بقلم د. ايلي مخول
يروي هذا المؤلَّف عدة قرون من فن الطبخ على الطريقة الفرنسية، فيذكُر مدينة باريس الرائدة والمجدِّدة على الدوام في فن الطّهي.
ثمة قصص عديدة تتحدث عن باريس، ولكن ليس هناك رواية “ذِواقية” واحدة تتطرق إلى هذه المدينة، حيث يحلو العيش وتلذُّذ الطعام منذ العصور الوسطى، تلك المدينة التي ولدت فيها المطاعم وأدب الطعام. باتريك رامبور، من مواليد 1965، هو مؤرخ ومدرّس وباحث فرنسي متخصص بارز في المطبخ وفن الطهو وأدوات المائدة، إنكَبَّ على عرض تاريخ الذوق الباريسي. يقول إن باريس أصبحت في القرن الثالث عشر، أكبر مدينة في الغرب، يتغنون بها باعتبارها أرض النعيم الجديدة، حيث سادت وفَرَة جميع السلع والمواد الغذائية. الشعراء والمنشدون راحوا يتغنون بخيرات باريس، يقدمون الخواصّ المحلية، مثل الفطائر أو قطع الحلوى الصغيرة، مثل المقمّعات (ضرب من الحلوى على شكل قمع)، التي ينادَى عليها في الشارع. لكن مع الملك، في الفنادق الأرستقراطية، وحتى في الأديرة الغنية، تم تطوير المطبخ الأكثر دقة، كما يؤكد على سبيل المثال لو فياندييه دي تايفان (حوالي 1310-1395)، رئيس طهاة كل من فيليب السادس وشارل الخامس وشارل السادس. إن التفنن الاستثنائي في قوائم الطعام الباريسية أمر مثير للدهشة، خاصة عندما نفكر في الأفلام عن العصور الوسطى حيث يميل الضيوف دائمًا إلى التهام الطعام بأكثر الطرق الباعثة على التقزّز! وعلى الرغم من المصائب التي حلّت بباريس (حرب المئة عام، الحروب الدينية)، تمكنت المدينة من ترسيخ مكانتها كعاصمة للذوق الرفيع في القرن السابع عشر.
المطبخ والأدب
في عهد الملك لويس الرابع عشر إنتشرت بكثرة القهوة والشاي والشوكولاته، وراحت تفتح أبوابها مؤسسات من أمثال مقهى بروكوب* التي سنشكل واحدا من أمجاد باريس حتى وقت قريب. وشهد القرن الثامن عشر تطور المطاعم التي أخذ اسمها من “مرق صحي” يعيد القوة. بالنسبة للميزانيات الأكثر تواضعا، إزدهرت الحانات التي تقع خارج الحواجز الضريبية (فكان النبيذ غير الخاضع للضريبة يباع فيها بسعر أدنى!). وكانت أدلّة الأسفارالتي يتزود بها جميع المسافرين البعيدي النظر، تسجّل جودة الأطعمة والنبيذ، فضلاً عن الأسعار المتدتولة في المؤسسات الباريسية؛ وقبل فترة طويلة من ميشلان، نشر غْريمو دي لا رينيير تقويم الذواقة (1803)، للترويج للمستقبل المشرق. في القرن التاسع عشر، رسخت باريس نفسها كعاصمة للطعام الفاخر، وقد لاحظ أحد الزائرين أنه في “مجال الطهي” الشاسع هذا، أي المدينة، “لا يوجد شارع أو ممر أو مَفرق طرق بلا غطاء طاولة عليه ملعقة وشوكة وسكين جاهز لك. ” الكتّاب العظماء يتلاقون في المقاهي، ولكن أيضًا في وجبات العشاء، يُثنون عليها بعد ذلك في مراسلاتهم ورواياتهم. زِ على أن البعض يشارك في التطور الهائل لأدب فن الطهي، مثل ألكسندر دوما الذي كتب قاموسه الكبير في الطهي.
الجزء الأخير من هذا العمل المستنير للغاية يمتد من مطلع القرن العشرين إلى نهايته. وإذا استمرت باريس في كونها نموذجا، فإن المدينة ترحب بشكل متزايد بجميع مطابخ العالم وتتأقلم معها. فقد فتحت الإمبراطورية الاستعمارية والمعارض العالمية الأبواب أمام إطلالات غريبة جديدة لم يتم إنكارها أبدًا. ويؤكد المؤلف أيضًا على الطليعية المطبخية للطهاة في سبعينيات القرن العشرين (عصر “المطبخ الجديد”). ويشير إلى أن مطبخ باريس يبقى ليس فقط مرجعًا عالميًا، بل يستمر أيضًا في الإبتكار. وإذا تركنا جانبا كل مطاعم الوجبات السريعة التي تشوه جادة سان ميشيل، يمكننا القول أن باريس تظل عاصمة فن الطهو. إن كتاب باتريك رامبور ليس فقط واحدا من الأعمال التي يتخاطفها القراء، بل إنه يتمتع أيضًا بخاصية غير عادية… تثير شهيتك إلى الطعام.
* أصول بروكوبيو
في العام 1670، حط فرانشيسكو بروكوبيو دي كولتيلي، وهو شاب صِقلّي من باليرمو، رحاله في فرنسا وبدأ يعمل كنادل في مقهى صغير بقلب باريس، في سان جيرمان دي بري. كان طموحه كبيرا إلى درجة أنه قرر بعد بضع سنوات العمل لحسابه عن طريق شراء المؤسسة التي قام بتزيينها بشكل فاخر لجذب الزبائن الباريسيين الأثرياء.
وسرعان ما أصبحت المؤسسة الجديدة، التي أعاد تسميتها بروكوب، واحدة من أبرز المقاهي الأدبية في العاصمة. أعظم الكتاب والمثقفين في القرن الثامن عشر – ديدرو، فولتير، مونتسكيو، دالامبير – يستعرضون في بروكوب، الذي أصبح المقر الرئيسي الحقيقي خلال الثورة الفرنسية. هنا قام موسي (Musset) وفيرلين بتأليف بعض من قصائدهما وانتهى الأمر باجتماع “باريس كلها” حول طاولات المطعم. اكتسب مقهى “بروكوب” مرتبة أكبر مقهى أدبي في العالم، وكان يتردد عليه منذ أكثر من 200 عام كل من كان له اسم أو كان يأمل في التعريف بنفسه، سواء في عالم الأدب أو الفنون أو السياسة. ولدت أعظم الروايات في هذا المقهى: كتب ديدرو بعض مقالات الموسوعة داخل جدرانه، وأعد بنجامين فرانكلين ورقة تحالف لويس السادس عشر المقترح مع الجمهورية الجديدة هناك، ويقال انه كتب عناصر من دستور الولايات المتحدة المقبل.