نتابع الحديث عن" يسوع الناصرة" كما ورد في كتاب البابا بنديكتوس السادس عشر.
ان الطريقة التي قابل معها هنغل، ومن نواح أخرى، يعارض هذه العناصر الخمس، لا تُنتج مجموعة تتصف بتطابق حقيقي. لأنه كيف يمكن الباراقليط ان تكون له الكلمة الأخيرة، اذا كان الانجيلي قد بدأ بانتهاك الحقيقة الانجيلية ؟
وما هي العلاقات القائمة بين ارادة الانجيلي الخلاّقة، وتبشيره الشخصي والتقليد الكنسي ؟ وهل تكون الإرادة الخلآّقة أكثر حسما من الذكرى، بحيث انه بامكاننا أن نهتك باسمها الواقع ؟ وكيف العمل اذن لتشريع هذه الأرادة الخلاّقة ؟ وكيف تأتلف والباراقليط ؟
اعتقد أن العناصر الخمس التي وصفها هنغل هي في الواقع القوى الجوهرية التي حدّدت تأليف الأنجيل، ولكن يجب تغييرعلاقتها الداخلية، وبالتالي تبديل معنى كل من هذه القوى.
قبل كلّ، ان العناصر الثانية والرابعة، أي الذكرى الشخصية والواقع التاريخي هما مترابطان، ويؤلّفان ما يصفه الآباء بالواقع التاريخي المحدِّّد " المعنى الحرفي" للنصّ. وهذا هو وجه الحدث الخارجي الذي عرفه الانجيلي في جزء منه بفضل ذكراه الشخصية، وبجزء آخر بفضل تقليد الكنيسة – وكان يعرف جيّدا دونما شكّ الأناجيل الأزائية بصيغة أو بأخرى. وهو يريد أن يتكلّم بوصفه "شاهد " حدث. وما من أحد شدّد على بعد هذا الحدث، على " جسد " التاريخ، قدر يوحنا: "ان الذي سمعناه، والذي رأته أعيننا، والذي أبصرناه والذي لمسته أيدينا، انه الكلمة، كلمة الحياة" . أجل، لقد تجلّت الحياة وتأملّناها، ونشهد: "وانا نعلن لكم هذه الحياة الأبدية التي كانت عند الآب، والتي ظهرت لنا. وان الذي تأمّلناه، والذي سمعناه، قد بشرّنا كم به أيضا"[1].
هذان العنصران، الواقع التاريخي، والذكرى، يقودان من ذاتهما الى العنصر الثالث والخامس اللذين يعيّنهما هنغل هكذا: التقليد الكنسي، والباراقليط كدليل. لأنه لدى مؤلّف الانجيل، الذكرى هي من جهة شخصية بقوّة، كما تُظهر لنا ذلك العبارة في آخر مشهد الصلب، [2] غير أنه من جهة أخرى، فان ذلك ليس مجرّد ذكرى بسيطة خاصة، بل ذكرى في الكنيسة، ومعنا "نحن" الكنيسة". وان من سمعناه، ومن تأمّلناه بأعيننا، ومن رأيناه وما لمسته أيدينا"، لدى يوحنا، ان موضوع الذكرى هو دائما " " النحن" وهو يستذكر في مجموعة الرسل ومعها، في الكنيسة ومعها. وبقدر ما يتقدّم المؤلّف بوصفه فردا وشاهدا، بقدر ذلك يتخطّى من يأخذ الكلام هنا، موضوع ذكرى الوقائع، وهو دائما "نحن" الخاص بجماعة التلاميذ، " نحن" الخاص بالكنبسة. وكما أن الذكرى تشكّل عمق الانجيل، تتنقى وتتعمّق بدخولها في ذاكرة الكنيسة، فان ذكرى الأحداث العادية تجد نفسها وقد تخطّاها الواقع.
ان يوحنا، في ثلاثة مقاطع مهمّة من أنجيله، يلجأ الى كلمة " استذكًَََرَ"، فيعطينا هكذا المفتاح لنفهم ما تعني في نصّه " الذاكرة". من هنا جاءت الرواية التي طرد فيها يسوع تجّار الهيكل، والتي نجد فيها العبارة:" فاستذكر تلاميذه هذه الكلمة من الكتاب:" غيرة بيتك أكلتني "[3]. وأيقظ الحدث ذكرى كلمة الكتاب، فأصبحت هكذا مفهومة بقطع النظرعما فيها من تصنّع . والذاكرة أضاءت معنى الحدث فجعلته هكذا ذا معنى. وقد ظهر كواقع فيه الكلمة الآتي من الكلمة والذي ُيدخلنا فيه. والرابط بين العمل وآلام يسوع من جهة، وكلمة الله من جهة ثانية، يظهر، وهكذا يصبح سرّ يسوع عينه مفهوما.
في رواية تطهير الهيكل المهدوم، يتبع ذلك الزمن الذي أعلن فيه يسوع أنه يقيم الهيكل في ثلاثة أيام. ويعلّق الأنجيلي قائلا:" وعندما قام من بين الأموات، تذكّر تلاميذه أنه قال ذلك. وآمنوا بالنبؤات الكتابية، وبالكلمة التي قالهاّ [4]. ان القيامة أيقظت الذكرى، والذكرى ، المضاءة بنور القيامة، أظهرت معنى الكلمة التي بقيت غير مفهومة بوضعها اياها مجدّدا في اطار الكتاب في مجمله. ان وحدة الكلمة والواقع هي النقطة التي يقصدها الانجيل. في اطار الكتاب في مجمله. ان وحدة الكلمة والواقع هي النقطة التي قصدها الأنجيل.
أحد الشعانين، تعود هذه الكلمة مرة أخرى. وهي تقول أن يسوع وجد جحشا ركبه." كان يُتمّ بذلك الكتاب": لا تخافي ، يا ابنة صهيون. هوذا ملكك يأتي اليك راكبا جحشا ابن أتان". [5] ويقول الانجيلي في هذا الصدد: " ولم يفهم تلامذة يسوع في ذلك الوقت، ولكن عندما تمجّد، تذكّروا أن الكتاب قال ذلك عنه، وهذا ما صنعوه له"[6]. مرة أخرى، ذكروا حدثا ظهر أولا كأنه حدث عادي. ومرة اخرى، أيضا، يقول لنا الانجيلي ان التلاميذ، بعد القيامة، تقبّلوا نورا جعل لهم هذا الواقع مفهوما. اذذاك، "تذكروا" ان كلمة من الكتاب كانت قبلا غير ذات معنى بالنسبة اليهم، أصبحت مفهومة في المعنى الذي سبق الله فاختاره لها، وقد أعطى الحدث الخارجي معناه.
ان القيامة تعلّم طريقة نظرجديدة. فهي تنزع القناع عن الرباط بين كلمات الأنبياء، ومصير يسوع. وهي توقظ : الذكرى" أي تسمح بالدخول الى وجه الأحداث الداخلي، في الرباط بين كلمة الله وعمل الله.
وفي هذه المقاطع، يوفّر لنا الانجيلي عينه العلامات القاطعة المتعلّقة بتأليف انجيله، وبالرؤيا التي خرج منها. وهو يستند الى ذكرى التلميذ التي هي " ذكرى اجمالية" في "نحن" الكنيسة الجماعية. وهذه الذكرى هي تفهّم يقوده الروح القدس. والمؤمن، لدى استذكاره، يدخل في البعد العميق لما حدث، ويرى ما لم يكن مرئيا من الخارج. ولكنه في ذلك لا يبتعد عن الواقع، وهو يتفّهمه بعمق، ويرى أيضا الحقيقة المختبئة في الواقع. في ذكرى الكنيسة، حدث ما كان أنبأ به الرب أخصّاءه في العشاء الأخير بقوله لهم:" عندما يأتي روح الحقيقة، سيقودكم الى الحقيقة بكاملها"[7] .
وان ما يقوله يوحنا في انجيله مما يتعلّق بأنه يستذكر، وقد أصبح تفهّما وطريقا " نحو الحقيقة بكاملها"، هو قريب كل القرب ممّا أورده لوقا بشأن ذكرى أمّ يسوع . وفي نقاط ثلاث من رواية الطفولة، يصف لنا لوقا سياق "الذكرى". أولا في رواية البشارة بالحبل بيسوع، كما أوردها الملاك جبرائيل، يقول لنا لوقا ان مريم اضطربت شديد الاضطراب للسلام، وأنها قامت بحوار "داخلي" ، متسائلة عمّا يكون معنى هذا. والمقاطع الأكثر اهمّية نجدها في رواية عبادة رعاة الغنم، حيث يقول لنا الأنجيلي:" وكانت مريم تحفظ كل هذه الأمور في قلبها"[8] . وفي آخر حكاية عن يسوع ابن الأثنتي عشرة سنة، نقرأ أيضا: " وكانت أمّه تحفظ كل هذه الأحداث في قلبها"[9]. ان ذاكرة مريم حفظت أولا الأحداث في الذكرى، ولكنها كانت أكثر من ذلك. فكانت تردّد الحدث في داخلها. وهكذا دخلت في البعد الداخلي برؤيتها الأشياء في اطارها وبتعلمّها أن تتفهّمها.
وانجيل يوحنا يرتكز على هذا النوع من "الذكرى" ، الذي تعمّق أكثر ما تعمّق في موضوع الذكرى بوصفها ذكرى " نحن" التلاميذ، ذكرى الكنيسة. وهذه الذكرى ليست فقط سياقا نفسانيا أو عقليا، انها حدث روحاني. وذكرى الكنيسة ليست فقط شيئا خاصا، فهي تفوق دائرة العقل والمعرفة البشرية. والروح القدس هو الذي يقودنا ويُظهر لنا اطار الكتاب، والصلة بين الكلمة والواقع، ويقودنا الى " الحقيقة بكاملها".
وانا نجد هنا أيضا شروحا جوهرية تتعلّق بمفهوم الوحي. ان الأنجيل يأتي من مجهود استذكار بشري، وهو يفترض وجود جماعة الذين يستذكرون، وفي هذه الحالة الحسيّة نجد المدرسة اليوحنيّة، وقبلها جماعة الرسل. ولكن، بما ان المؤلّف يفكّر، ويكتب، وهو يستذكر الكنيسة، فان " النحن" التي هو منها منفتحة الى أبعد من الفرد ي، وهي، في العمق، منقادة لروح الله الذي هو روح الحق. والأنجيل عينه، بهذا المعنى، يشقّ طريق تفهّم تبقى مرتبطة دائما بهذه الكلمة ، ولكن يمكنها، ويتوجّب عليها، من جيل الى جيل، ان تقود دائما ومجدّدا في أعماق الحقيقة بكاملها.
وهذا يعني أن انجيل يوحنا، بوصفه "انجيلا روحيا" لا يوفّر نوعا من اختزال كلمات يسوع ونشاطاته، ولكنه بفعل التفهّم الناشئ عن الذكرى، فهو يرافقنا، الى أبعد من المظهر الخارجي، الى عمق الكلمات والأحداث، وهو عمق يأتي من الله ويقود الى الله. والأنجيل بحدّ ذاته هو "استذكار" من هذا النوع، وهذا يعني أنه يكتفي بالحقيقة الراهنة، و ليس هو ملحمةِ عن يسوع ، ولا هو يقوّل الأحداث التاريخية ما لا تريد أن تقول. وهو يظهر لنا بالأحرى في الواقع شخص يسوع ، كما كان، وبهذه الطريقة، فهو يظهر لنا من ليس فقط كان، بل من هو كائن. ذاك الذي بامكانه أن يقول دائما في الحاضر: "أنا هو". " قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن"[10]. ان الانجيل ُيظهر لنا يسوع على حقيقته، وبامكاننا أن نستعمله بثقة تامة كمصدر عن يسوع.
أيها الأخوة والأبناء الأعزّاء،ان انجيل القديس يوحنا يضمّن حديثه عن السيد المسيح نظرات لاهوتية قد لا تكون في متناول جميع الناس، ولكنها ترشد الى الحقيقة المجرّدة، ولذلك قيل :ان أقوى الايمان هو الايمان البسيط ، ايمان الفحّام ، أي ايمان بطرس، رأس الرسل. وهذا كاف.
وان ما هو موضوع نقاش في هذه الأيام هو عمر الناخبين الذي يريد أكثرهم أن يردّوه الى الثامنة عشرة، وهذا أمر يجب التبصّر في مفاعيله، بعد سنوات، قبل الاقدام عليه اليوم.
وان زيارة قداسة الحبر الأعظم التي يقوم بها في هذه الأيام الى بعض بلدان أفريقيا، تظهر ما تبذله الكنيسة الكاثوليكية من جهود لمساعدة شعوب هذه القارة على محاربة ما تشكوه من أدواء مستحكمة.
هذا ونسأل الله أن يلهمنا دائما العمل بمرضاته والسير بمقتضى وصاياه. بكركي في 22 اذار 2009
[1] – 1يو 1: 1-3[2] – راجع يو 19: 35[3] -مز 69 :10 ويو 2:17[4] -يو 2:22[5] -زكريا 9: 9 ويو 12: 14-15[6] – يو 12: 16[7] -يو 16: 13[8] -لو 2: 19[9] – لو 2 : 51[10] – يو 8: 58