ورئيس الأمطوش الأنطاكي الذي أتاح لنا فرصة اللقاء بكم في هذا البيت الذي يعبق بالتاريخ ويعكس صدى الأخوة والتلاقي بين بطريركية روسيا والبطريركية الأنطاكية منذ منتصف القرن التاسع عشر. هذا البيت، كما موازيه في دمشق، هو سفير المحبة الروسية الأنطاكية وقد شهد منذ نشأته لعمق العلاقة بين أنطاكية وروسيا وأسدى خدماتٍ جلى للكنيسة ولوطن.
مسيحيتنا لا تعني أبداً علائق مشتركة بين كنيستين، كما أنطاكية وموسكو وحسب، بل تعني أيضاً نوعاً من خميرةٍ تعجن كل النسيج الشعبي في المدى الروسي والأنطاكي خدمةً لإنسانهما. هذه المسيحية لا تعي ذاتها فحسب ولا تنكمش على تقوقع دينيٍ أو حتى عرقيٍ، بل تبسط يدها لتكون على مثال سيدها باسطةً يديها نحو الجميع وداعيةً إياهم للنهوض بأعباء الإنسانية كلها. مسيحيتنا، ومن حكم وجودها من غابر الأيام، مدعوةٌ أن تكون، كما كانت دوماً، توليفيّةً بين كل الأقنية. وهذا لا يعني مطلقاً أن تتخلى عن نوعٍ من هويتها وخصوصيتها وتعاليم سيدها، بل أن توظف هذه الهوية وهذه الخصوصية لدمج كل مكونات بلادنا في بوتقة الإنسانية والخير العام.
ومسيحيتنا في أنطاكية، بخصوصيتها المشرقية، ترى في وجه قريبنا في الإنسانية وجه السيد المسيح نفسه. مذبحها الإلهي هو مذبح الفقراء والمحتاجين. وخصوصيتها المشرقية قضت أن تتجاوز حدود الدول في مشرقنا لتنظر إلى هموم المشرق بجملته. وهذه الخصوصية جعلتها حاملةً هموم إنسانها ومقدمةً صلاتها وجهودها إلى الخالق لإزالة ثقل هموم الإنسان.
إنها مناسبةٌ، أيها الأحباء، كي نؤكد من جديدٍ أمامكم، أن كنيستنا الأنطاكية الأرثوذكسية كانت دوماً ابنة تلك الأرض وابنة همومها وقضاياها.
نحن كنيسةٌ أرثوذكسية الهوية، مشرقية الهوى، حواريةُ الوجود، وطنيةُ الانتماء للديار. انتماؤنا للديار جعلنا في مطلع أولئك الذين صنفوا في أوائل القرن العشرين على أنهم من "حركة التحرر العربي". والتحرر العربي ضم في ما ضم مسلمين ومسيحيين. هذا الانتماء الوطني عند الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية يجد صداه في الدور التاريخي الذي لعبته عبر الأجيال ومازالت.
وانتماؤنا إلى أرضنا هو الذي يجمعنا دوماً مع كافة أطياف بلادنا ويوجه قلوبنا إلى خير الإنسانية جمعاء. نحن، مسلمين ومسيحيين، أخوة التراب في ديارنا. نحن إخوةُ التاريخ ولحمةُ الجغرافية. نحن أجراس محبةٍ وآذان تسامح.وماضينا وحاضرنايدمغ حياتنا ويَسمُ مستقبلنا بمبادئ العيش المشترك والمواطنة، وقلبنا يخفق وينبض بأن الدين لم يكن يوماً عامل فرقةٍ لا بل سبيل وحدةٍ. ومن صميم وجودنا أن الوطن للجميع وأننا مؤتمنون على وحدة ترابه وخير إنسانه. نحن، مسيحيي أرض المشرق، متشبثون بأرضنا ومتجذرون فيها، ومن ترابها نتنشق رائحة الأجداد، ومنه أيضاً نشتل بذرة الإيمان بالله والوطن في قلوب أبنائنا، لتكبر وتنمو إيماناً بالله وحباً بالوطن.
نريد سوريا ونشاؤها وطناً للسلام. نريدها مرتعاً للطمأنينة. ومن حقنا أن نرى فيها الأمان، خطوةً أولى نحو السير للأفضل. فخرنا بسوريّتنا وبلبنانيتنا وبحضارتيهما لا يعني أبداً اتشاحاً بأثواب من الماضي وعيشاً في أخاديد التاريخ، بل استجلاءً لناصع حضارتهما رغم رواسب التاريخ. سوريا كانت دوماً بلداً لعيش مشتركٍ ولأخوة حقة، وما يجري فيها الآن غريبٌ على تاريخها القريب والبعيد. لم تكن سوريا يوماً مستعبدةً لأحد ولن تكون مستعبدةً للإرهاب والتكفير ولا لأي تطرفٍ ايديولوجي. سوريا التي أعطت فارس الخوري وشكري القوتلي وخليل مردم بك تنبذ كل منطق الصراع، وتتهلل بأن ترى أبناءها مجتمعين إلى حوارٍ صادقٍ وحلٍّ سياسي يصونها واحدةً موحدةً قويةً.
والعالم كله مدعوٌّ ليرى فيها قضية المهجرين والمخطوفين وليسكب جهوداً حثيثة في سبيل وقف كل تصادمٍ فيها. نحن في كنيسة أنطاكية، أبناء تلك الأرض، لدينا الشهداء والمهجرون والمخطوفون. لدينا مطارنة وكهنة وراهبات وأبناء وبناتٌ يدفعون ثمناً باهظاً لما يجري. وقضية المخطوفين ومنهم أخوانا يوحنا وبولس والكهنة والأم بيلاجيا وراهبات ويتامى معلولا هم برسم المجتمع الدولي والمنظمات الحكومية وغير الحكومية الذين نأمل منهم أفعالاً مقرونةً بالأقوال تفضي إلى الإفراج عنهم.
أما لبنان فهو قلب مسيحيتنا ورئة مشرقيتنا التي تتنفس تناغياً وانفتاحاً نحو الشرق والغرب. لبنانُ جبران وميخائيل نعيمة هو لبنان الحرف والثقافة والحوار في ذاكرة شعوبنا وكل شعوب العالم. ولبناننا مدعوٌ أن يعلو فيه منطق الحوار على منطق الاستقواء بالغير. نحن مدعوون أن نسلك في لبنان كما يقول كاتب نشيده الوطني رشيد نخلة: "كلنا للوطن للعلى للعلم". وعندما يكون مبتغانا لبنان، يكون همنا إنسانه وأمنه واستقراره والتجرد عن أنانيّاتنا ليسمو لبنان. عندما نهتم للبنان، نتمترس خلف انفتاحه ويكون همنا عيشه المشترك وصيانة هيبة الدولة فيه وصون السلطة من شبح الفراغ. لبنان يُصدق قولرشيد نخلة "شرقنا قلبه أبداً لبنان"، ومازال القلب بخير فالشرق كله بخيرٍ وبهاء.
ومن هنا أيضاً أرفع صلاتي من أجل العراق وفلسطين والأردن ومصر والمشرق والعالم كله. وأصلي دوماً من أجلكم يا صاحب القداسة، ومن أجل الشعب الروسي الطيب الذي يعشق ذكرى القداسة ويعانق أنطاكية وتعانقه بأشدَّ مودة. وأختم كلامي هذا بكلمات المطران أنطونيوس رئيس أساقفة فولين في 20 شباط 1913 التي توجه بها إلى سلفنا المثلث الرحمة البطريرك غريغوريوس الذي كان في زيارةٍ لروسيا في ذاك الوقت. وهذه الكلمات تختصر انطباعي لوجودي في روسيا وعلى قرب من هذا الشعب الطيب:
"فسجية الشعب الروسي أن ينحني ليس أمام العظمة الأرضية، بل أمام العظمة الروحية المقدسة منذ القديم بالنعمة. وعندنا لا يكرمون رتبة رئاسة الكهنوت لاتحادها بالغنى والأبهة، كما لو اتحدت بالجهاد والألم وإنكار الذات".
حماكم الله جميعاً، حمى الله روسيا والمشرق والعالم أجمع.
ليا عادل / تيلي لوميير – نورسات