{mosimage}عندما ينتظر الإعلامي ملاّلة تقله إلى عمله صباحاً وتقيه القنص وحواجز الهوية، ويترقبها مساءً كي تعيده إلى بيت مهدد بالقصف، يصبح الروتين هذا جزءاً من يوميات «عادية» لحرب أهلية قتلت الآلاف ولم تفرّق بين إعلامي ومدني.
وعندما يغتبط زميل بنهار كامل خال من الرصاص،
ويكتب مقدمة طويلة جداً عن وقف إطلاق النار، كما حدث مع الإعلامي عرفات حجازي، ولكن سرعان ما تخيّب أصوات القصف ظنه فور بدء «جنريك» الأخبار، فيضطر إلى رمي الأوراق جانباً ليقول على الهواء «الوضع الأمني كما تسمعون»، تصبح الكلمة للحرب وقد اختارت لحظتها الإعلامية لتعلن عن استمرارها.
وعندما تنتهي نشرة الأخبار على صرخة «اللهُ اكبر» فتصدم زميلة بالدماء على درج مدخل استوديو ويتضح ان زميلها قد أصيب، وهو ما حدث مع الإعلامية سعاد قاروط العشي. تكون الحرب قد استهدفت الاستوديو.. بعد ان سمته عدوها عن سبق إصرار .
وعندما ترسل الإعلانات من منطقة إلى أخرى عبر وسيط من «المَيلة التانية» تكون الحرب قد رسمت خطوط تماسها. وهذا ما حدث مع رئيس مجلس إدارة تلفزيون لبنان السابق جان كلود بولس. وهي بطبيعة الحال تستطيع ان تجبر الناس ـ كل الناس ـ على المكوث في الملجأ لأشهر من دون مؤونة وهو ما حدث مع الزملاء جان خوري وحجازي وغيرهم الكثيرين.
يصعب اختصار ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية والمفاعيل التي تركتها على ساحة الإعلام في لبنان بعد أن فلت العقال مع اندلاع الشرارة الأولى، لكن شهادات بعض من الزملاء الذين واكبوها، تجمع بعد سنوات على نهايتها الافتراضية، أن الإعلاميين حركتهم السياسة وليس العكس، لا بل كانوا عاجزين أمام الارادة السياسية ـ الحربية، وان القــنوات الخاصــة كــانت المستفيدة أولاً وأخيراً، بينــــما دفع «تلفزيون لبـــنان» فاتورة هـــائلة تمــثلت بالإصـــرار على موته مقابل انبـعاث حياة الشاشات الأخرى الخاصة.
بين الـ7 والـ11
ان يكون المرء إعلامياً في الحرب، تحد كاف بحد ذاته، لكن الاعلامية سعاد قاروط العشي واجهت مسؤولية إضافية، إذ كانت عام 1973 تحاول ان ترسخ اسمها كامرأة عاملة في المجال الإعلامي، قبل ان يحل سريعاً عام 1975 «تحد كبير أن تكوني امرأة متزوجة ولديها أولاد وزوج وحياتك دوماً في خطر. الحرب مجنونة والقصف كان عشوائيا،ً والبيت كان مستهدفاً مثل مكتب العمل، كانت القذيفة تلحقنا كأنها ترصدنا. كنت غالباً أعود لأجد الأهل والأولاد وزوجي مرعوبين. لقد عاشوا حالة رعب فظيعة بشكل يومي. دفعنا ثمن الخوف من أعصابنا».
تحضر ذكريات الرعب المتنقل أيضاً على لسان جان كلود بولس الذي تنقل بين الإعلام والإعلان طوال سنوات الحرب: «قصر عمرنا مرات ونحن ننتظر اتصالاً يطمئننا على سلامة أولادنا بعد سماع دوي انفجارات».
يوحد رجاء «يا رب ما تنعاد» عبارتي بولس الذي كان يعمل في الحازمية والعشي التي كانت تعمل في تلة الخياط اثناء الحرب. علماً انه قبل موافقة مجلس الوزراء على انشاء «شركة تلفزيون لبنان» عام 1978، كانت شركة «التلفزيون اللبنانية» تبث على قناتين هما 7 و9 بدءاً من عام 1959، وفي عام 1962 بدأ البث الفعلي لشركة «تلفزيون لبنان والمشرق»، وعندما أتت الحرب انقسم التلفزيون الرسمي آنذاك إلى قناتين متحاربتين هما قناة 11 في الحازمية وقناة 7 في تلة الخياط، أما قناة 9 الخاصة بالبرامج الأجنبية، فلم يعد لها مكان.
تتذكر العشي التي عملت في تلة الخياط: «كنا نمثل نصف اللبنانيين، بطبيعة الحال هذا يعني اننا خسرنا النصف الآخر، وهذه خسارة معنوية ومادية استهلكت أعصابنا». وتتابع: «كنا نعتبر إننا ندافع عن الشرعية وأن المعركة معركة بقاء بالنسبة إلينا. كنا نمثل فريقاً معيناً كي نحمي التلفزيون. كان صعباًَ ويحز بالنفس ان يكون التلفزيون، الموحد قبل الأحداث، عبارة عن خطين متعارضين لا يلتقيان».
مع ذلك تقول ان إدارة التلفزيون بقيت موحدة «كان هناك تراشق ولكن الإدارة كانت واحدة وكنا نتواصل من وقت إلى آخر وكانت هناك صداقات بين الزملاء».
الفكرة نفسها يقولها بولس «لم يجمع قناتي 7 و11 سوى الاعلان، وما خرق هذه الحرب كانت الصداقة وحب الشباب لبعضهم، وكثيراً ما سمعنا عن شباب مسلمين أنقذوا مسيحيين من الموت في تلة الخياط والعكس في الحازمية».
بدوره، يؤكد الإعلامي عرفات حجازي أن الحرب مزقت الإعلام. وان البداية كانت عندما انقسمت شاشة التلفزيون و«كانت المواجهات تدور على ساحتين: ناس بتقوّص ببواريد وناس بتقوّص بالأقلام».
أما هو شخصياً فيعتبر انه لم يترك موقعه كإعلامي برغم عمله لسنوات في تلة الخياط «بقيت أقاتل لوحدة البلد، عندما يكون هناك بارقة أمل لوقف القتال كنت أخرج إلى الهواء مبتسماً». رفضت كلمة انعزال واستعملت «الطريق الآخر» وكان هذا مأخذ البعض علي. ويتابع «انكفأت مدة شهر عندما اعتدي على منزلي وعائلتي وأطلقوا النار بين أقدامهم. كنت أعيش كالبدو الرحل.. كل 15 يوماً انتقل من مكان إلى آخر».
يتذكر حجازي يوميات من القناتين 7 و11 اللتين«انفصلتا ثم توحدتا عدة مرات». ويؤكد كما بولس ان ابرز محاولات التوحيد كانت في بداية عهد رئيس الجمهورية الياس سركيس: «تدخل مدير عام الأمن العام فاروق أبي اللمع، وقررنا الخروج بنشرة موحدة، فتفاجأ اللبنانيون بظهوري مع زميلي جان خوري من القناة 11 في الحازمية، واستهليت النشرة بعبارة «إعلام موحد للبنان موحد».
لم تكن تعني فترات الوحدة بين قناتي 7 و11 شهر عسل بالنسبة إلى الإعلاميين الذين اختبروا ذكريات قاسية «مع ان دقائق تفصل الشياح وعين الرمانة، انقطعت عن عائلتي في حي صفير ثلاثة أشهر. كنا 15 موظفاً في الحازمية بين صحافيين وتقنيين ننام سوياً في الملجأ بلا طعام في كثير من الأحيان. عرف بوجودنا قائد قوات الردع العربية سامي الخطيب وبات يرسل لنا الثياب الداخلية وأحياناً الطعام، وكنا نتقاسم الادوار في الجلي والتنظيف».
لكن الإطلالة، ومعها المعاناة والذكريات الموحدة لم تصمد بعد 6 شباط 1984، وعاد كل «منطقته».
هنا يختار الإعلامي جان خوري في اتصال مع «السفير» ان يبقى ذكرياته بعيداً عن الإعلام. بينما يفضل حجازي ان يسترجع أكثر من «سالفة» تعود لأيام البث الموحد، كانت عاقبتها فصله مع زميله جان خوري لأشهر «كما عندما قررنا ألا نلتزم بتراتبية الأخبار، وقرأنا أولاً خبر توقف اعتصام جامعي القمامة في بيروت». وعلى قاعدة شر البلية يتذكر انه اضطر ان يذيع خبراً من القصر الجمهوري قبل منتصف الليل وهو يرتدي ثياب النوم.
نقص الإعلام
يشدد بولس ان التعاطي مع الحرب كان يتم بوصفها «وسيلة حياة لا وسيلة موت» برغم كل الرعب.
يسترجع كيف انه في 13 نيسان 1975 صودفت عودته من رحلة في الجبل مع أصدقائه «رأينا مسلحين في الاشرفية، أناس يلبسون الكمامات، لم نكن ندري ما الذي حدث». وينطلق من هنا ليلفت إلى ما يسميه «نقص في الإعلام» في تلك الفترة: «كان التلفزيون يعرض برنامجاً عن زيمبابوي، لم تكن إذاعة لبنان تغطي ما يجري، استمعنا إلى إذاعة «مونتي كارلو» حتى فهمنا ما الحدث». مشيراً إلى ان هذا كان مميتاً « لم يعرف الناس ماذا يجري، وغياب الاعلام كان خطراً لأنه لم يحذر الناس. لاحقاً تغير الوضع وبتنا نلجأ إلى «صوت لبنان» و«لبنان العربي» والصحف وغيرها».
وبما ان بولس كان قد ترك التلفزيون منذ عام 1970 ليعمل في شركة إعلانات «كانت الصعوبة بأن أوصل الإعلان إلى وسائل الإعلام من «تاني مَيل». وهنا يتذكر كيف كان ينتظر الراحل غاستون شيخاني ليوصل الأفلام إلى الحمرا.
برغم عمله في الإعلان، حرص بولس ألا ينقطع عن التلفزيون كمدير برامج. «كنا ننفذ الكثير من البرامج في الحازمية، اصررنا رغم الظروف ان نكمل وقدمنا برنامجاً عن «المونديال». لم ندع الحرب تغلبنا، أما برنامج «أحد على الهواء» فكان ابتكاراً يومها إذ استمر البث من التاسعة حتى السادسة مساء، وتابعنا تنفيذ البرامج إلى ان قصف استوديو الحازمية فتوقفنا».
الفاتورة
يتفق الجميع ان فاتورة الحرب، إعلامياً، دفعها «تلفزيون لبنان» الذي كان وحيداً على الساحة، إلى ان ظهرت قنوات خاصة بدأت تأخذ مكانه شيئاً فشيئاً، منذ الثمانينيات. يذكر بولس انه في مرحلة ما بلغ عدد التلفزيونات 65 قناة في البلد على قاعدة «طرة نقشة»، «أي أن القيمين عليها علموا أن بعضها سيبقى والبعض الآخر سيذهب ومعظمهم استفاد من الأمر. مات «تلفزيون لبنان» اليوم كي يعيشوا هم».
أما حجازي فيعلق: «السياسيون استفادوا من الحرب. زادت الشاشات واقتسموها مغانم. كل شاشة لها حزبها وطائفتها». هنا يذكر حجازي بأرشيف تلفزيون لبنان «الذي عبئ ونقل بالشاحنات، لم نعرف كيف اختفى وكيف بيع». ويتابع: «حتى عام 2012 كل الهواء كان من حق «تلفزيون لبنان» فقط، وكان بإمكانه في مرحلة سابقة أن يقيم دعوى يطلب فيها حق تعويض من القنوات الخاصة».
التشديد يبدو واضحاً على ان اللعبة كانت أكبر من الاعلاميين وان هؤلاء لم يملكوا خيار ممارسة دور مختلف عن ذاك الذي مارسوه، والمفارقة ان الجميع يشدد ان الحال لا تزال على ما هي عليه في الاصطفافات الحالية، برغم ان الجميع يردد «تنذكر وما تنعاد».
مايسة عواد- جريدة السفير 14.04.2009