باريس – صباح السبت المنصرم اشتريتٌ من مكتبة في باريس صحيفتي “الفيغارو” و”الموند” – عدد نهاية الأسبوع – بسعر 5,20 أورو للأولى، و4,20 أورو للثانية. لا تسأل عن عدد الملاحق المجموعة بين دفّتيْ كل عدد والخدمات المعلوماتية والتحليلية التي تقدمها والتي لا بد أنك ستضطر إلى رمي بعضها قبل وصولك عائداً إلى بيتك.
يذكرني ذلك بما كنتُ أشهده قبل سنوات طويلة في بوسطن في المتجر القريب من مكان إقامتي حين كان العديد من القراء يشترون “النيويورك تايمس” صباح الأحد ويرمون ما لا يريدون قراءته من ملاحِقها في سلة كبيرة وَضَعَها صاحبُ المحل لتسهيل مهمة هؤلاء القراء الذين يعرف أنهم بمعظمهم من الطبقة الوسطى المتنوِّرة ولكنهم غير ملزمين بِحَمْلِ كل ما تنتجه الصحيفة بين أذرعتهم. هذا ليس إهانة لا للصحيفة ولا لقارئها.
ما يعنيني هنا، ويفرحني، أنه لا زال في العالم قراء مستعدون لدفع مبلغ 5,20 و4,20 أورو ثمن عدد صحيفة أي ثمانية أو سبعة آلاف ليرة لبنانية تقريباً.
هذه صحافة ورقية. “غود نيوز” في نهاية العام 2016. الجو الباريسي والفرنسي، مَثَلٌ من أمثلةٍ مشجعة للصحافة الورقية في زمن لبناني بات يظهر وكأنه أقرب لزمن “نهاية مهنة” وليس فقط نهاية صحف معينة.
حضور الصحافة الورقية في بلد مثل فرنسا يجعل الكلام عن “موت مهنة” كلاماً فارغاً، وبالحد الأدنى يجعله كلاماً مبكراً.
أتكلّم كقارئ.
لقد أحدث “المال السياسي” كسلاً يمكن أن نعتبره تاريخياً في الصحافة اللبنانية. أحدث رخاءً منذ العهد الناصري السعودي في الخمسينات إلى العهد القذّافي الصدّامي الجزائري الخليجي في السبعينات ثم الخليجي الإيراني في التسعينات وما بقي من كل ذلك اليوم… هذا الرخاء بمعزل عن عدد الذين استفادوا منه سمح كما هو معروف بتطوير وظائف الصحافة اللبنانية واستثماراتها، ولكننا نكتشف اليوم حجم الكسل الناتج عن ابتعاد أو ترهل العلاقة بالسوق الحقيقية الطبيعية. استمرّت دائماً تجارب ناجحة في الإعلانات والتوزيع. ولكن السوق أصبح في العمق ثانوياً. لم يفقد أهميته طبعاً وإنما فقد أولويته الأولى.
في غمرة الصورة الكئيبة حالياً للأزمة التي تمر فيها الصحافة اللبنانية ربما هناك عنصر إيجابي من شأن جيل جديد في صحافتنا أن يستحدثه عبر مخاض صعب وطويل: استكشاف آفاق جديدة غير مستكشفة في السوق العادية بين الناس وفي الإعلانات تعيد تأسيس علاقة لا يلعب فيها المال السياسي الدور “الوجودي” الذي بات يلعبه حالياً:
شركات توزيع جديدة بأنماط توزيع جديدة تستجيب مرتين للتحدي من داخل التحدي: أي هذه المرة التفكير بسبب الديجيتال في تطوير الورقي بشقيه الورقي والديجيتال معاً.
هناك عشرات الأحياء في المدن ومئات القرى ومئات الضواحي لا تصلها صحيفة. يصلها الديجيتال لكن لا قراء فيه. هذا محلياً. أما عربياً وشرقْ أوسطياً فلم يجرِ التفكير الكافي لاستكشاف أسواق جديدة باستثناء صلة لبنانيي الدياسبورا بشكلٍ ما بصحافة مسقط الرأس.
مخاض صعب وخطِر لكن ربما تحول إلى فرصة لجيل جديد من الصحافيين على كل المستويات لتغيير هذه العلاقة الكسولة أو هذه الممارسة الكسولة المخيلة والحوافز للمهنة، العلاقة التي أحدثها الاعتماد الهائل على المال السياسي.
صحافة لبنان في أزمة لكن تميّزَ لبنان (وليس دولته) الثقافي والتربوي والجامعي والسياسي والاقتصادي يجعله فعلاً بلا منافس عربي من حيث قوة المجتمع التعددية والنخبوية المتواصلة وقدرتها على السعي الدائم لخلق بل حماية مساحة حرية… قوة المجتمع التي لم تعثر بعد على صيغة توازن مع الدولة.
الصحافة الجديدة أي الجيل الجديد منها موجود في كل عناصر البيئة اللبنانية التي تنضاف إليها دائماً ليس فقط قوى ناشزة عن بنيتها تتحوّل إلى عنصر ثبات فيها بعد مخاض اضطرابي مُكْلِف وإنما أيضا تنضاف موجات غير مسبوقة في “الكهرباء” الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية بين الداخل والداخل وبين الداخل والخارج بل بين الخارج اللبناني والخارج اللبناني!
في العالم لا يزال مركز الثقل في تحديد مستوى الرأي النخبوي موجوداً في الصحافة الورقية الديجيتالية أي المكتوبة. وحتى لو أن السياسيين الشعبويين أو غير الشعبويين يجدون دائماً طريقة لتجاوز أو حتى تهميش دور الصحافة في منع وصولهم إلى السلطة، أي يصلون بمعنى ما ضد إرادتها، لكن الصحافة المكتوبة، معلوماتٍ وتحليلاً ورأياً، لا تزال بالنسبة لهم، وخصوصا كبارَهم، مركز تحديد النوعية أي تأكيد مشروعية اتجاهاتهم وقراراتهم بالمعنى اليومي. وأرجو في هذا المجال لمن يرغب استخدام هذه العينة أن يحصي عدد المرات التي يستخدم فيها رؤساء الولايات المتحدة الأميركية لمقالات التحقيق والرأي في صحيفة مثل “النيويورك تايمس” وغيرها. وهناك عينة يومية أوسع وهي حجم استناد قنوات التلفزيون الأميركية والغربية لمواد الصحافة المكتوبة، الورقية الديجيتالية.
جهاد الزين
النهار