في الاول من حزيران 2014، وقد قام المركز الكاثوليكي للدراسات والاعلام في الاردن ، بترجمة الرسالة إلى العربية، وتحمل عنوان :
"الاتصالات في خدمة ثقافة لقاء حقيقيّة"
نعيش اليوم في عالم يصبح "أصغر" يومًا بعد يوم، ويبدو فيه أنه من السهل لنا أن نقترب من بعضنا البعض، ولكن في الواقع تستمر الانقسامات داخل البشريّة بشكل قوي، ونرى، على مستوى عالمي، الفرق المخجل بين رفاهية الأغنياء وبؤس الفقراء، يكفي أن نخرج إلى الشارع لنرى التناقض بين الذي يعيش على حافة الطريق وأضواء المتاجر المتلألئة. لقد اعتدنا على رؤية هذا كلّه ولم يعد يؤثر فينا، والعالم يتألم بسبب أشكال الإقصاء المتعددة كالتهميش والفقر والنزاعات التي تمتزج فيها الأسباب الاقتصاديّة والسياسية وللأسف الدينية أيضًا. في هذا العالم عينه يمكن لوسائل الاتصالات أن تجعلنا نشعر بقربنا بعضنا من بعض، وأن نشعر بمعنى متجدّد لوحدة العائلة البشريّة تدفعنا إلى التضامن والالتزام الجديّ من أجل حياة أكثر كرامة. فالتواصل الجيّد يساعدنا لنكون أقرب ونتعرّف على بعضنا بشكل أفضل ونكون أكثر اتحادًا بعضنا ببعض. نحن بحاجة للنظر في هذه الاختلافات من خلال أشكال الحوار التي تسمح لنا بأن ننمو بالتفهم والاحترام، وثقافة اللقاء تتطلب منا جهوزية، لا في الأخذ فقط، وإنّما في العطاء أيضًا. وفي هذا الصدد، وفي عالم اليوم بشكل خاص، يمكن لوسائل الاتصالات أن تساعدنا.
لوسائل الاتصالات أيضًا نواح معقدة: فسرعة المعلومات تتخطى قدرتنا على التفكير والحكم ولا تسمح لنا بتعبير عن الذات مدروس وصحيح. وتعدد الآراء الذي يمكن اعتباره كنوع من الغنى بإمكانه أيضًا أن يغلقنا في دائرة معلومات تتناسب فقط مع انتظاراتنا وأفكارنا. والبيئة التواصلية التي تساعدنا على النمو يمكنها على العكس أن تضللنا، ورغبة التواصل الرقمي يمكنها أن تحملنا على الانعزال عن قريبنا وذلك الذي يعيش بقربنا. هذه كلها حدود واقعيّة، لكنها لا تبرّر الرفض لوسائل الاتصالات الاجتماعيّة، لا بل تذكرنا بأن التواصل هو توسع بشري أكثر منه من تقني. لنسأل أنفسنا إذًا: ماذا يساعدنا لننمو في البيئة الرقميّة في الإنسانية والتفاهم المشترك؟ علينا أن نستعيد بعضًا من معنى البُطء والهدوء، علينا أيضًا أن نكون أكثر صبرًا إذا أردنا أن نفهم من هو مختلف عنا. وإن كنا نرغب فعلاً بالإصغاء للآخرين سنتعلم عندها أن ننظر إلى العالم بأعين مختلفة ونُقدِّر الخبرة البشريّة التي تتجلى في مختلف الثقافات والتقاليد.
كيف يمكن للتواصل إذًا أن يكون في خدمة ثقافة لقاء حقيقية؟ ماذا يعني بالنسبة لنا نحن، تلاميذ الرب، أن نلتقي بشخص ما بحسب الإنجيل؟ كيف يمكننا بالرغم من محدوديتنا وخطايانا أن نكون حقًا قريبين بعضنا من بعض؟ يمكن لهذه الأسئلة أن تُختصر بالسؤال الذي طرحه أحد الكتبة على السيد المسيح: "من هو قريبي؟" (لو 10، 29). أجد الجواب في مثل السامري الصالح والذي يشكل أيضًا مثلاً للتواصل، لأنه في الواقع، من يتواصل مع الآخر يقترب منه، والسامري الصالح لم يصبح فقط قريبَ ذلك الرجل الذي تُرك بين حيّ وميت على قارعة الطريق وإنما أخذه على عاتقه واهتم به. ويسوع يقلب وجهة النظر: فالأمر لا يتعلق بالأعترف بالآخر كشبيه لي، وإنما بقدرتي على التشبه بالآخر. فالتواصل يعني أن ندرك بأننا بشر، أبناء الله.
لا يكفي أن نعبر "الطرقات" الرقميّة، أي أن نكون متصلين بالشبكة، وإنما على هذا الاتصال أن يترافق بلقاء حقيقيّ، لأننا لا يمكننا أن نعيش وحدنا، منغلقين على أنفسنا. نحن بحاجة لنُحِب ونُحَب. نحن بحاجة للحنان. إن استراتيجيات التواصل لا تضمن لنا جمال وحقيقة التواصل، ولا يمكن لعالم الاتصالات أن يكون غريبًا عن الاهتمام بالبشريّة ولذلك فهو مدعو أيضًا للتعبير عن الحنان، فتصبح الشبكة الرقميّة مكانًا غنيًّا بالإنسانيّة. وحده الشخص الذي يتواصل واضعًا مصداقيته على المحك يمكنه أن يصبح مرجعيّة للآخر، فالمشاركة الشخصيّة هي أساس المصداقية في التواصل، ولهذا السبب بالذات يمكن للشهادة المسيحية، بفضل الشبكة، أن تصل إلى الضواحي الوجوديّة.
وكما أكرّر غالبًا: بين كنيسة "تخرج من ذاتها" معرّضة للحوادث كمطلق أي شخص يخرج إلى الشارع، وكنيسة مريضة بالتقوقع والمرجعيّة الذاتيّة، أنا أفضل الأولى بلا شك. والطرقات هي طرقات العالم حيث يعيش الناس ويمكننا التواصل معهم فعليًّا وعاطفيًّا. وبين هذه الطرقات، نجد تلك الرقميّة أيضًا والمجروحة غالبًا: رجال ونساء يبحثون عن خلاص أو رجاء. بفضل الشبكة أيضًا يمكن للرسالة المسيحيّة أن تسافر "حتى أقاصي الأرض" (أع 1، 8). وفتح أبواب الكنائس يعني أيضًا فتحها على البيئة الرقميّة، إما ليتمكن الناس من الدخول مهما كانت الحالات التي يعيشونها وإما ليتمكن الإنجيل من عبور عتبة الهيكل والخروج للقاء الجميع. نحن مدعوون لنشهد لكنيسة تكون منزلاً للجميع، فهل نحن قادرون على نقل وجه كنيسة بهذا الشكل؟
فالشهادة المسيحيّة لا تقوم على الكثرة المفرطة للرسائل الدينيّة وإنما على الرغبة في تقديم الذات للآخرين من خلال الاستعداد للانخراط بصبر واحترام في أسئلتهم وفي شكوكهم، وفي مسيرة البحث عن الحقيقة وعن معنى الوجود البشري. من الأهميّة بمكان أن نعرف كيف ننخرط في الحوار مع رجال ونساء اليوم، ونقدم لهم الإنجيل أي يسوع المسيح الإله الذي صار إنسانًا ومات وقام ليحررنا من الخطيئة والموت، وهذا التحدّي يتطلب منا عمقًا وانتباهاً للحياة والخبرة الروحيّة. فالحوار يعني أن نقتنع بأن الآخر لديه شيئ جيّد ليقوله وأن نفسح المجال لوجهة نظره واقتراحاته. الحوار لا يعني التخلي عن أفكارنا وتقاليدنا وإنما عن الإدعاء بأنها فريدة ومطلقة.
لتقدنا صورة السامري الصالح الذي يضمّد جراح الرجل الذي تعرض للضرب، ويصَبَّ علَيها زَيتاً وخَمراً، فيصبح تواصلنا مع الآخرين زيتًا معطرًا للألم وخمرًا طيبًا للفرح. وليشعَّ نورنا لا من خلال خدع ومؤثرات خاصة وإنما من خلال اقترابنا بمحبة وحنان من الذي نلتقي به مجروحًا على قارعة الطريق. لا تخافوا إذًا من أن تصبحوا مواطنين في البيئة الرقميّة، لأن انتباه الكنيسة وحضورها في عالم الاتصالات مهم جدًّا لتحاور إنسان اليوم وتحمله على اللقاء بالمسيح: فالكنيسة التي ترافق المسيرة تعرف أيضًا كيف تسير مع الجميع. وفي هذا الإطار يشكل تطور وسائل الاتصالات والمعلومات تحديًا كبيرًا يتطلب منا طاقات نضرة وتصورًا جديدًا لننقل للآخرين جمال الله.
زينيت