المسألة معقدة وخطرة؟ نعم. لكنها تستحق.
احترف عاصي ومنصور الفن في حدود عام 1943. "مع الاستقلال بدأنا"، كان يقول عاصي الذي تولى قيادة التجربة الرحبانية كمتقدم بين أخوين، من دون ان يدري ان الأستقلال الوطني الذي ناله لبنان في ذلك العام سوف يكون قاعدة لإستقلال فني مواز ليس عن الفرنسيين اولي الأمر في الإنتداب، بل عن الغناء المصري والبغدادي والبدوي الذي كان سائداً في لبنان حينذاك. بعض الحفلات المحلية في انطلياس، بلدة عاصي ومنصور، وبعض الدروس الموسيقية للشابين الموهوبين معاً، وبعض العزف على الكمان والبزق، وكثير من الإرادة والأقدام، كانت هي البداية التي جاءت بعدها مرحلة الإحتراف الجدي بدراسة معرفية للموسيقى، والعمل عزفاً في بعض الملاهي، والإنضمام الى رعيل "إذاعة الشرق الأدنى" التي تحوّلت بعد أعوام… "الإذاعة اللبنانية" الرسمية.
كان إنتاج عاصي ومنصور، اولا، افرادياً، بمعنى أنك كنت تسمع أغنية او قصيدة أو اسكتشاً ملحناً من تأليف أحدهما وتلحين الثاني أو العكس كما تقول غلف بعض الإسطوانات القديمة ("لملمت ذكرى لقاء الأمس" شعر منصور، تلحين عاصي)، وظل الأمر على هذا المنوال حتى اندمجا تحت إسم "الأخوين رحباني"، ومنذ ذلك الوقت لم يعد أحد (إلاّ قلّة "تعرف ولا تعرف" من المقربين جداً) يعلم ماذا كتب أو لحن هذا أو ذاك منهما بالضبط، وصار إسم الأخوين توقيعاً ثابتاً، ودخل عاصي ومنصور عميقاً عميقاً في سرّهما الجميل، وتضحيتهما السامية بـ"الأنا" لصالح "نحن" في الشعر والموسيقى والمسرح، ثم انضمت فيروز اليهما فكانوا بالفعل من أبطال معدودين في الإستقلال الفني اللبناني: صناعة هوية غنائية وموسيقية لبنانية نابعة من جذور مترامية في الموسيقى السريانية والبيزنطية الكنسية، وفي الفولكور البلدي، وفي الألحان المصرية القديمة، وفي الموسيقى العالمية، وتكونت للأغنية اللبنانية شعراً وألحاناً وأداءً، وكذلك للمسرح الإستعراضي، شخصية إبداعية ذات مواصفات خاصة غير منغلقة على حدود أو تقسيمات في الجغرافيا او التاريخ الفني، وفي الوقت نفسه، فاتنة في محليتها. ومن المحلية تأتي العالمية: هكذا تقول جوائز نوبل للآداب على الأقل، أو الأكثر!
إن احداً من الذين كتبوا عن الأخوين عاصي ومنصور الرحباني في تجربتهما المشتركة المدهشة في المسرح الغنائي، لم يتجرأ على ملامسة خط احمر ومجهول، أو الإقتراب منه، يتمثل في: ما هو دور عاصي وما هو دور منصور بالتحديد، أي ماذا فعل كل منهما، على حدة، في تلك المرحلة الطويلة الخلاّقة شعراً ومسرحاً وموسيقى وفكراً واستعراضاً وأداء غنائياً مذهلا بصوت فيروز، وبأسلوب فني جديد، مختلف، تجاوزي يصل مع الماضي ويقطع في آن واحد، ويتقدّم في إتجاه المستقبل مضيئاً وصانعاً حياة إبداعية إستثنائية.
في تجربتي الشخصية مع الأخوين رحباني، لا أخفي أنني قبل معرفتي الوطيدة بهما 1977، وبعدها، كانت تسكنني رغبة عارمة في معرفة من كتب أو لحّن هذا المقطع المسرحي أو تلك الأغنية الفيروزية أو حتى تلك المسرحية. كل المسرحيات، نصوصاً وألحاناً، كانت "محفوظة" عندي عن ظهر قلب، ولا يزال أغلبها إلى الآن في مكانه في الذاكرة. ولما عييتُ عن معرفة شيء من هذا القبيل، لا من عاصي ولا من منصور، بتُّ أتحين الفرص "المناسبة" بين الإثنين عليّ أروي غليلي وفضولي و…"غرامي" الذي لا يصدّق، بهما، لكن، على ما يبدو، كانا لي بالمرصاد. هذه الواقعة مثال على "سرية" الأخوين على مرّ السنين:
مطلع عام 1980 كان الأخوان عاصي ومنصور يقدمان مسرحية "الشخص" في الأردن، ببطولة الفنانة رونزا، بعدما اعتمداها نجمة لمسرحهم إثر خلاف حاد جداً مع فيروز عام 1979، وكانت فيروز لعبت المسرحية في البيكاديللي 1968. في كواليس المسرحية جلستُ الى عاصي نتبادل الحديث حول غير موضوع سياسي (إبان حرب لبنان الأهلية) وفني، عندما سألته عما إذا كان هو ومنصور متشابهين أو متطابقين في كل شيء، فأجاب: "لأ. أنا مع اللحن، وهو مع الموسيقى (يقصد التأليف)، بس كمان انا بألّف وهو بيلحن". فاستوضحته ممازحاً: "حزورة؟" فقال: "لا. فكّر فيها بتلاقيها". كأنني عثرت على لُقية ثمينة، حين فكرت فيها. فما قاله عاصي، ولو بتورية في لحظة "اعتراف"، قدّم اليَّ معلومة كانت تراودني… بالتحليل، لكنها غير مثبتة. جاء كلام عاصي ليثبت بعض ما أفكر فيه عن مزاج عاصي الشخصي، ومزاج منصور الشخصي في الألحان والموسيقى. لكن كان ينبغي أن اسأل منصور رأيه في الأمر لأؤكد المعلومة من الطرفين.
راحت سنة… جاءت سنة وسنوات، حتى عام 1998 وكانت تُعرض مسرحية "آخر أيام سقراط"، حين جلستُ الى منصور في منزله بإنطلياس نتحدث في… "كل شيء" كالعادة (وصوتي يصل من انطلياس الى بكفيا كما كان يقول)، ورويت له ما قال لي عاصي عام 1980. نظر منصور إليّ بعدما سألته: "صحيح هالشي؟" وردّ: "إذا قاله عاصي… يعني صحيح". وإذا (الشرطية) هذه ليست تشكيكاً في معلومتي، بل كما قال لي بعد ذلك، خوفاً من أن يكون المقصود بالجملة التي أرويها عن لسان عاصي، الإيقاع به ليعترف لي بسرّ من أسرارهما، هو وعاصي. ثم هزّ رأسه هزّة من "اكتشف" فيه أحد أمراً دفيناً!
الى هذا الحد كان عاصي ومنصور "نائمين" على حقيقتهما المشتركة التي حيّرت "المابتحيّر"، فأدنى معلومة "تقسيمية" عنهما كانا يتعاملان معها وكأنها تؤدي الى… مقتل، فينكرانها ما استطاعا، وبما ملكت أيمانهما، إلاّ من أخذها غيلة، فنهما، كمثل ما فعلت!
الغريب أن كل ما عرفته في حياتي "المديدة" مع عاصي ومنصور من عام 1977 حتى 2009، وبشكل مؤكد، من أسرار (عملاقة!) هو أن أُغنيتي "يا رايح ع كفرحالا" و"سوى ربينا" من تلحين عاصي، و"تراب عينطورة" و"راجعين يا هوى" من تلحين منصور، وثلاث – أربع مقاطع مسرحية اخرى لا تُغني طبعاً ولا تسمن من جوع المعرفة. وهل هذا غير رذاذ… من بحر، أو في أفضل الإحتمالات ورود قليلة من جنائن معلّقة.
ماذا يعني ذلك؟
يعني أن النقص في المعلومات الدقيقة حول دور عاصي، ودور منصور، في هذه المسرحية أو تلك، هو سبب اول في عدم الإقتراب من هذا الخط الأحمر المجهول، وصعوبة التمييز بين شخصية أحدهما وشخصية الاخر (الاّ في العموميات وبعض التفاصيل) نظراً الى ذوبان الفروقات في اطار كلي، هو سبب آخر، ويضاف الى ذلك سبب إرادي حديدي تجلّى في إحاطة عاصي ومنصور هذا الموضوع بجدار سميك من الكتمان. لقد غرق عاصي في منصور، وغرق منصور في عاصي، وغرق الجمهور اللبناني والعربي على مختلف مستوياته، من النخب الثقافية والفنية الى السواد الأعظم من المعجبين والمحبين "في كل مكان"، بعاصي ومنصور وفيروز، وكان الجميع يشعر بأنه غرق لذيذ في المتع الفنية الراقية، فلماذا إذاً الأسئلة العبثية، ولماذا البحث في الممنوع… بأمر رحباني رفيع لا يُناقش كأغلب الأوامر الفنية الرحبانية الديكتاتورية… الجميلة؟
غير إن الفضول الفطري والمكتسب لدى البعض كان يطل برأسه بي حين وآخر، إما ليتقصى شيئاً عن حقيقة ما يجري بين عاصي ومنصور لإرواء عطش "التجسس"، وإما للنيل من أحدهما او كليهما. كأن يقال ان عاصي كان الملحن، ومنصور كان الشاعر، او ان عاصي كان يضع الأفكار المسرحية، ومنصور يضع الرسم التنفيذي، او غير ذلك مما لم يكن بالفعل إلاّ وهماً أو تخميناً او ضرباً بالرمل او… استدراجاً لأحدهما ليجيب او ليرد على الأقاويل فيتم اكتشاف شيء من خلال الاجابة او الرد.
وحين كان أصحاب الفضول ييأسون من معرفة يد عاصي من يد منصور في الصنيع الرحباني لتفضيل هذا على ذاك او العكس، كان بعضهم المغرض طبعاً، يذهب ابعد في السوء، كأن يقال ان عاصي ومنصور كانا يكتبان ويلحنان مسرحياتهما. لكن الأغنية التي تروج وتنتشر شعبيا في كل مسرحية هي من تلحين فيلمون وهبي، على اعتبار ان الأخوين كانا يطلبان لحنا لفيروز من فيلمون في كل مسرحية، وكان اللحن بالفعل ينجح في الوصول الى الجمهور بسلاسة منقطعة النظير، انما من دون ان يكون ذلك اللحن هو الوحيد الذي ينجح في المسرحية، فأغلب اغاني المسرحيات الرحبانية لفيروز ونصري شمس الدين ولغيرهما من اصوات الفرقة الرحبانية كانت تنجح كنصوص والحان واداء وتتألق…
خلاصة القول ان التشكيك كان حاضرا في كل حين حول الأخوين رحباني. بل اكثر: كانت كل مسرحية جديدة للأخوين وفيروز تواجَه لدى كثير من الجمهور والنقاد بأن المسرحية التي سبقتها لهما كانت افضل، ودائما! لماذا؟ لا احد يعرف. وهكذا دواليك. وبتبريرات عجيبة، وابناء ذلك الزمن، في الاعلام والفن، يتذكرون جيدا. حتى كبار النقاد في كبريات المنابر الصحافية وقعوا في هذه الاشكالية غير المفهومة فانتقدوا المسرحيات ايام عرضها ثم امتدحوها بعد ذلك بسنوات!
المشككون استمروا. والاخطر انهم تجددوا، بشكل غريزي، من جيل الى جيل. واذا كان "بعض" الجيل القديم قد عاصر الاخوين وشكك فيهما معا في حياة عاصي، ثم فضل عاصي على منصور بعد وفاة عاصي، وحاول ادعاء معرفة "خفايا" رحبانية عاصرها سنا على الاقل، من دون اي اثباتات جدية، فإن بعض الجيل الجديد من المشككين لم يعاصر تجربة الاخوين رحباني. ولا عرف شيئا من تلك "الخفايا"، ومع ذلك تبنّى التشكيك استنادا الى قول عابر لفنان هنا، او رأي ذي خلفيات لفنان آخر هناك، او استنتاج متسرّع لصحافي هنالك.
وبما أن عاصي الرحباني توفي عام 1986، فإن تشكيك الجيل الجديد كفّ عنه، وانصبّ على منصور (على اساس ان "الحي مطموع به" كما يقول المثل الشعبي)، وهذه المرة بالقول ان عاصي كان "كل شيء" ومنصور كان "شيئا" من "كل شيء" هو عاصي. وكان منصور، اذا سئل، يبتسم بشفتيه، ويحزن بقلبه، ويضحك بعقله على كل من ادعى من هؤلاء واولئك من الجيلين معرفة في "الخفايا" الرحبانية، وقد "حفظ" شيئا عن "بعضهم" وغابت عنه اشياء: انها حكاية الغموض الساحر.
يجب الاعتراف هنا، بأن منصور بعد رحيل عاصي، كان جبارا في مواجهة ضربات سيوف الاتهام ضده على مدى ربع قرن، لأنه لو ضعف وغلبته "الأنا" وباح بأي حقائق حول ما فعل عاصي وما فعل هو، لانهدم البيت عليه وعلى قبر عاصي وعلى صوت فيروز وعلى كل ما كان من المجد الرحباني، وعلى الجمهور الكبير، ولرأينا حرب "داحس والغبراء" رحبانية تمتد الى الورثة، وورثة الورثة الى ما لا نهاية…
لم يكن عاصي ومنصور نسختين متشابهتين كما قال عاصي، واكد منصور، او كما يعتقد بعض المبالغين. كان عاصي عاصي. وكان منصور منصور. وكانت بينهما فروقات اساسية حينا، طفيفة احيانا. ولعل اجتماع تلك الفروقات في نسيج فني واحد على عمر فني طويل (1949 – 1986) هو الذي جعل التجرية الرحبانية غنية بهذا القدر الكبير: غنية بالاختلاف الذي تكامل في النهاية، بين شخصين، هذا يضيف الى ذاك ما هو بارع فيه اكثر، وذاك يضيف الى هذا براعته في حيز آخر. اما ما يتشاركان فيه من القدرات المضيئة فتحصيل حاصل في قوته واثره وخيراته…
بدقة اقول:
كان عاصي شاعرا كبيرا باللغة العربية الفصحى، وباللهجة المحكية، وكان منصور شاعراً بالاثنين، وكبيرا. كان عاصي موسيقيا خبيراً وعالما بالتوزيع الموسيقي وكان منصور بالاثنين خبيرا. كان عاصي مفكرا متأملا في الحياة، وكان منصور كذلك. كان عاصي صاحب خيال مسرحي، وكان منصور ايضا. كانا رفيقين في مواصفات احترافية فنية متنوعة وعميقة، وهذا معروف عنهما. فما هي الفروقات غير المعروفة عنهما، اذاً؟
بدقة وحذر اقول (لاحظ انني اضفت الحذر):
كان عاصي يتبنى نظرية تقول ان الأغنية لا تحتمل شعرا كثيرا. كان يريدها سهلة ممتنعة: السهولة تقربها الى الجمهور العريض، والامتناع يجعلها تتوالد معنى ومبنى في النفوس بشكل متواصل. اما منصور فكان مع نظرية الأغنية القائمة على شعر خالص، ما استطاع، مقتنعا ان هذا يعطيها ديمومة اكبر ويبتعد بها عن المألوف الغنائي. فماذا كانت نتيجة هذا الاختلاف؟ النتيجة نصوص اغان لا تعدّ ولا تحصى، بالآلاف، تتدفق فيها النظريتان من بساطة عالية وغموض شعري في وقت واحد. فالاغنية البسيطة لا تجافي العمق، والاغنية العميقة لا تعادي البساطة: انها القطبة الخفية في شعر الاغنية الرحبانية الذي كأنك تقوله انت لنفسك من داخل نفسك، وكأنه يقال لك من مكان لا تبلغه. والاستدراك هنا ملزم: كان عاصي قادرا ايضا على كتابة الشعر الخالص، وكان منصور قادرا على كتابة النص السهل الممتنع، لكن نزوع كل منهما الى الاسلوب الذي يحب، ولو مزيجا من الغرابة، فضلا عن ان الاثنين لحّنا في النوعين: لا كل منهما في نوعه "المحبب" فقط، في كل اعمالهما المسرحية.
نكمل في الفروقات بين عاصي ومنصور، وبحذر:
كان عاصي ميالا في تكوينه الغني الاساسي الى الفنون الشعبية، الى الفولكلور، الى نظرية السهل الممتنع نفسها في الالحان، اما منصور فكان ميالا الى التأليف الموسيقي، والى الاجواء الاوركسترالية التعبيرية (تجلى ذلك تماما في اعماله الخاصة بعد حين). فماذا كانت النتيجة؟ ألحان لا تعدّ ولا تحصى، بالآلاف، ومقطوعات موسيقية، وحوارات غنائية، وتوزيع موسيقي احدث ثورة كاملة… وكلها مقومات جمعت بين الرقة والعذوبة. والعفوية المدوزنة على احتراف من جهة، والهم الموسيقي المركز الذاهب من جهة اخرى الى خبرات عصور كلاسيكية وجديدة معا: انها القطبة المخفية في الموسيقى الرحبانية التي كأنك تدركها وأنت لا تدركها، وكأنك تتعلم منها ما لا تعلم. والاستدراك الثاني ملزم كذلك: كان عاصي قادرا على التأليف الموسيقي ببراعة، وقد فعل، وكان منصور قادرا على تلحين الاغنية المسماة شعبية ببراعة، وقد فعل، لكن ميل كل منهما الى نبع النوتات والمقامات والالوان "الخاص" الذي "يريده" كرّس الموسيقى الرحبانية المعروفة بالثراء وتعدد "الارواح". اي: بلا منصور كانت موسيقى عاصي تنقص ما كانته موسيقى منصور. والعكس صحيح.
الفارقان المذكوران لا يكتملان من دون الفارق الاساسي الآخر، وبحذر: كان عاصي مولعاً "بالافكار الغريبة وبالقصص التي لا تصدّق"، على ما قال عنه منصور اكثر من مرة. لذلك كان يستمتع حين تُبنى المسرحية، اي مسرحية، على فكرة خيالية الى حد كبير، على ان تترجم الى الواقع على الخشبة في شخصيات يمكن ان نصادفها يوميا في الحياة. او يمكن ان تكون فوق الواقع. فالفكرة الخيالية القائمة على "قصة لا تصدّق" كانت تفتح مناطق مقفلة في وعي عاصي يتم من خلالها اختراع ناس وحالات مشهدية مبتكرة، وفانتازيا بشرية اذا جاز التعبير. اما منصور فكان مولعا بالشخصيات التاريخية الكبيرة. وبالقصص التي تروي زمنا ماضيا مُخْتَرعاً قابلا ليكون "تاريخيا" ايضا، وكان يشعر بالتحليق حين كانت تقام المسرحية في الأغلب على مادة من التاريخ، او مادة تحوي عناصر وملامح "تاريخية"، بما يسمح بإنشاء فخامة تعبيرية على الخشبة. فماذا كانت النتيجة؟ مسرحيات بمضامين مختلفة، انسانية ثورية مثل "جبال الصوان"، مقاومة للظلم سلميا مثل "ناطورة المفاتيح"، وجودية مثل "المحطة"، غرائبية بأزمنة ضائعة "هالة والملك" و"صح النوم"، سياسية عبثية مثل "يعيش يعيش" و"الشخص"، او تاريخية محددة في الزمن "ايام فخر الدين" و"بترا" وغير ذلك. هنا ايضا وايضا، الاستدراك ملزم: كان عاصي قادرا على صياغة التاريخ في قوالب مسرحية متميزة وقد فعل حكما، وكان منصور قادرا على التقاط اشارات الافكار المسرحية الخيالية والسفر بها بعيدا، وقد فعل حكما، لكن توجه كل منهما في اتجاه نص مسرحي معيّن جعل المكتبة المسرحية الرحبانية قوس قزح حقيقيا في الهموم الفكرية لا الغنية فحسب. وكان الاخوان، ما ان يضعا الفكرة المسرحية، كائنة ما كانت، حتى يعكفا عليها بالمعالجة كأنهما رجل واحد… متعدد.
كيف تم التوصل الى هذه الفروقات؟
اكمل، في تجربتي الشخصية لأقول: لقد حضنت ذاكرتي اعمال الاخوين رحباني المسرحية على مستويين: الأول هو مشاهدتي كثيرا منها من "هالة والملك" الى "الشخص" الى "يعيش يعيش" الى "صح النوم" الى "المحطة" الى "بترا" في قصر البيكاديلي، الى "جبال الصوان" و"ناطورة المفاتيح" الى "قصيدة حب" في مهرجانات بعلبك (وبعضها عرض في معرض دمشق الدولي)، ثم لاحقا "المؤامرة مستمرة" و"الربيع السابع" وقد بدأت بالمتابعة الرحبانية – الفيروزية في سن الثانية عشرة، وبالحفظ غيبا عبر الكاسيت. المستوى الثاني هو انه كانت تستهويني منذ ذلك الوقت مقارنة الالحان بعضها بالبعض، ومقارنة المشاهد المسرحية والحوارات الرحبانية بشكل اخذ وقتي كاملا ومنعني حتى من ان "ارى" غير عاصي ومنصور وفيروز واسماء محدودة جداً في مرحلة اولى من حياتي وشبابي قبل ان استفيق في العشرين على الآخرين، وابدأ الغوص في ما هو ابعد من "حبي" الرحباني.
هذا في ما خص اعمال الاخوين عاصي ومنصور الرحباني وفيروز.
بعد ذلك، حَضَنت ذاكرتي الاعمال المسرحية التي قدّمها منصور الرحباني منفرداً منذ 1987 من "صيف 840" الى "الوصية" الى "القداس الماروني الالهي" الى "وقام في اليوم الثالث" الى "آخر يوم" (عن شكسبير) الى "المتنبي" الى "جبران"، الى "حكم الرعيان" الى "زنوبيا" الى "عودة الفينيق" على مدى ربع القرن الماضي…
وحين اجريت مقارنة دقيقة وتفصيلية لما كان من اعمال الاخوين نصوصا وموسيقى وافكارا، وما كان من اعمال منصور الرحباني وحده، ورجعت الى الكاسيتات في مكتبي واحدة واحدة، "اكتشفت" بعض ما سلف ذكره من الفروقات. واذا كان مستحيلا الكلام على عاصي منفردا، بدقة واستفاضة، لأن لا إنتاج موقّعا باسمه وحيداً دون اخيه منصور منذ عام 1949 كما ذكرت في بداية بحثي هذا، فإن الكلام على منصور منفردا يغدو طبيعيا، لأن تجربته المسرحية الطويلة "23 عاما" تسمح بذلك.
كانت الامور في اوجها: عاصي ومنصور وفيروز، والمسرح الرحباني يشهد حضورا من نار ونور يمتد الى العالم العربي بإشعاعات غير مسبوقة تجديداً وتطويرا، عندما اصيب عاصي بجلطة في الدماغ عام 1972 اصابت مناطق "النطق والكتابة والذاكرة" عنده. فجأة قُصف الحلم الفني اللبناني الجميل الذي قدّم اروع مسرحيات غنائية استعراضية منها "هالة والملك" 1967 و"الشخص" 1968 و"يعيش يعيش" 1969 و"صح النوم" 1970 ومثلها وبعدها كثير مثل "ناس من ورق" و"البعلبكية" و"بياع الخواتم" و"ناطورة المفاتيح" و"جبال الصوان" وغيرها بطولة فيروز، و"موسم العز" و"دواليب الهوا" الاولى بطولة صباح ووديع الصافي والاخرى بطولة صباح ونصري شمس الدين، وفجأة ايضا بات على منصور الحلول في مقصورة القيادة الرحبانية، مع حفظ رأي فيروز كبطلة مطلقة. فالجلطة الدماغية احدثت تداعيات سلبية جذرية في طريقة كلام عاصي فصارت متقطعة، وفي لفظ الحروف فأصبح متعثرا، وفي ذاكرته فكانت تحضر وتغيب. ورغم ذلك، وبعد الجراحة العاجلة التي اجريت له على يد البروفسور الفرنسي كلود غرو وسرعة تجاوبه طبيا مع الادوية والتمارين، وخلال اشهر قليلة، كان تطور جدي ايجابي قد حصل في حالة عاصي فاجأ اطباءه، بعدما فاجأهم ايضا حجم دماغه الاكبر مما اعتاده الاطباء من حجم الادمغة عادة، وشيئا فشيئا عادت مشاركاته في المسرحيات الى الظهور ولو اقل زخما بالحائل الصحي، وبقي اسم الاخوين من دون نقصان يذيّل مسرحيات عدة: "المحطة" و"قصيدة حب" 1974 (بعد الجلطة بعامين)، "لولو" 1974، "ميس الريم" 1975، "بترا" 1977 من بطولة فيروز قبل ان يحدث عام 1979 الخلاف العميق بين عاصي وفيروز والذي ادى الى انفصالهما المعنوي، فارتأى عاصي (وكان منصور يداريه كالعين "الرمدانة") فورا، تبني مغنية شابة ذات صوت جميل هي عايدة طنب (رونزا) المتخرجة من برنامج "ستديو الفن" التلفزيوني (وقد كانت من عناصر كورال الفرقة الرحبانية) فاعتمداها نجمةً جديدة لمسرح الاخوين، هو ومنصور، واعادا تقديم "الشخص" ببطولة رونزا هذه المرة عام 1980 ثم نزلت رونزا، بعد ذلك، اسما اول في المفكرة الرحبانية في مسرحيات لاحقة ("المؤامرة مستمرة" 1980 و"الربيع السابع" 1982) في شكل بدا للجمهور ان الاخوين استبدلا فيروز برونزا واحلاّها محلها، فهاجت الذاكرة الشعبية التي اعتادت ربط الاخوين رحباني بفيروز لا بغيرها، واستُقبلت رونزا بسوء بالغ (من دون مناقشة صوتها) لأنها تحولت في نظر الجمهور بديلا ممن لا يرضى الجمهور منها بديلا، اي فيروز. ولم يمر وقت طويل حتى اقتنع عاصي ومنصور ان عملية الاستبدال، سواء خططا لها لتكون استبدالا ام لم يخططا، لن تنجح، وان تراجع مستوى الاقبال – قياسا بالماضي – الجماهيري والنقدي على المسرحيتين المشار اليهما مع رونزا، بالاضافة الى وَهَن نصيهما وبنائهما المسرحي اصلا، ادلة قاطعة على ان شيئا ما، وسيّئا بالتحديد، يجري، وينبغي وضع اليد عليه في التجربة الرحبانية قبل استفحاله. و"تأكد" لعاصي ومنصور ما كان مؤكداً وقد حجبه غبار الخلاف مع فيروز، ان فيروز لم تكن صوتا بل ملهمة جمال، ولم تكن بطلة لمسرحياتهما بل كانت روحا في النص المسرحي نفسه.
عبد الغني طليس– النهار
(تتبع حلقة ثانية واخيرة يوم السبت)