ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير خلال قداس الاحد في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي بعنوان "لا تدخلنا في تجربة" والتي تابع فيها تعليمه عن كتاب يسوع الناصري للبابا بندكتس السادس عشر.
نواصل شرح الفقرتين اللتين استهللنا بهما الكلام، على ما ورد شرحهما في كتاب قداسة البابا بندكتس السادس عشر: المعنون" يسوع الناصري".
ان الفكرة، التي تقول ان الله، من أجل مغفرة خطايانا، وشفاء الناس من الداخل، دفع ثمن موت ابنه، اصبحت اليوم بالنسبة الينا غريبة. وأن يكون الرب قد "حمل أوجاعنا وقاسى آلامنا"، وأن يكون قد ُطعن من أجل آثامنا، وجُرح لأجل معاصينا، وسُحق لأجل خطايانا، وأننا بشدخه ُُشفينا، لم يعد اليوم واضحا بالنسبة الينا. وان ما يضاد ذلك،من جهة أن الشرّ الذي نلجأ اليه أصبح عاديا، فيما نستعمل في الوقت عينه، فظائع التاريخ البشري، وخاصة أحدثها، كحجة لا سبيل الى دحضها، لننكروجود الله الجوّاد، ولنجدّف على خليقته، التي هي الانسان. ويقف، من جهة ثانية، في مقابل تفهّم سرّ التكفير العظيم، فهمنُا المتعجرف الفردي للانسان. ولا يمكننا بعد أن نفهم معنى التكفير البديل، لأنه، بحسبنا، كل انسان يعيش معزولا في ذاته. وليس بمقدورنا أن نفهم بعد، تشابك كل تواجدنا العميق، وتشابكه مع وجود الوحيد، الابن المتجسّد. وعلينا أن نعود الى هذه المسائل عندما نعالج صلب المسيح.
ونكتفي الآن بملاحظة أوردها الكردينال جون نيومان الذي قال يوما: تمكّن الله بكلمة واحدة من خلق الكون كله، انطلاقاً من لا شيء، ولكنه من أجل خطأ الناس والمهم، لم يكن بمقدوره أن يتغلّب عليها باقحام نفسه فيها، فعرف الألم بذاته في ابنه الوحيد الذي حمل هذا الحمل وتغلّب عليه ببذله نفسه. والتغلّب على الذنب يقضي باستنفار القلب منا، وأكثر من ذلك، استنفار كل وجودنا، وحتى هذا الاستنفار يبقى غير كافٍ، ولا يمكنه أن يفعل الاّ بالمشاركة مع ذلك الذي حمل حملنا جميعا.
ان طلب المغفرة هو أكثر من دعوة أدبية، وان ما هي أيضاً علاوة على ذلك. وهي، بحدّ ذاتها، تحدّ يومي يُرمى في وجهنا. ولكنها في العمق، كسائر الطلبات، صلاة خاصة بالمسيح. وهي تذكّرنا بذاك الذي، بالمغفرة، دفع ثمن انحداره الى شقاء الوجود البشري، والموت على الصليب. وتذكّرنا بأن نكون مقرّين بالجميل لذلك، وبأن نمتصّ معه الشرّ بالمحبة، وبأن نحرقه بنار العذاب. واذا كان لنا أن نعرف، يوما بعد يوم، الى أي حدّ قوانا غير كافية، وكم مرّة نحن نصبح مديونين؟ اذذاك هذه الصلاة تنعشناً انعاشاً كبيراً بان نعرف أن محبته قد تبنّت صلاتنا، وبه ومعه، بامكانها على الرغم من كل شيء، أن تصبح قوّة شفاء.ولا تدخلنا في التجربة
ان صياغة هذا الطلب تبدو نابية في نظر كثير من الناس. ان الله لا يدخلنا في تجربة. ان القديس يعقوب يقول لنا في الواقع:" اذا جُرّب أحد فلا يقل:" ان الله جرّبني. ان الله لا يمكن أن يجرّب البشر وهو لا يجرّب أحدا".
ويمكننا أن نخطو خطوة جديدة اذا تذكّرنا كلام الانجيل:" حينئذٍ قاد الروح يسوع الى الصحراء ليجرّبه الشيطان". التجربة تأتي من الشيطان، ولكن رسالة يسوع المسيحانية تقضي بأن يتغلّب على التجارب الكبرى التي قادت وتقود أيضاً البشرية بعيداً عن الله. وعليه هو، على ما رأينا، أن يختبر بذاته هذه التجارب حتى الموت على الصليب، ويفتح لنا هكذا طريق الخلاص. وليس فقط بعد الموت، ولكن في الموت، وطوال الحياة، كان عليه أن يهبط نوعاً ما الى الجحيم، الى مكان تجاربنا واندحاراتنا، ليأخذ بيدنا ويرفعنا الى علُ. ان الرسالة الى العبرانيين، شدّدت بنوع خاص، على هذا المظهر، فرأت فيه مرحلة جوهرية من طريق يسوع: " وبعد أن تألّم، فهو قادر على اغاثة المبتلين". " وفي الواقع، ليس لنا عظيم أحبار غير قادر أن يعطف على ضعفنا، بل من قد جُرّب في كلّ شيء مثلنا، ما عدا الخطيئة"
وان نظرة الى كتاب أيوب، حيث يرتسم عدّة مرات سرّ يسوع، بامكانها أن تساعدنا على أن نرى بوضوح. ان الشيطان يهزأ بالناس ليهزأ بالله. والخليقة التي صنعها الله على مثاله انما هي حليقة تاعسة. وكل ما يبدو فيها من حسن ليس الا مظهراً. في الواقع ان الانسان أي كلا منّا، لا يهتمّ دائما الاّ براحته. هذه هي وصفة الشيطان الذي أشار اليه سفر الرؤيا على أنه "يشكو اخوتنا" وهو الذي" يشكوهم ليل نهار أمام الله ".وشتمُ الانسان والخليقة يعني في النهاية شتمَ الله وتبرير رفضنا اياه.
ان الشيطان استخدم أيوب ليبرهن عن قضيته:" اذا أخذنا منه كل شئ، فهو سيترك بسهولة تقواه، هكذا، ترك الله الشيطان حرّاً في القيام بهذا الاختبار، ولكنه، على وجه التأكيد، في حدود محدّدة. ولا يترك الله الانسان يقع، لكنه يسمح بأن يقع في تجربة. و يظهر هنا، بكل تحفظ وضمناً، سرّ التكفير بالنيابة الذي يأخذ كل مداه في آشعيا الفصل 53. ان آلام أيوب تخدم تبرير الانسان، وعبر ايمانه الذي اختبرته الآلام أعاد ما للانسان من كرامة. وهكذا، ان آلام أيوب هي مسبقاً في مشاركة مع آلام المسيح الذي أعاد لنا كرامتنا أمام الله، والذي يظهر لنا الطريق أمام الله في الظلمة الكالحة لكيلا نفقد الايمان بالله.
بإمكان سفر أيوب أن يساعدنا على التمييز بين الوضع في المحنة والتجربة، ولكي ينضج الانسان، وينتقل شيئا فشيئا من تقوى سطحية الى اتحاد عميق بارادة الله، فهو يحتاج الى أن يمرّ بتجربة. فهو كعصير العنب،عليه أن يختمر ليصبح خمرا جيّدة، وهو في حاجة الى تطهير وتحويل خطيرين بالنسبة اليه، وحيث بامكانه أن يسقط، ولكنها طرق لا بدّ منها لكي يجد الانسان نفسه، ويجد الله. المحبة هي دائما عملية تطهير، ونكران ذات، وتحويل مؤلم لذواتنا، وهكذا نجد طريق النضج. لذا أمكن فرنسيس كسفاريوس ان يقول في الصلاة الى الله: أحّبك، ليس لأنك تعطيني الفردوس أو الجحيم، بل ببساطة لأنك أنت من أنت ملكي والهي". وكان يجب أن تكون هناك طريق داخلية للوصول الى هذه الحرية – طريق نضج حيث التجربة وخطر السقوط يتربّصان – ولكنها طريق لا بدّ منها.
اذذاك يمكننا أن نفسّر الطلب السادس من الأبانا بطريقة أكثر واقعية.وبها نقول لله: " أعرف أني في حاجة الى تجارب لكي تتنقى طبيعتي. واذا قرّرت أن تخضعني لهذه التجارب، واذا – كما لأيوب – تركت مساحة قليلة للشرّ، اذذاك، أتوسّل اليك، لا تنس أن قوتي محدودة. لا تظنّ أني أقوى على الكثير.لا ترسم الحدود واسعة كثيرة التي يمكنني فيها أن أُجرّب، وكن قريبا مني بيدك الحامية، عندما تقسو عليّ التجربة" وبهذا المعنى، فسّر القديس قبريانوس الطلب،فقال:" عندما نطلب" لا تدخلنا في تجربة "نعبّر عن وعينا أن" العدو لا يمكنه أن يقوى علينا، اذا كان الله لم يسمح له بذلك. وهكذا يجب أن نضع يبن أيدي الله مخاوفنا، وآمالنا، وقراراتنا ،لأن الشيطان لا يمكنه أن يجرّبنا الاّ بقدر ما يسمح الله له بالقدرة على ذلك.
ولدى أخذنا قياس الصيغة النفسية للتجربة، فهو يتوسّع في سببين مختلفين يمنح الله من أجلهما قوة محدودة للشرّ. أولا لكي يعاقبنا على أخطائنا، ويحدّ من كبريائنا، لكي نعيد اكتشاف فقر ايماننا، ورجائنا، ومحبتنا، ولكي نمتنع عن التصوّر أنه بمقدورنا أن نكون كبارا بوسائلنا. لنفكّر بالفريسي الذي كان يكلّم الله عن أعماله، وكان يظنّ أنه بغنى عن نعمته تعالى. لسؤ الطالع ان قبريانوس لا يتوسّع كثيرا في ما تعبّر عنه صيغة الامتحان التي فرضها الله علينا لمجده. ولكن أفليس علينا أن نعتبر هنا أن الله فرض حملاً ثقيلاً من التجارب على الأشخاص الذين هم أقرب اليه، وكبار القديسين، ابتداءً من أنطونيوس في الصحرا حتى تريزيا في ليزيو في عالم ديرها الكرملي التقي؟ فهم يقتدون نوعا ما بأيوب، كدفاع عن الانسان الذي هو في الوقت عينه دفاع عن الله. أكثر من ذلك، فهم باقون، بصورة خاصة، على اتصال بيسوع الذي عاش تجاربنا في الألم. وهم مدعوون الى التغلّب، اذا جاز التعبير، في أجسادهم، وفي نفوسهم، على تجارب العصر، وعلى حملها من أجلنا، نحن الناس العاديين، الى النهاية، ومساعدتنا على الذهاب الى الذي أخذ على عاتقه حملنا جميعاً.
عندما نتلو الطلب السادس من الأبانا، يجب أن نظهر أننا مستعدّون على أن نأخذ على عاتقنا ثقل المحنة التي هي على قياس قوانا. ومن جهة ثانية، نسأل الله ألاّ يفرض علينا ما ليس لنا به طاقة، وألا يفلتنا من يديه. نعبّر عن هذا المطلب، ونحن واثقون ثقة بولس الرسول الذي يقول لنا: " أمين هو الله : فلن يسمح بأن تجرّبوا فوق ما تطيقون، بل يجعل مع التجربة مخرجا، لتستطيعوا أن تحتملوها". أيها الأخوة والأبناء الأعزاء،ان شرح الفقرتين من الأبانا اللتين أشرنا اليهما، أي لاتدخلنا في تجربة، بل نجنّا من الشرير، هما غنيّتان بالمعاني الأصيلة، شرط أن فكّر في ما نقول، وما نطلب من الله أن يحقّقه لنا.
واذا كان هذا يصحّ في مخاطبة الله، فهو يصحّ بالأحرى في مخاطبة الناس. وقد جاءنا بالأمس بعض من الموظّفين الذين أصدرت المحاكم أحكاما لمصلحتهم قضت باعادتهم الى وظائفهم، ولكن الدولة لا تزال تتجاهل هذه الأحكام كأنها لم تصدر، فيما هي تدفع لهم رواتبهم، وهم لا يؤدّون أي عمل. وهذا مجحف بحق الدولة وبحق من صدرت الأحكام لمصلحتهم، ويصم الدولة وصمة هي بغنى عنها. فعسى أن يسمع من يعنيهم الأمر ويبادروا الى تصحيح الخطأ.
بكركي، الإثنين 22 ديسمبر 2008 (Zenit.org).