
مَتَى صَلَّيْتَ، فَادْخُلْ مُخْدَعَكَ وأَغْلِقْ بَابَكَ، وصَلِّ لأَبِيكَ في الـخَفَاء، وأَبُوكَ الَّذي يَرَى في الـخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيك(متّى 6: 6).
مَتَى صَنَعْتَ صَدَقَة، فَلا تَعْلَمْ شِمَالُكَ مَا تَصْنَعُ يَمِينُكَ، لِتَكُونَ صَدَقَتُكَ في الخَفَاء، وأَبُوكَ الَّذي يَرَى في الخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيك(متّى 6: 3-4).
2. يسعدني أن أوجّه إليكم رسالتي الثانية هذه في مناسبة الصوم الكبير لسنة 2013، ونحن في سنة الإيمان التي افتتحها قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في الحادي عشر من تشرين الأوّل بمناسبة مرور خمسين سنة على افتتاح المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، ومرور عشرين سنة على نشر كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية. كما أنّنا في بداية تطبيق الإرشاد الرسولي «الكنيسة في الشرق الأوسط: شركة وشهادة»، مستكملينه بتعليم قداسة البابا في خطاباته ومواعظه التي ألقاها في أثناء زيارته للبنان من 14 إلى 16 أيلول 2012. وإنّنا كذلك في مرحلة الاستعداد «للكرازة الجديدة بالإنجيل» التي انعقدت حولها الجمعيّة العامّة لسينودس الأساقفة في روما خلال شهر تشرين الأوّل الماضي. هذه الأحداث الكنسيّة الثلاثة تضفي على زمن الصوم قيمة مضافة.
وإنّا في هذه الرسالة نعرض قيمة الصوم، ورحلته الدّاخليّة، وفريضته، وتنظيم خدمة المحبة؛ ونتناول بعدها مقتضيات سنة الإيمان، والالتزام بالشركة والشهادة للمحبة.
أوّلاً، قيمة الصوم
3. الصوم فريضة عند جميع الأديان، ويحتلّ مكاناً هامّاً في ممارساتها الدينية إذ تقتضيه دوافع التوبة والنسك والتكفير والحداد والتوسّل إلى الله بتواضع ورجاء، مع الإقرار بضعف الإنسان وبالسموّ الإلهي.
غير أنّ أخطاراً تشوّه ممارسة الصوم وتُفقده قيمته. نذكر منها خطر المتمسّكين بالشكليّات والاكتفاء بها، والمستمرّين في طريق الشرّ والانحراف. هؤلاء يقول عنهم الله بلسان إرميا النبي: «لقد أحبّوا أن يشردوا، ولم يكفوّا أرجلهم… وإذا صاموا فلا أسمع صراخهم، وإذا أصعدوا ذبيحة وتقدمة فلا أرضى عنهم»(إرميا 14: 10-11).
ونذكر خطر الكبرياء والتظاهر، فيكون الصوم للتباهي، فيما داخل القلب متحجّر بالحقد والنوايا السيئة وملطَّخ بأعمال الإثم. لقد ندّد الربّ يسوع بمسلك الّذين، عندما يصومون، «يعبِّسون كالمرائين، فإنّهم ينكِّرون وجوههم ليظهروا للناس أنَّهم صائمون. هؤلاء نالوا أجرَهم»(متى6: 16).
4. من أجل تجنّب السقوط في هذه الأخطار، ولكي لا تؤول ممارسة شريعة الصوم إلى الفساد وإشباع الهوى البشري، يدعو القديس بولس الرسول إلى ربط أمور الصوم والقطاعة بالمسيح وبجسده السرّي، الذي هو الكنيسة(راجع كول 2: 16-23). هذا الربط يعني الدخول في مدرسة التواضع الذي يعلّمنا إيّاه يسوع المسيح: «إحملوا نيري (أي تعليمي) عليكم وتعلّموا مني أنّي وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم»(متى11: 29)؛ ويعني أيضاً المشاركة في آلام المسيح التكفيريّة عن خطايانا الشخصية وخطايا جميع النّاس؛ كما يعني تغليب الإرادة الحرّة على عبوديّة النزوات والتجارب والميول المنحرفة. ويقتضي هذا الربط أن نضمّ إلى ممارسة الصوم، الصلاة التي تجعل منه وممّا يرافقه من إماتة وتقشّف قرابين روحية وأفعال عبادة تستمدُّ قيمتَها وقوَّتها من اللّيتورجيّا الإلهية المعروفة بذبيحة القداس، والصدقة بأفعال محبّة تجاه كلِّ محتاج، مادّياً ومعنويّاً وروحيّاً، بحيث يستطيع أن ينمو بشخصه نموًّا شاملاً.
إنّ حرمان الذات بالصوم عن المأكل والمشرب، يفتح القلب والعقل على المحتاج، فنعمل على مساعدته. أمّا الصلاة التي ترفع النفس والعقل والقلب إلى الله فإنّها تجعلنا نرى حاجات إخوتنا وإخواتنا.
الصلاة والصوم هما أساسُ الصدقة ومصدر معناها وقيمتها، ويجعلانها كأنَّها معمولة حبّاً بالله، ولشخص المسيح: «كنت جائعاً فأطعمتموني…(متى 25: 35-36). بهذا المعنى ردّدت الطوباوية الأمّ تريزا دي كالكوتّا: «مَن لا يعطي الله يعطي قليلاً. والصدقة تجعلنا نجد الله في وجه المسيح الرحوم، علماً أنَّ فقرَ الشعوب الأساسي هو عدمُ معرفة يسوع».
5. يسوع المسيح هو قاعدةُ صومنا. لقد صام أربعينَ يوماً عائشاً منفرداً ومتفرّداً في الصلاة. فانتصر على تجاربِ الشيطان الذي امتحنَه ثلاثَ مرّات ليزيغه عن موقفه البنويّ تجاه الله أبيه ورسالة الفداء الموكولة إليه(متى4: 1-11). كلُّ شيء في حياة يسوع علامةٌ لسرّه الذي ينكشف لنا من خلال أقواله وأفعاله ومعجزاته. إنّه ابنُ الله الذي تجسّدَ لخلاصنا، وصار لنا القدوة في كلّ شيء، على ما يقول بطرس الرسول: «لقد ترك لكم قدوة، لتسيروا على خطاه»(1 بطرس2: 21).
كان صيامُه استعداداً لرسالة الفداء، وامتلاءً من كلام الله، ودخولاً واثقاً في تصميم الآب الخلاصي، ما جعله ينتصر على التجارب والصعاب. إنّه بذلك يعلّمنا قيمة الصوم وغايته في حياتنا ومسؤولياتنا.
6. لقد سند يسوع صيامَه بالصلاة إلى الآب، وهي صلاةٌ من القلب تعلَّمَها من مريم أمِّه، وصلاةٌ بنويّة تقبّل فيها كلَّ إرادة الله أبيه، وصلاةُ تأمُّلٍ في التصميم الإلهي للخلاص. وظلّ الربُّ يسوع محافظاً على صلاته للآب قبل كلّ عمل حاسم في رسالته، لاستلهام العضد والنور، وبعد إنجاز كلِّ عمل للشكر والتسبيح. وكان ينفرد في البرية ليصلي، حاملاً البشرية جمعاء في صلاته وتشفُّعِه[1]. في زمن الصوم، الجميع مدعوّون لتكثيفِ صلاتهم الفرديّة والعائليّة، وتلك الجماعيّة في الليتورجيا الإلهيّة.
7. وحصّن صيامَه بالتأمّل في كلام الله، الذي غذّى به نفسه، فيما كان يحرم جسده من الغذاء المادّي. ولهذا، لمّا جرّبه الشيطان، ليُخرجه من جوعه: «إن كُنتَ ابنَ الله، فقلْ كلمةً فتصير هذه الحجارة خبزاً»، أجابَ يسوع: «مكتوبٌ: ليس بالخبزِ وحدَه يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله»(متى 4: 2-4). نحن كلّنا بحاجة، في زمن الصوم، إلى الاغتذاء من كلام الله وتعليم الكنيسة. من أجل هذه الغاية ندعوكم، يا ابناءَ كنيستنا وبناتِها، لقراءة يومية للإنجيل والكتب المقدّسة، وللتأمّل في كلام الله، ولمطالعة الكتبِ الروحية وسِيَر القديسين، ولمتابعة البرامجِ الدينية التي تقدِّمُها وسائلُ الإعلام عامّة، وتلفزيون تلي لوميار ونورسات وإذاعةُ صوت المحبة وتيفي شاريتي خاصّة. وندعوكم بنوع أخصّ للمشاركة في الرياضات الروحية في الرعايا والمدارس والجامعات والأديار وتتويجها بممارسة سرّ التوبة.
8. فبفضل صيامه وصلاته واغتذائه من كلام الله، تمكّن يسوع من الانتصار على تجارب الشيطان الثلاث، التي يمتحن بها العالم، على ما قال يوحنا الرسول: «كلّ ما في العالم إنّما هو شهوة الجسد وشهوة العين وكبرياء الحياة»(1 يو2: 16). جرّبه الشيطان بشهوة الجسد عندما حاول إغراءَه بتحويل الحجارة إلى خبز ليأكل ويكفَّ عن صيامه، فأجابه، كما رأينا، أن «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». وجرّبه بشهوة العين عندما أراه كلّ ممالك العالم ومجدها وأغراه بإعطائه إيّاها من دون عناء الفداء والموت على الصليب، إذا سجد له كأنّه إله. فأجابه يسوع مكتوبٌ: «للربِّ إلهِك تسجد وإيّاهُ وحدَه تعبد». وجرّبه بكبرياء الحياة، عندما أصعدَه إلى جناح الهيكل في المدينة المقدَّسة وأغراه بكلام الله نفسه: «إن كُنْتَ ابن الله، فألقِ بنفسك إلى الأسفل، لأنَّه مكتوب: يوصي ملائكتَه بك فيحملونك على أيديهم، لئلَّا تصدم بحجر رجلك». لكنّ يسوع صدّه بكلام الله نفسه إذ أجابه: «مكتوبٌ ايضاً: لا تجرّبِ الربّ إلهك»(راجع متى 4: 1-11).
9. تعلّم الكنيسة أنّه بسبب الخطيئة الأصليّة وخطايا البشر اكتسب الشيطان شبه سيطرة على الإنسان، وإن لبث حرّاً، وبات العالم تحت سلطان الشرير(1 يو5: 19). فأصبحت حياة الإنسان صراعاً عنيفاً ضدّ الشرير وقوى الظلمة[2]، صراعاً بين الخير والشرّ، بين النور والظلام. لكن المسيح أنقذنا بآلامه من الشيطان والخطيئة، وبقيامته أعطانا الحياة الجديدة في الروح القدس، وقوّة الانتصار بنعمته على الشيطان وحِيَلِه[3].
إنّ صيامَنا وصلاتَنا وتأملنا بكلام الله وسيلةٌ ومناسبة، في زمن الصوم، للإنتصار على تجارب الشيطان التي هي في أساس كلّ شرٍّ فينا وفي مجتمعنا وفي العالم. وهكذا ننعم بثمار الفداء والخلاص. من أجل هذه الغاية ندعوكم لممارسة سرّ التوبة والمشاركة في ليتورجيّات التوبة والمصالحة التي تنظِّمها الرعايا والأديار والمؤسَّسات الكنسيّة. كما ندعو المتخاصمين إلى المصالحة، وفتحِ صفحةٍ جديدة في العيش معاً، إخوة وأخوات، وأبناء وبنات لله.
ثانياً، فريضة الصوم
10. على مثال ربِّنا يسوع المسيح الذي صام أربعين يوماً في البريّة(متى 4: 2)، والرسل، وأبناء الكنيسة الناشئة(أعمال 13: 2-3)، يُدعى كلُّ مسيحي ومسيحية بَلَغَ سنّ السابعة من العمر[4] إلى التقيّد بواجب الصوم والقطاعة.
توجِب الكنيسةُ المقدّسة على كلّ واحدٍ من أبنائها وبناتها، في وصاياها السّبع، أن «يصوم الصوم الكبير وسائر الاصوام المفروضة، وأن ينقطع عن الزفر كلّ يوم جمعة»، تذكاراً لآلام المسيح وموته لفدائنا[5]. وتؤكِّد هذا الواجب في القانون 882 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، وتجدّده في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، كوسيلة للجهاد والتوبة تهيئنا للاشتراك في الأسرار الخلاصيّة ونيل نعمها، وبخاصّة سرّ الإفخارستيا، وتمكّننا من التسلّط على غرائزنا، وامتلاك حريّة القلب[6]. وتدعو الكنيسة إلى تعزيز أوقات للتوبة، وبخاصّة في زمن الصوم الكبير، وإلى المشاركة في الرياضات الروحيّة في الرعايا، وفي ليتورجيّات التوبة، والقيام بزيارات تقويّة، وإتمام أعمال رحمة ومحبة على الصعيدَين الشخصي والجماعي[7].
11. الصوم هو الانقطاع عن الطعام والشراب غير الماء، من نصف الليل إلى نصف النهار. والقطاعة هي الامتناع عن أكل اللحوم وعن البياض (الألبان ومنتجاتها والبيض) في كلّ يوم جمعة على مدار السنة، ما عدا المدّة الواقعة ما بين عيدي الميلاد والغطاس وأحدَي القيامة العنصرة وفي أسبوع المرفع؛ وإذا وقعت فيه الأعياد التالية: الميلاد، ورأس السنة، والغطاس، وعيد الرسولَين بطرس وبولس، وانتقال السيدة العذراء، وارتفاع الصليب، وجميع القديسين، والحبل بلا دنس، وعيد شفيع الرعية.
يبدأ الصوم الكبير يوم الإثنين التالي أحد مدخل الصوم، وهو «اثنين الرماد»، وينتهي يوم السبت السابق لأحد القيامة، فيمتنع المؤمنون والمؤمنات عمّا يقتضيه الصوم والقطاعة ما عدا في أيّام الآحاد والسبوت إلّا السبت المقدّس، المعروف «بسبت النور»، وفي الأعياد الواقعة في أثناء الصوم الكبير وهي: دخول المسيح إلى الهيكل، والقديس مارون، والقديس يوحنا مارون، والأربعين شهيداً، والقديس يوسف، وبشارة مريم العذراء. أمّا ما يختص بالإعفاء من شريعة الصوم والقطاعة، فيستفيد منه المريض والعجوز، مع الاكتفاء بفطور قليل ومتقشّف كافٍ لتناول الدواء. أمّا الذين لا يستطيعون الصيام لأسباب قاهرة، فعليهم استئذان السلطة الكنسيّة المحلّيّة، وطلب مشورة كاهن الرعية ومرشد الاعتراف في الأمر وفي كيفية التعويض.
إننا نذكّر، في المناسبة، بالعادة التقوية الحميدة التي أقرّتها المجامع المسكونية الأولى، وأوصى بها المجمع اللبناني، وحافظ عليها آباؤنا وأجدادنا، وهي ممارسة صوم ميلاد سيدنا يسوع المسيح من 16 إلى 24 كانون الأوّل؛ وصوم الرسولَين بطرس وبولس من 25 إلى 28 حزيران؛ وصوم انتقال العذراء القديسة من 7 إلى 14 آب. إننا ندعو إلى ممارسة هذه العادة الروحية الحميدة من أجل السلام في لبنان ومنطقتنا الشرق أوسطية.
ثالثاً، رحلة الصوم الداخلية
12. الصوم الكبير رحلة داخليّة مع المسيح، ينبوع الرحمة، نحو الفرح الاعظم، فرح الفصح الذي عَبَرَ فيه الفادي الإلهي بالبشريّة، من خلال موته وقيامته، إلى حياة جديدة، هي حياة الله فينا. إنّها رحلةُ عبورٍ كَمَنْ في مركب، عَبَرَ بحرَ المصاعب والتجارب والأزمات، نحو ميناء الخلاص. تستمرّ الرحلة الداخليّة هذه ستّة أسابيع، وتبلغ ميناء الخلاص مساءَ أحد الشعانين، ثمّ تَلِجُ أسبوعَ الآلام، أسبوعَ الفداء والخلاص الذي يكتمل مع بزوغ فجر القيامة.
13. تنطلق رحلةُ العبور الداخلي من آية يسوع الأولى بتحويل الماء إلى خمر فائق الجودة في عرس قانا الجليل(يو2: 1-11)، التي افتتح بها الزمن المسيحاني زمن الفرح والتحوّل والعبور إلى الأفضل في الحياة الشخصيّة والجماعيّة، وعلى كلّ المستويات: الإنسانيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة. لقد استبق بهذه الآية تحويل الخمر إلى دمه، لفداء العالم، في عرسه الخلاصي، ولمغفرة الخطايا والحياة الجديدة.
14. محطّتُها الأولى آيةُ شفاء الأبرص(مرقس1: 43-48)، وهي علامةُ التحرّر من برص النفس، الذي هو الخطيئة. فكما يشوّه البرصُ جسد الإنسان، كذلك تشوّه الخطيئةُ جمالَ صورة الله فيه، وتميل بعقلِه نحو الكذب، وبإرادته نحو الشرّ، وبقلبه نحو الحقد والبغض. عَبَر الأبرص، بقدرة يسوع وبقوّة إيمانه، إلى حالة الشفاء، وأُعيد إلى حياة الشَّركة مع الجماعة بواسطة خدمة الكاهن.
15. والمحطَّةُ الثانية آيةُ شفاء المنزوفة(لو8: 43-48)، الّتي ترمز إلى نزف القِيَمِ الروحيّة والخُلقيّة والاجتماعيّة، نزف تفكّك علاقات المحبّة والاحترام والتّعاون. بفضل إيمانها ورجائها نالت المرأة مبتغاها من فيض محبّة المسيح. ونحن، بالإيمان والرجاء وبنعمة المسيح الشافية، نستطيع أن نعبر من حالة نزف القِيَم والتقاليد الحميدة إلى إعادة تكوين حياةٍ زوجيّة وعائليّة واجتماعيّة ووطنيّة تسودها روابط المحبة والروح الإنسانيّة، وعلاقاتُ المودّة والصداقة.
16. في المحطة الثالثة، وقفة تعليميّة مع المسيح، المعلِّمِ الإلهي، حول مفهوم الخطيئة والتوبة والمصالحة. فالخطيئةُ في جوهرها تعلّقٌ بالذات وبخيرات الدنيا ونسيان الله وكسر شركة الاتحاد به. وهي بالتالي إساءةٌ لله، بمخالفة إرادتِه ووصاياه وتعاليمِه؛ وإساءةٌ للإنسان بالتعدّي عليه في حقِّه بالحياة أو في جسده أو روحه أو كرامته أو ممتلكاته؛ وإساءةٌ للكنيسة بانتهاك قدسيّتها، وعدم الالتزام بحياتها ورسالتها، وبالتعدّي على وحدة الجماعة والسلام فيها، وعلى شريعة المحبّة الأخويّة المتضامنة. فتكون نتائج الخطيئة افتقاراً روحياً وأخلاقياً وإنسانياً، وعيشاً في الذلّ، وفقدان الكرامة الشخصية(راجع لوقا 15: 12-16).
التوبة وقفة وجدانيّة يرجع فيها الإنسان إلى نفسه، واقفاً أمام ضميره، وهو صوت الله في أعماقه، ناظراً إلى واقع حياته وعلاقاته بالله وبالذات وبالكنيسة وبالجماعة العائلية والاجتماعية والوطنية التي ينتمي إليها، في ضوء تعليم الإنجيل والكنيسة. فيدرك حالته الشاذّة؛ يندم عليها؛ يقرّر الرجوع إلى الله؛ يعترف بخطاياه لدى الكاهن، ويلتزم بإصلاح حياته، والتعويض عمّا صدر عنه من خطايا( راجع لوقا 15: 17-21).
أمّا المصالحة فتأتي من أبوّة الله الغنيّ بالرحمة، الذي يسبق ويحرّك قلب الخاطئ وضميرَه لكي يتوب. وعندما يرجع إلى الله، يبادره بالغفران تاركًا له كلّ إساءاته، ويغمره بمشاعر أبوّته، ويلبسه ثوب النعمة بدل الذلّ، ويجدّد له عهد حبّه بدل خيانته، ويفتح أمامه طريقاً جديداً بدل ضياعه، ويُجلسه إلى مائدة جسد المسيح الفادي ودمه لنيل الحياة الإلهيّة بدل شروده(راجع لوقا15: 17-21). لقد صالحنا الله مع نفسه بالمسيح، وأعطانا خدمة المصالحة… إذاً نحن سفراء المسيح الداعين باسمه: «تصالحوا مع الله»(2 كور5: 19-20).
17. في المحطّة الرابعة، أظهر يسوع، في آية شفاء المخلّع(مر2: 1-12)، أنّه طبيبُ الأرواح والأجساد التي تشلُّها حالة الخطيئة عند الإنسان. وحده المسيح يُقيم الأشخاص والجماعات من شللِهم الروحي والمعنوي والاجتماعي والوطني، ويعبر بهم إلى خلق جديد، هو الذي قال عن نفسه في رؤيا يوحنا: «هاءَنذا أجعلُ كلَّ شيءٍ جديداً»(رؤيا21: 5). إختبر بولس الرسول تحقيق وعد الربّ فيه، وشهد: «إنْ كانَ أحدٌ في المسيح، فهو خلقٌ جديد: لقد زال القديم، وصار كلُّ شيءٍ جديداً»(2كور5: 17).
18. في المحطَّة الخامسة، آية شفاء الأعمى(مر10: 46-52)، يسوع هو نور العالم(يو8: 12)، نورُ العقول والقلوب، يدعونا لنتبَعَه، لئلّا نمشي في الظّلام(راجع يو 8: 12). بهذا النور الداخلي، عرف أعمى أريحا و»رأى» أنّ يسوع الناصري هو المسيح ابنُ داود حاملُ الرحمة الإلهية ومعطي النور للعالم، «فبدأ يصرخ ويقول: يا يسوع ابن داود ارحمني». ولمّا سأله ماذا تريد أن أصنع لك، أجابه الأعمى: «يا معلّم، أن أُبصر». وإذ منحه يسوع نور العينَين، أعطى البرهان أنّ الأعمى كان مبصراً بقلبه وعقله. وهذا هو البصر الحقيقي. أمّا العمى الحقيقي فهو عمى العقل والقلب والضمير.
19. الوصول إلى الميناء في يوم الشعانين، هو احتفالٌ بانتصار المسيح على تجارب إبليس في ختام صومه الاربعيني: «فَصَامَ أَرْبَعينَ يَومًا وأَرْبَعِينَ لَيْلَة، وأَخِيـرًا جَاع، فدَنَا مِنْهُ الـمُجَرِّبُ… ولَـمَّا أَتَمَّ إِبليسُ كُلَّ تَجَارِبِهِ، ابتَعَدَ عَنْ يَسُوعَ إِلى حِين(متّى 4: 2-3؛ لو4: 13). وهو أيضًا احتفال دخول المسيح الملوكي إلى أورشليم، حيث تبدأ في المساء مسيرة أسبوع الآلام تذكاراً لفداء الجنس البشري وخلاص العالم. فيملك يسوع المسيح على المسكونة من على صليبه. ملوكية يسوع، التي أشركنا فيها بالمعمودية والميرون، هي موته وقيامته من أجل فداء العالم وانبعاثه لحياة جديدة، مثل «حبّة الحنطة التي تقع في الأرض وتموت، فتعطي الثمر الكثير»(يو12: 24). تمتاز ملوكية المسيح بالحبّ الأعظم الذي يبذل فيه نفسه عن أحبّائه(راجع يو 15: 13)، وبالوداعة والتواضع والسلام(راجع يو 12: 15)، وبالعبادة لله بالروح والحقّ(راجع يو4: 24)، وبالرحمة والشفاء(راجع متى 21: 12-13).
رابعاً، خدمة المحبة
20. الصدقة، المعروفة بخدمة المحبة، هي الركن الثالث من أركان الحياة المسيحية بعد الصلاة والصوم. وجّه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في 11 تشرين الثاني 2012 إرادة رسولية حول خدمة المحبة بعنوان «طبيعة الكنيسة الجوهرية» (IntimaEcclesiaeNatura)، وضع فيها قواعد قانونية لتنظيم خدمة المحبة. نختصر هنا مضمون هذه «الإرادة الرسولية».
ثلاث مهام تعبّر عن طبيعة الكنيسة في حياتها ورسالتها، هي إعلان كلمة الله (الكرازة-Kerygma)، والاحتفال بالأسرار (ليتورجيا)، وخدمة المحبة (diakonia). إنّها مهام مترابطة ومتكاملة وغير منفصلة بعضها عن بعض.
21. خدمة المحبةهي عنصر مكوِّن لرسالة الكنيسة، ومعبِّر عن جوهرها. فلا تستطيع التخلّي عن هذه الخدمة، لأنّها تندرج في وصية يسوع المسيح الجديدة: «هذه وصيتي أن تحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم»(يو15: 12). لكلّ مؤمن ومؤمنة الحقّ والواجب في الالتزام الشخصي بعيش هذه الوصية، بحيث يقدّم لأخيه الإنسان المساعدة المادّية والعناية والعضد الروحي والمعنوي. هذان الحقّ والواجب يطالان أيضاً الجماعات المسيحيّة والكنائس المحلّيّة والكنيسة الجامعة. ولذلك يجب وضع تنظيم لخدمة المحبة.
تقع المسؤولية الأولى لتنظيم خدمة المحبة وممارستها على عاتق مطران الابرشية بوصفه من خلفاء الرسل. من أجل هذه الغاية وضعت الإرادة الرسولية قواعد لهذا التنظيم القانوني. وينبّه قداسة البابا إلى عدم حصر خدمة المحبة، ولا سيّما في المنظمات الكنسية، بجمع المساعدات وتوزيعها، داعيًا إلى الاهتمام بحب وعناية بشخص المحتاج، وباحترام كرامته ومشاعره، وبروح التقاسم، وفقاً لمنطق الإنجيل. ولا ينحصر تنظيم خدمة المحبة ضمن المنظمات الكنسية الخيرية، بل يطال أيضاً المبادرات التي يقوم بها أفراد مؤمنون أو حركات ومنظمات رسولية.
22. بعد هذه المقدمة، يضع قداسة البابا في «إرادته الرسولية» خمس عشرة مادّة تنظيمية، تتناول على التوالي:
حقّ المؤمنين والرهبانيات بإنشاء منظمات لخدمة المحبة، ووقفيات لتمويل مبادرات محبة خيرية، على أن يتقيّد هذا الإنشاء بما ترسمه القوانين الكنسية ومبادئ تعليم الكنيسة الاجتماعي(المادة1). كما يجب وضع قوانين خاصّة بالمنظمات والوقفيات المنشأة، والحصول على موافقة السلطة الكنسية المختصّة(المادتان 2و3).
يجب على مطران الأبرشية الاعتناء الراعوي بخدمة المحبة في أبرشيته، وتشجيع المبادرات والنشاطات المختصّة بخدمة القريب ومساندتها، وتعزيز الغيرة على خدمة المحبة لدى المؤمنين، كتعبير عن الحياة المسيحية، ومشاركة في رسالة الكنيسة. وعليه أن يسهر على إدارة المنظمات الخيرية وعلى مبادرات المؤمنين بحيث تتلاءم مع القوانين الكنسية وهبات المحسنين ونواياهم، وتتقيّد بتنظيمات الشرع المدني. ومن واجبه إنشاء مكتب للتنسيق بين مبادرات خدمة المحبة والمنظمات الخيرية، مع اعتبار أهدافها واستقلاليتها الإدارية(المواد 4و5و6 و8).
يعنى مطران الأبرشية بتنشئة العاملين في خدمة المحبة لاهوتيّاً وراعويّاً، إلى جانب تنشئتهم المهنية(المادة 7)؛ وبخلق جهاز لكاريتاس، أو ما يشابهها، في كلّ رعية للتربية على روح التقاسم والمحبة الأصيلة، على أن يتولّى كاهن الرعية السهر على سير هذا الجهاز، وعلى المبادرات الأخرى في هذا القطاع(المادّة 9).
يعود لمطران الأبرشية السهر على أموال منظّمات المحبة الخاضعة لسلطته، بحيث توظّف للأهداف التي قُدّمت من أجلها، وبروح إنجيلية. كما يسهر على مصادرها وأهدافها ووسائلها بما لا يتعارض مع تعليم الكنيسة، ويوجب على المنظمات تقديم تقارير مالية بالشكل الذي يطلبه(المادة 10). ومن حقّه رفع صفة «كاثوليكية» عن أيّة منظمة لا تتقيّد بتعليم السلطة التعليمية في الكنيسة(المادة 11).
تقضي الضرورة بتنظيم خدمة المحبة على المستوى الوطني بالتعاون بين مجموعة مطارنة الابرشيات، وعلى المستوى الدولي بمشورة الكرسي الرسولي(المادة 13). وفي كلّ حال تبقى ضرورية موافقة السلطة المحلية على نشاطات تقوم بها منظمات كاثوليكية في أبرشيتها(المادة 13).
يُعنى المجلس الحبري «CorUnum – قلب واحد»، بتعزيز تطبيق هذه القواعد، مع اعتبار صلاحيات دوائر الكرسي المعنية. ومن صلاحياته إنشاء منظمات لخدمة المحبة على الصعيد الدولي مع كلّ الصلاحيات التنظيمية اللازمة(المادة 15).
خامساً، سنة الإيمان
23. تدعونا « سنة الإيمان»، التي بدأت في 11 تشرين الثاني 2012 وتنتهي في 24 تشرين الثاني 2013، للتعمّق في إيماننا المسيحي أكثر فأكثر، وللّقاء الشّخصي بيسوع المسيح مبدأ إيماننا، وطريقنا الى الله الأب بالروح القدوس.
وقد أنشأنا لجنة لوضع برنامج سنة الإيمان، فقدّمته لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، في دورة كانون الأول الماضي.
لمّا كان الهدف من هذه السنة «إعادة اكتشاف طريق الايمان من اجل إحياء فرح اللّقاء بالمسيح والغيرة على الشهادة له ولمحبّته»، فإنّا ندعو أبرشياتنا والرعايا والأديار والمدارس الاكليريكية ومعاهد التنشئة اللاهوتية والمؤسسات التربوية والمنظمات الرسولية والجماعات العيليّة، والعائلات المسيحيّة وحركات الشبيبة، لأخذ مبادرات لتعليم مبادئ إيماننا المسيحي، انطلاقاً من إله إيماننا يسوع المسيح، كلمة الله المتجسّد ومحور تاريخ البشر.
فلا بدَّ من التركيز على قراءات من الكتاب المقدس، وبخاصّة قراءة إنجيل القديس لوقا للإضاءة على سرّ المحبّة والرحمة في شخص يسوع المسيح، وكتاب أعمال الرسل للولوج في مسيرة سرّ الكنيسة.
24. تقتضي منا «سنة الإيمان» التعمّق في العقائد المسيحيّة الأساسيّة، وبخاصّة في سرّ الثالوث الأقدس والتجسّد والفداء والتقديس، وفي أسرار الكنيسة الخلاصيّة السّبعة، وفي وصايا الله والحياة الأخلاقيّة. تُعتمد من أجل هذه الغاية الوسائل المختلفة مثل المنشورات والعظات والحلقات الإنجيليّة والندوات والمؤتمرات والرياضات الروحيّة، والقراءات الشّخصيّة، والبرامج الإعلاميّة، والنشر بواسطة المواقع الالكترونيّة، وتنظيم رحلات حجّ تقويّة ومسيرات صلاة وتأمّل إلى المزارات والأماكن الدينيّة وإعطاؤها عنوان» إيماننا حياة».
ومن الأهميّة بمكان تنظيم دورات تنشئة حول أسرار النشأة المسيحية: المعمودية والميرون والقربان، وإعدادها مع طالبيها وأهلهم وعرابيهم، وإدخال عقائد الإيمان المسيحي في برامج مراكز الإعداد للزواج، ومراكز الإصغاء العائلي، وفي التحضير للاحتفال الليتورجي بالزواج، وفي راعوية المرضى في المستشفيات ودور العجزة وذوي الاحتياجات الخاصّة. وعلى مستوى المدارس، ندعو الى تنظيم مسابقات وطنيّة حول الإيمان وأسراره وعقائده، بالكلمة والرسم والشعر والمسرح. وعلى مستوى الأبرشيات والكنيسة عامّة، ندعو إلى تنظيم «أيام إيمانية» لمختلف فئات المؤمنين.
إنّ زمن الصوم الكبير يوفّر الإطار المناسب لإطلاق «سنة الإيمان». وإنّنا لعلى يقين من أنّها ستُسهم إسهامًا كبيراً في بزوغ ربيع حقيقي مسيحي وعربي في بلدان الشّرق الأوسط.
25. تكتسب «سنة الإيمان» مساحات جديدة يقدّمها الإرشاد الرسولي «الكنيسة في الشّرق الأوسط، شركة وشهادة». فإيماننا المسيحي يتجلّى في الشركة في داخل كلّ كنيسة، وبين الكنائس الكاثوليكية، ومع سائر إخواننا المسيحيين من مختلف الكنائس. وهي شركة حياة وحوار وتعاون تمتدّ إلى الإخوة المسلمين ومؤمني الديانات الاخرى، وفقاً لتوجيهات هذا الإرشاد الرسولي. ويتجسّد إيماننا المسيحي في الشهادة للمحبة والأخوّة والسلام، من خلال المسلك والمبادرات، وعبر مؤسساتنا الاجتماعية والتربوية والصحية، وفي مختلف القطاعات التي يرسمها الإرشاد الرسولي. فإنّا ندعوكم جميعاً للتعمّق في مضمونه والعمل على تطبيقه من خلال برامج منظّمة، مدركين أنّ الروح القدس يخاطب من خلاله الكنيسة في الشرق الأوسط، ويقود خطاها في الظرف العصيب الذي تعيشه في الشرق الأوسط.
الخاتمة
26. إنّنا نرفع نظرنا إلى أمّنا وسيدتنا مريم العذراء، أمّ الكنيسة ونجمة الكرازة الجديدة بالإنجيل، الساطعة من هذا الشرق، لنقتدي بسرّ اتّحادها الكامل بالثالوث القدّوس، وقد أضحت، بتدبيرٍ إلهي، إبنة الآب، وأمّ الابن وعروسة الروح القدس. ونسألها أن تقود خطانا في هذا الصوم المبارك وسنة الإيمان إلى ابنها فادي الإنسان ومخلّص العالم، راجين أن نعبر، بنعمة موته وقيامته، إلى حياة جديدة، وأن تعبر أوطاننا في هذا الشرق، إلى ميناء السلام العادل والدائم، تمجيداً للإله الواحد والثالوث، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
عن كرسينا في بكركي، في 2 شباط 2013، عيد تقدمة المسيح إلى الهيكل.