1.في قيصريةِ فيليبّس، أعلن سمعانُ – بطرس إيمانَه بيسوع: "أنتَ هو المسيحُ ابنُ الله الحيّ". فامتدح يسوعُ هذا الإيمانَ، لكونه عطيّةً من الآبِ السماوي، وسمّاهُ صخرة – بطرس يبني عليها كنيستَه
ووعده بالسلطةِ الرسولية عليها(متى 16: 13-19). اعتدَّ سمعانُ – بطرس بنفسه، رافضاً أن يُسلّمَ يسوعَ للآلامِ والموت(متى 26: 35)، مُدّعياً أنّه "سيبذلُ نفسَه فدىً عنه"(يو13: 37). لكنَّه عند الخوفِ على نفسِه أنكرَ يسوعَ ثلاثَ مرّات، كما سبقَ وتنبّأَ له، فتذكّرَ وبكى بكاءً مرّاً(متى 26: 75). وعلى شاطئِ بحيرةِ طبرية، بعد قيامةِ يسوع من الموت، أعلنَ سمعانُ – بطرس حبَّه الشّديدَ ليسوع، ثلاثَ مرّات، مجيباً على سؤالِ يسوعَ المثلّث: "يا سمعانُ بنَ يونا أتحبّني؟ بنعم. وفي المرّة الثالثة، حزِنَ بطرس، إذ تذكّرَ من جديدٍ الخيانةَ المثلّثة، وأجابَ من صميمِ القلبِ بالتأكيدِ الشجاع: "يا ربّ أنتَ تعلمُ كلَّ شيء وأنت تعرفُ أنّي أحبُّك". فقال له يسوع: إرعَ خرافي"(يو21: 17). ومنحه نعمةَ روحِ القيامة، فانتزعَ الخوفَ من قلبه، وتنبّأَ له هذه المرّة عن موته من أجل إعلان سرِّ المسيح، هو الذي اعترض على موتِ يسوع من أجل فدائه. فانتعشَ في قلبِه الإيمانُ والحبّ، هاتان الركيزتان اللّتان عليهما تقوم الحياةُ الأسقفيّةُ والكهنوت، كما الحياةُ المسيحيّة، والحياةُ الرهبانية المكرّسة.
2. يسعدنا أن نحتفلَ هذا المساء بالرسامةِ الأسقفيّة لأخينا الأب مروان تابت، المطران المُنتخب لأبرشيةِ مار مارون – مونتريال في كندا، المولودِ في بحمدون، والداه الياس تابت ووداد أبو حبيب، حيث تربّى مع شقيقَين آخرَين. وفي جوٍّ من الإيمان والصلاة سمِعَ نداءَ الربِّ يدعوهُ للحياةِ المكرّسة والكهنوت في جمعيّةِ الآباءِ المُرسلين اللبنانيين الموارنة. فيها اختمرتْ دعوتُه المقدّسة، وتلقّى دروسَه الفلسفيّةِ واللاهوتيّة في جامعةِ الروحِ القدس – الكسليك حتى رسامتِه الكهنوتية في 20 تموز 1986. ثمّ أكملَ دراساتِه العليا في الولايات المتحدة الأميركيّة وأفريقيا الجنوبيّة في حقولِ الإدارةِ والتربية والفلسفة السياسيّة، وخدمَ رسالةَ الجمعيّة في هذَين البلدَين حوالي اثنتَي عشرةَ سنة من سنواتِ كهنوته الأولى.
ثمّ استقرَّ في لبنانَ حيثُ أُسندت إليه مهامٌ راعويّةٌ وإداريّةٌ وتربوية على مستوى جمعيّتِه والكنيسةِ المارونية، ومجلسِ البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، والمكتبِ الكاثوليكي الدُّوَلي للتعليم، والدوائرِ البطريركية، إلى جانبِ ما قامَ به من تعليمٍ جامعيّ في جامعتَي القديس يوسف – بيروت والروحِ القدس – الكسليك وإرشادٍ روحيّ، فضلاً عن المؤلفات والمقالات والمحاضرات والرياضات الروحيّة.
وتميَّزَ الأب مروان في كلِّ ذلك بالروحِ الكهنوتيّة، والجهوزيّةِ في الخدمة، والتّفاني في العطاء وحسنِ الإدارة، والنظرةِ البعيدة، وفنِّ التخطيط ورسمِ استراتيجياتِ العمل. فاختاره الروحُ القدس وسينودسُ أساقفةِ كنيستِنا المارونية وقداسةُ البابا بندكتوس السادس عشر مطراناً لأبرشيةِ القديس مارون في مونتريال – كندا، خلفاً لسيادةِ أخينا المطران جوزف خوري، الذي قدَّم استقالتَه من إدارتها لبلوغه السنَّ القانوني.
3. إننا نصلّي في هذه الرسامةِ المقدّسة على نيّةِ المطرانِ الجديد، لكي يباركَ اللهُ خدمتَه الأسقفيّة، التي يضع في سبيلِها كلَّ شخصِه وإمكاناتِه وخبراتِه وتطلّعاتِه. ونذكرُ بصلاتِنا الأبرشية، كهنةً ورهباناً وراهباتٍ ومؤمنين، من أجلِ خيرِهم جميعاً وفيضِ نعم الله عليهم. ونوجّهُ تحيّةَ شكرٍ وتقدير لسيادةِ أخينا المطران جوزف خوري، على سنواتِ الخدمة السبعَ عشرة فيها، بعد أن خدمَ كزائرٍ رسولي موارنةَ أوروبا الغربية والشمالية مدّةَ ثلاث سنوات. وإنّ لسيادتِه الفضل الكبير في التقدّمِ والازدهارِ الذي أحرزتْهُ الأبرشيةُ في عهدِ خدمته الراعوية: من شراءِ كاتدرائية القديس مارون في مونتريال، إلى تنظيمِ خمسَ عشرة كنيسة رعائيّة أخرى، وتطويرِها إنمائيّاً وروحيّاً وراعويّاً، بالتّعاونِ مع الكهنة الأبرشيّين وآباءِ الرهبانيتَين اللّبنانيّة المارونيّة والأنطونيّة. ولا بدَّ من الإشارةِ إلى الإنجازاتِ العمرانيّة على مستوى الكنائسِ الرعائيّةِ وقاعاتِها، وعلى مستوى اقتناءِ كنائسَ جديدة وبنائِها مع قاعاتِها، وسواها، ممّا جعلَ الأبرشية مجهَّزَة بشكلٍ مرموق، ويبقى تنظيمُ دوائرِها، وقد أولى سيادتُه الأولوية للرعايا وكنائسِها وهيكليتِها الراعوية، على حسابِ دائرتِه الأسقفية، لافتقارِه إلى كهنةٍ ولازديادِ حاجاتِ الرعايا الست عشرة. وما زلنا نذكرُ بالخيرِ سلفَه المطران جورج أبي صابر، أطال الله بعمره.
4. إعلانُ إيمانِ بطرسَ المميّزِ بيسوعَ في قيصريّةِ فيليبّس، وإعلانُ محبّتِه الشّديدة له على شاطئ بحيرة طبرية بعد القيامة، إعلانٌ واحدٌ مترابطٌ ومتكامل. فالإيمانُ يصبح قوّةً فاعلة في المحبة، والمحبةُ تتأسّسُ على الإيمان وتأخذ شكلها منه، على ما كتب قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في رسالتِه العامّة الأولى "الله محبة"(فقرة 7 و31). في تعليمِ القديس بولس الرسول، الإيمانُ هو معرفةُ الحقيقة وقبولُها(1طيم2: 4)، والمحبةُ هي السيرُ في نورِ الحقيقة والعملُ بمقتضياتها(أفسس4: 15).
نقرأ في رسالة قداسة البابا للصوم الكبير 2013: "بالإيمان ندخل في صداقةِ الربّ، وبالمحبة نعيش هذه الصداقة وننمّيها. الإيمانُ يحملنا على قبولِ كلامِ المسيح وتعليمِ الكنيسة، والمحبةُ تعطينا السعادةَ في تطبيقه والعملِ بموجبه"(عدد2).
5. أيّها الأسقفُ الجديد، أنت مدعوٌّ لتكونَ بفضل نعمةِ الأسقفيّة، مثل سمعانَ – بطرس، رجلَ الإيمانِ والمحبة. فبالعودةِ إلى نصّ الإنجيل، ندرك أنّ الاعتدادَ بالنفس يُضعفُ الإيمانَ ويعطِّلُ المحبة. فعندما اعتدَّ سمعانُ – بطرس بنفسه، ورفضَ أن يُسلَّمَ يسوع للآلامِ والموت، كما هو مكتوبٌ، حتى إنّه اعتدَّ ببذل نفسه في سبيل يسوع، سقطَ وأنكره عندما رأى نفسه في خطرٍ أمام جارية. كتب القديس أغسطينوس، في شرحه لهذا النصِّ من الإنجيل: "إيمانُ بطرس رفعه، واعتدادُه بنفسه أضعفه؛ إنكارُه ليسوع أذلّه، ودموعُه طهّرته؛ وبالمحبّة اكتسب روحَ القيامةِ وإكليلَ الاستشهاد(شرح إنجيل يوحنا، العظة 132، عدد4). ويضيفُ أغسطينوس، كان ينبغي أن يموتَ يسوعُ أوّلاً من أجل خلاصِ بطرس، لكي يستطيعَ بطرسُ بدوره أن يموت من أجل الكرازةِ بسرّ المسيح. هذا هو نهجُ الاسقفيّة المُشارِ إليه بالأحمر في لباس الأسقف، علامةِ دمِّ الشهادةِ والاستشهادِ الحسّيّ والروحي والمعنوي.
إيمانٌ بالمسيح لا بالذات، وحبٌّ للمسيح لا للذات، هذا هو جوهرُ الأسقفيّة الذي يطبعك اليوم، أيّها الاسقفُ الجديد، فيصوّرُك الروحُ القدس، الذي سيحلُّ عليك بوضع اليد ومسحةِ الميرون، على صورةِ يسوع المسيح الحبر الأزلي، راعي الرعاة الأعظم"(1بطرس5: 4)، معلِّماً للإيمان أصيلاً في التعليم والقدوة، وخادماً راعياً للمحبة متفانياً، ووكيلاً أوّلَ لأسرار الله أميناً. أمانتُك للمسيح ولتعليمِ الإنجيل هي خاتمُك،وتفانيك في خدمةِ المحبة تاجُك، وسهرُك كراعٍ صالحٍ على خير النفوس عصاك، وتضحيتُك في توزيعِ نعمة أسرار الله صليبُك.
6. بهذا الجوهرِ الأسقفيِّ المثلّثِ الأبعاد، يُسنِد إليك الربُّ يسوعُ رعايةَ خرافه. ففيما تجدّد في هذه الرسامة المقدّسة إعلانَ إيمانِك ومحبَّتِك للمسيح، يقولُ لك راعي الرعاة: "إرعََ خرافي"(يو21: 15).لا يقول لك "إرعَ الخراف" بل خرافي، لأنّه اقتناها هو بثمنِ دمِهِ على الصليب، والبشريّةُ كلُّها خرافُ المسيح. ما يعني أنّ الخرافَ ليست لك بل للمسيح. فالّذين يرعَون الخراف، يقول القديس اغسطينوس، بنيّةِ ربطها بشخصهم، لا بالمسيح، هؤلاء إنّما يحبّون أنفسَهم لا المسيح؛ مندفعين وراء شهوة المجد والسلطة والربح؛ يبتغون المحبةَ التي تدفع بهم إلى الطاعة والرغبة للمساعدة، وإلى إرضاء الله(المرجع نفسه عدد5). هؤلاء يوبّخُهم بولسُ الرسول باكياً، لأنّهم يبحثون عن مصالحهم، لا عن رغبات المسيح(فيل2: 20).
إيمانٌ بالمسيح ومحبةٌ شديدةٌ له هما دعوتُك ورسالتُك أيها الأسقف، في عالمٍ صعبٍ، وصفه بولسُ الرسول في رسالته إلى تلميذه طيموتاوس: "ستأتي أيامٌ يكون الناسُ فيها محبِّين لأنفسهم، محبِّين للمال، مدَّعين، متكبِّرين، مجدِّفين، ناكرين للجميل، منتهكين للحرمات؛ بلا حنان، بلا وفاء، وَقِحين، نَهمين، شَرسين، مُبغضين للخير، مُحبّين للَّذة أكثر من حبّهم لله"(2 طيم3: 1-4).
7. هذه الدعوةُ الأسقفيّة ورسالتُها لا تأتيك بالصدفة، بل وفقاً لتصميم الله. أنت تصبح أسقفاً في سنةِ الإيمان التي نعيشها، وفي عهد الإرشاد الرسولي: "الكنيسة في الشّرق الأوسط، شركة وشهادة"، وفي زمن الإعلان الجديد للإنجيل. ثلاثةُ أحداثٍ كنسيّةٍ ترسُم إطارَ خدمتك الأسقفية الراعوية، وكلُّها تستند إلى ركيزتَين: الإيمانُ والمحبة.
إتّكلْ على نعمةِ الله التي تصيِّرُك أسقفاً اليوم وكلَّ يوم، وعلى صلاة الأهل والجمعيّة والأبرشية والكنيسة، وعلى الشركة مع الجسم الأسقفي. وردّدْ أمام المسيح، راعي الرعاة، في قدّاس كلِّ صباح: "يا ربّ انت تعلم كلّ شيء وأنت تعرف أنّي أحبّك". وهو يجدّد لك المحبة والثقة: "إرعَ خرافي واتبعني". آمين.