موجز تاريــــخ الموارنـــــة
الكرسي الانطاكي
إنطاكية هي مدينة الانفتاح والحوار والمبادرات. اهتدت إلى الرب يسوع على أيدي بعض من تلاميذه، وتعمّقت في إيمانـها به على أيدي الرسولين برنابا وبولس. ورأت بطرس رئيس الكنيسة يرئس كنيستها قبل أن ينتقل إلى روما. وازدهرت كنيسة إنطاكية واتّسعت، فأصبحت واحدة من البطريركيات الخمس الكبرى. وهي روما،القسطنطينية، الإسكندرية، إنطاكية وأورشليم.
سنة 518 حطّ البطريرك ساويروس عن كرسيّه الانطاكي بسبب إنكاره الطبعتين في المسيح، وبسبب رفضه المجمع الخلقيدوني. وأقيم مكانه بطريرك كاثوليكي هو البطريرك بولس. ولكن المسيحيين لم يقبلوا جميعاً بهذا التدبير. فانقسمت الكنيسة قسمين، قسم كاثوليكي وقسم غير كاثوليكي. ومنذ ذلك الحين كان بطريرك كاثوليكي يؤيّد مجمع خلقيدونية وبطريرك غير كاثوليكي يعارضه.
وبعد ذلك بنحو قرن طرأ على البطريركية الإنطاكيةانقسام آخر بين السريان والموارنة والملكيين.
في القرن السابع اتّخذت الطوائف المسيحية، أي الملكيون والموارنة والسريان والآشوريون والأرمن، كل منها بطريركاً خاصاً بـها. ثم أضيف إليهم في القرن الثاني عشر بطريرك سادس، هو البطريرك اللاتيني.
كانت إنطاكية كنيسة واحدة تشمل كل آسيا والمشرق. فأصبحت كنائس عدة. وكان لها بطريرك واحد فأصبح لها بطاركة عديدون. ولكن رحمة الله واسعة، فستجمعهما يوماً وتعود رعية واحدة لراع واحد.
الموارنة ولبنان
الموارنة هم المسيحيون الذين تجمّعوا حول كاهن يدعى مارون وتبعوا نـهجه في الحياة.
عاش مارون في جوار إنطاكية في أواخر القرن الرابع. وكانت الكنيسة آنذاك عرضة للانقسامات. فكان الذين يقولون إن يسوع هو اله والذين يقولون انه إنسان، والذين يقولون إن له مشيئة واحدة والذين يقولون إن له مشيئتين.
وكانت الخلافات على أشدّها في المدن والقرى وفي البيت الواحد. فترك مارون المدينة وصعد إلى جبل، ليكون في مأمن من المنازعات اللاهوتيّة ويعبد الله.
وعرف مارون في خلوته على الجبل إن دعوته هي أن يكون مع الشعب. فعاد إلى الرعيّة وراح يعلّم. فكثر تلاميذه ودعوا باسمه، موارنة.
مات ما رون سنة 410 ولكن تلاميذه تابعوا المسيرة. وفي سنة 451 في أثناء المجمع المسكوني الذي عقد في خلقيدونية كان لهم موقف صريح. أوضح المجمع العقيدة الصحيحة حول شخص يسوع المسيح. يسوع هو اله وإنسان وله طبيعتان إلهية وإنسانية… فأيّده الموارنة ودافعوا عن مقرّراته.
وسرعان ما أصبح أعداء المجمع الخلقيدوني أعداءالموارنة الذين دفعوا ثمن ذلك 350 شهيداً، وأخذوا يلجأون على دفعات إلى جبال لبنان.
وكان اللبنانيون في جبل لبنان قد اهتدوا، في أواخرالقرن الخامس، إلى المسيحيّة على يد بعض من تلاميذ مارون وأصبحوا موارنة، فرحّبوا بإخوانـهم القادمين إليهم من جوار إنطاكية، وتابعوا معهم المسيرة. ولما استتبّ الأمر نـهائياً للعرب في المنطقة، وتعذّر الاتصال ببطرير كية القسطنطينيّة بصورة منتظمة، اضطر الموارنة إلى أن ينصبّوا، في سنة 687، بطريركاً عليهم هو مار يوحنا مارون.
كان ملك بيزنطية بمثابة ملك الكنيسة. يعيّن بطاركتها ويتدخّل في شؤونـها. وكان المسيحيون يرجعون إليه في كل أمر. ولما نصّب الموارنة بطريركاً عليهم، غضبت بيزنطية. وفي أثناء غزوة شنّتها على المنطقة، حصل اصطدام بين الموارنة والجيش البيزنطي في أميون، كانت الغلبة فيه للموارنة. وسكن البطريرك بلد ةكفرحي، جاعلاً كرسيه الأسقفي فيها كرسيّاً بطريركيّاً.
ونسي الموارنة سني الشبع وحصّنوا نفوسهم لسني الجوع. فأقبلوا على الصخور يحوّلونها تربة يزرعون فيها القمح والشعير والزيتونة والكرمة والتوتة… وجعلوا رجاءهم في الله وأضافوا إلى صلواتهم هذه الصلاة الرائعة: “أبعد يارب بصلوات أمك عن الأرض وسكانها ضربات الغضب. لاش الأخطار والفتن، وامنع الحرب والسبي والمجاعة والوباء. تحنّن علينا نحن الضعفاء. افتقدنا نحن المرضى. ساعدنا نحن المظلومين. أرح الموتى المؤمنين الذين انتقلوا من بيننا. وأهّلنا جميعاً إلى مصير امين، لنرفعنّ إليك المجد إلى الأبد".
البطاركة في كفرحيّ
أقام في كفرحيّ بطاركة عديدون عرفنا منهم ثلاثة: يوحنا مارون، قورش وجبرائيل. سهروا على القطيع وعلى إيمانه. إن نافور مار يوحنا مارون الذي هو بمثابة شهادة ناطقة للآب والابن والروح الذي أخذ الموارنة ينشدونه كل يوم هو شهادة على صحة إيـمانـهم. فلا مغريات العالم ، بعدما خسروا كل شيء، استطاعت أن تنال منهم شيئاً، ولا تعدّيات العدو استطاعت أن تحيدهم عن الخط الصحيح. أحبّواالله وأصغوا إلى تعاليمه.
وبعدما قضى البطاركة في أرض البترون 251 سنة، تحوّلواعنها في اتجاه المجهول. كان عليهم أن يجابـهوا مشاكل جديدة في أرض جديدة.
هذه الرغبة حقّقها البطريرك يوحنا الثاني، فعاد هذا إلى دير مار مارون، وعاد إلى إنطاكية عينها، وحاول أن يجمع شتات الرعيّة هناك. ولكنه لم ينجح، فقد تكرّرت الشدائد وكثرت الأخطار، فاضطر “سنة 938، كما يقول الدويهي،إلى الهرب من جديد إلى لبنان”. وتابع البطريرك طريقه إلى الجبل، في مرتفعات منطقة جبيل.
البطاركة والعاقورا
استقرّ الكرسي البطريركي في منطقة جبيل خمسماية سنة واثنتين، من سنة 938 إلى سنة 1440. وتعاقب عليها 34 بطريركاً، هم حسب سلسلة البطاركة للبطريرك الدويهي التي نشرها رشيد الشرتوني، المطبعة الكاثوليكية بيروت سنة 1902:
يوحنا مارون الثاني، يوحنا من دملصا، غريغوريوس،اسطفان، مرقس، اوسابيوس، يوحنا، يشوع، داود، غريغوريوس، توافيلكوس، يشوع، دومط، اسحق، يوحنا، سمعان، يوسف الجرجسي (110 – 1120)، بطرس (1121 – 1130)، غريغوريوس من حالات (1130 – 1141) ، يعقوب من رامات (1141 – 1151)، يوحنا (1151 – 1154)، بطرس (1154 – 1173)، بطرس من لحفد (1173 – 1199)، ارميا من عمشيت (1199 – 1230)، دانيال من شامات (1230 – 1239)، يوحنا من جاج (1239 – 1245)، شمعون (1245 – 1277) ، دانيال من حدشيت (1278 – 1282)، ارميا من دملصا ( 1282 – 1297)، سمعان (1297 – 1339)،يوحنا (1339 – 1357)، جبرايل من حجولا (1357 – 1367)، يوحنا (1367 – 1404)، يوحنامن جاج (1404 – 1445).
ماذا عمل هؤلاء البطاركة وماذا تركوا من مآثر؟ لم يدوّن لهم تاريخ، فقد أقاموا جميعهم في جبال وعرة صعبة المسالك، تعوزهم وسائل العلم ويحسبون من السعادة أن يعيشوا في رعاياهم آمنين، محافظين على إيمانـهم.
لم يكن لهم مقرّ بطريركي ثابت، فانتقلوا من يانوح إلى ميفوق إلى لحفد إلى هابيل إلى يانوح إلى كفيفان إلى كفرحيّ إلى الكفر إلى يانوح إلى ميفوق إلى حردين إلى ميفوق. وإذا كانوا ارتضوا بالحياة الشاقة وأن ينتقلوا كإبراهيم الخليل، من مكان إلى مكان، فلأنـهم أرادوا أن يسيرو ا على خطى معلمهم القديس مارون ويقولوا نعم ليسوع المسيح.
أقاموا في كرسي وضيعة خلت من كل مظاهر الغنى، ولكنها رائعة في زهدها وفي بساطتها. فقد أصرّ “أهالي يانوح، وهم أصحاب غيرة وعبادة، كما يقول الدويهي، أن يبنوا كرسيّاً كله من الحجر الأزرق في غاية الصناعة والشرافة” (الدويهي، تاريخ الأزمنة، 50)
أما كرسي ميفوق، الذي لا يزال قائماً، فهو آية في الفن. وإذا أخذت الكنيسة الحجم الأكبر منه، كما هي الحال في سائر الكراسي المتبقّية آثارها هنا أو هناك، فلأن البطاركة أرادوا أن يكونوا رجال صلاة، وأن تكون بيوتـهم قبل كل شيء بيوت عبادة.
الأيام الصعبة
وبعدما عاد الصليبيون إلى بلدانـهم الأوروبية هجم المماليك على الموارنة، وضايقوهم، وأحرقوا كنائسهم، وهدموا قراهم وأتلفوا كرومهم.
“يوم الاثنين ثاني محرّم سار اقوش باشا الافرم، نايبدمشق، بعساكر من الشام وغيرها إلى جبال كسروان، فأحاطت العساكر تلك الجبال المنيعة وترجّلوا عن خيولهم وصعدوا إليها من كل الجهات.
” ووصل نايب دمشق الافرم إلى جبال كسروان، ووطئ العسكر أرضاً لم يكن أهلها يظنّون أن أحداً من خلق الله يصل إليها. فاحتووا على الجبال وخربوا القرى وقطعوا كرومها وقلعوها، وقتلوا وأسروا من بـها. وخلت تلك الجبال منهم. ومن ذلك الحين خربت كسروان والذين سلموا من أهلها تشتّتوا في كل صقيع…” (الأزمنة، 288)
وقد أصاب بطاركتهم النصيب الأكبر، فكان هذا يُهان،وهذا يُشرّد. وهذا يُساق إلى المحاكمة، وهذا يقاوم وهذا يُحرق حيّاً.
“ففي سنة 1283 قاد البطريرك دانيال الحدشيتي رجاله وقاوم جيوش المماليك عندما زحفت على جبّة بشري، واستطاع أن يوقف الجيوش أمام اهدن أربعين يوماً، ولم يتمكّنوا منها إلا بعدما أمسكوا البطريرك بالحيلة”. “وفي سنة 1367 أحضر البطريرك جبرايل من حجولا، قريته، حيث كان مستتراً زمن الاضطهاد، واقتيد إلى طرابلس وأحرق حيّاً، وقبره لا يزال في باب الرمل في مدخل المدينة”. “في سنة 1402 جاء فناء حتى بقي كثيرون بدون دفن، وصار غلاء حتى مات أناس كثيرون من الجوع،وأبصر الناس ضيقاً وشدّة وهمّاً وجوعاً وحزناً وبلاء”. ( الدويهي، تاريخ الأزمنة، 338)
وصبر الموارنة، ووجدوا في منطقة جبيل، التي اختارهابطاركتهم لهم ملجأ، أرضاً خيّرة. فدعتهم بطيبتها وجمال موقعها إلى التأمّل والصلاة، فعرفوا أن يأخذوا من وعورة طرقها، الصبر على المحن، ومن جبالها الشامخة، التعالي عن السيّئات، ومن بحرها الذي يعكس زرقة السماء ال صافية، النظر إلى بعيد. كانت لهم منطقة جبيل بمثابة بستان الزيتون، فطبعتهم بروحها السمحاء، وأعطتهم صلابة في الموقف، مع كثير من الاتّزان والهدوء، عادوا إلى الإنجيل وتضامنوا وكانواواحداً.
لم ييأسوا. راجعوا علاقاتـهم بالصليبيين: ماذا ربحواوماذا خسروا، ففهموا أنـهم لا يستطيعون أن يتّكلوا على أحد في الأرض، وأن ليس لهم في النهاية غير الله. فاتّكلوا عليه، وأعادوا النظر في كل شيء، وارتضوا بالبطريرك مرجعاً لهم في الأمور الروحيّة والزمنيّة. برزت قيمة البطريرك، وأرادوا أن يعمل مقدّموهم، وهم حكّام القرى، بتوجيهاته، ومن أجل ذلك قبل المقدّمون الدرجةالشدياقيّة.
إن الكنائس المتبقيّة من ذلك العهد هي صغيرة، ولكنها تدل على أنـها هي التي جدّدت في جبالنا ما عمله يوم عاش على هذه الأرض ربنا وإلـهنا يسوع المسيح. فكان الكاهن يوزّع الأسرار وينقل كلمة الله فتحدث العجائب. تضمّدالجراح وتمسح الدمعة وتزول الخلافات ويصبح الكثيرون واحداً.
إن الحياة الرعائيّة هي وراء وحدة الموارنة، وهي التي قرّبتهم من الآخرين فأقبلوا إلى إخوانـهم المتاولة والدروز، بانتظار الشهابيين السنّة ، وارتضوا أن يعملوا معاً في خط واحد. فجمعوا صفوفهم أمام تحدّيات العدو. وعندما سدّت كل الأبواب في وجوه الموارنة انتقلوا إلى وا دي قنّوبين.
الموارنة وروما
وقد رأى البابا زخيا الثالث بأمّ العين أن البطاركة الموارنة هم رجال صلاة، يوم زاره البطريرك ارميا العمشيتي في روما وحضر المجمع اللا تراني الذي عقد سنة 1215. “فأمر البابا بنقش صورة البطريرك في هيكل مار بطرس بروما. ولما اعتراها التغيير بتمادي الزمان أمر بتجديدها البابا زخيا الثالث عشر سنة 1655 على ما كانت عليه أوّلاً. وكانت تلك الصورة ذكراً لوقوف القربان بين يديه بمعجزة بينما كان يقيم القداس بحضرة البابا على هيكل القديس بطرس”. (الدويهي،سلسلة البطاركة، 24)
لم يشيّد البطاركة كنائس فخمة، ولا قصوراً. ولم يتركوا لا تحف فن ولا معاهد. ولكنهم استطاعوا، كالرسل، أن يسهروا، على قطيعهم سهرالآباء على أبنائهم، ويعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصاهم به الرب يسوع. فكانت مآثرهم شعباً مؤمناً. يُشتم فيبارك. يُضطهد فيصبر. يضيّ ق عليه فيحمل المشعل وينتقل من مكان إلى مكان آخر.
عاشوا معزولين عن العالم، في حصار محكم دام أكثر من ثلاثة قرون. وقد فوجئ الصليبيون بوجودهم يوم جاؤوا إلى الشرق، في القرن الحادي عشر، وفوجئ الكرسي الرسولي بدوره، عندما اطّلع على أمر الموارنة، وكان اعتقد أنهم زالوا من الوجود.
وتوطّدت العلاقات بين الموارنة والصليبيين، ولا سيما بعد مجيء ملك فرنسا القديس لويس التاسع إلى الشرق.
في القرن الثالث عشر عرف لبنان شيئاً من الأمان، فراح الموارنة يبنون الكنائس، على ما ذكر الدويهي: “في هذا الزمان انتشر دين النصر انيّة في بلاد الشرق، وصار ينادى به جهراً. والذين فاضت نعمة الله بين أيديهم صاروا يبنون ديورة وكنائس،وتقصّد الناس خدمة الله وعمل الخير. وكان للخوري باسيل البشرّاوي ثلاث بنات: مريم وتقلا وسالومي. فالبنت مريم بنت هيكل مار سابا في قرية بشري في جبل لبنان، والبنت سالومي هيكل مار دانيال في الحدث، وأما تقلا فبنت هيكل مار جر جس في بقرقاشا وكنيستين في أرض الكورة…” (تاريخ الأزمنة، 104)
عصا المطران
كانت وردت على البطريرك دعوة البابا اوجين الرابع إلى حضور المجمع الفلورنسي. “وبسبب المخاوف من القرصان في ركوب البحر وانقطاع الطرقات، أوفد البطريرك من قبله، فرا جوان، الى الكرسي الرسولي. ودخل فرا جوان إلى البابا، وكان يرئس مجمع فلورنسا، وعاد إلى ل بنان حاملاً كتاب التثبيت.
“ولما قدم إلى مدينة طرابلس انحدر الشعب إلى لقائه. فبعث النايب من يقبضون عليه وعلى رفاقه ويلقونهم في السجن، معتبرين أن النصارى لم يجتمعوا في فلورنسا إلاّ ليعتصموا مع بعضهم بعضاًعلى استخلاص هذه البلاد من يد الإسلام. وحين بلغ ذلك مسامع البطريرك الذي كان يومئذ قاطناً في دير سيّدة ميفوق،أرسل بعضاً من أعيان الطائفة، يزيلون هذه الفكرة من رأس النائب، ويقنعوه في هبة الدراهم، حتى أخرجهم من الحبس تحت كفالة الحضور.
“فصعد فرا جوان مع رفاقه إلى دير الكرسي. وبعدما أطلع البطريرك على مكاتيب اوجانيوس وألبسه درع الرئاسة، قفل راجعاً عن طريق بيروت وعصى على النائب فلم يمر عليه كما تمّ الاتفاق. ولأجل ذلك حنق عليهم حنقاً عظيماً وأرسل جملة بيارق بطلب البطريرك والكفلاء. وإذ لم يحظوا بهم، سلبوا أرزاقهم، وأحرقوابيوتهم، وقتلوا كثيرين من الطائفة ومن الرؤساء. والذين توجّهوا بطلب البطريرك،نكبوا الدير وقتلوا بعض الرهبان، وأخذوا البعض في الجنازير إلى طرابلس.”
“ومذ ذلك الحين أخلى البطريرك دير ميفوق وانتقل إلى جبّة بشري، تحت حماية المقدّم يعقوب البشرّاني”. (الدويهي في أصل الموارنة، 210)
وادي قنّوبين
في وادي قنّوبين. هذا الوادي العميق، الذي إذا كنتفيه لا تجد إلاّ جبلاً شاهقاً من هنا وجبلاً شاهقاً من هناك، وقطعة صغيرة من السماء من فو ق. وأما إذا نظرت إليه من إحدى مشارفه، فانك تشعر أنه يشدّ بك إليه، بعمقه وقوة جاذبيته. فتضطر إلى أن تتمسّك بيديك الاثنتين بصخرة أو بشجرة. لئلا تهبط من علو نحو ألف متر. في هذا الوادي الذي لا يصل إليه إلاّ النسور كما قال بعض السائحين الفرنج، جعل البطرير ك الماروني في إحدى صخوره، كرسيّه، ومنه كان يوجّه شعبه ويقوده، كما كان موسى يقود شعبه في العهد القديم.
ظل دير سيّدة قنّوبين كرسيّاً بطريركيّاً من سنة 1440الى سنة 1823، وقام فيه أربعة وعشرون بطريركاً هم:
يوحنا من جاج (1440 – 1445)، يعقوب من الحدث (1445 – 1468)، يوسف من الحدث (1468 – 1492)، سمعان من الحدث (1492 – 1524)، موسى العكاريمن الباردة (1524 – 1567)، مخايل الرزّي من بقوفا (1567 – 1581)، سركيس الرزّي منبقوفا (1581 – 1596)، يوسف الرزّي من بقوفا (1596 – 1608)، يوسف مخلوف من اهدن (1608 – 1633)، جرجس عميره من اهدن (1633 – 1644)، يوسف حليب من العاقورة (1644 – 1648)، يوحنا البوّاب من الصفرا (1648 – 1656)، جرجس رزق الله من بسبعل (1656 – 1670)، اسطفان الدويهي من اهدن (1670 – 1704)، جبرايل من بلوزا (1704 – 1705)،يعقوب عوّاد من حصرون (1705 – 1733) ، يوسف ضرغام الخازن من غوسطا (1733 – 1742)،سمعان عوّاد من حصرون (1743 – 1756)، طوبيّا الخازن من بقعاتا كنعان (1756 – 1766)،يوسف اسطفان من غوسطا (1766 – 1793)، مخايل فاضل من بيروت (1793 – 1795)، فيلبسالجميّل من بكفيا (1795 – 1796)، يوسف التيّان من بيروت (1796 – 1808)، يوسف الحلومن غوسطا (1808 – 1823).
وقد عاشوا جميعهم بخوف الله وخدمة شعبه. ولا يزال وادي قنّوبين، هذا الوادي المقدّس، يحكي قصة كلّ منهم كأنها قصة قدّيس، ويشهد أنهم طلبوا الله واكتفوا للعيش بالشيء الزهيد.
وقد قيل فيهم: “عصيّهم من خشب أما هم فمن ذهب”.
وكان للمحن التي حلّت بالموارنة وجهها الايجابي، فقداجتمع شمل الشعب والتفّ حول قادته تحت سلطة البطريرك. فإذا بالموارنة شعب واحد منظّم، وإذا بمقدّم بشري يحكم على المنطقة بكاملها، وإذا بالمنطقة تعرف الهدوء.
في وادي قنّوبين حمل الموارنة الإنجيل واكتفوا به. عاشوا حياة تضحية وإيمان ورجاء، وراحوا بعيداً في هذا المنحى، فكانوا مثالاً في الو حدة والمحبّة.
في وادي قنّوبين لم يكن الموارنة بحاجة إلى من يدعوهم إلى الصلاة، فوادي قنّوبين وكلّ ما فيها يدعو إلى التأمّل والزهد في النفس وال صلاة. وتجاوب الموارنة مع هذه الدعوة، فراحوا، كالمسيحيين الأولين، “يتابعون تعليم الرسل والحياة المشتركة وكسر الخبز والصلاة” (أ عمال الرسل، 2/42). وشعر الكثيرون منهم بالحاجة إلى مزيد من التأمّل والصلاة، فكثر العابدون والعابدات، وامتلأ الوادي بمغاور النسّا ك.
عاشوا في هاجس الجوع إذا زرعوا الأرض ولم يصحّ الموسم. وفي هاجس الخوف إذا توجّهوا إلى العمل وهجم عليهم العدو على حين غفلة. لكن لم تنسهم مشاكلهم اليوميّة الرسالة التي يحملونها تجاه العالم. انهم رسل المسيح، فصبروا وترجّوا ونظروا إلى أعدائهم نظرتهم إلى من مات المسيح من أجلهم، وطمحوا إلى أن يحملوا إليهم رسالة الإنجيل. تقدّموا في الفضيلة، فكتب إليهم البابا لاون في سنة 1515 يشجّعهم ويؤيّد مسا عيهم، ويقول لهم: “إنكم لم تتخلّوا عن الإيمان بيسوع المسيح بسبب الضّيم والضّنك والاضطهاد”.
في بداية القرن الثامن عشر انقسم الموارنة فئتين. فئة تتمسّك بتقاليدها الشرقية العريقة، وفئة تسير في خط المسيحيين في الغرب، وتتقيّد بتقاليدهم وطقوسهم. فكان لا بد من مجمع يوقف الفوضى ويعيد إلى الطائفة بهاءها الأول، فجاء المجمع اللبناني الذي تقدّم ذكره، وقد عقد في اللويزة سنة 1736، وهوأوفى مجمع إقليمي عقد في العصور الأخيرة.
في وادي قنّوبين عاش الموارنة أيضاً العوز والحرمان. ولحق بهم العدو، فصرخوا ورفعوا الصوت. ترى هل تغيّرت الظروف، فسكت الموا رنة في جبيل وصرخوا في وادي قنّوبين؟ هل رأوا إن لهم بعد جبيل ملجأ، فلما اقتُحموا، هربوا إليه. وان وادي قنّوبين هي معقلهم الأخير، إذا خسروه خسروا كل شيء؟ فلما اقتُحموا صرخوا وكانت لهم مبادرات. فكثُر العابدون والعابدات والنسّاك، وفُتحت المدارس، وصارإقبال على العلم والمعرفة، وأُنشئت الرهبانيّات.
سنة 1823 انتقل الكرسي البطريركي إلى الديمان صيفاً وبكركي شتاءً. وقد انتظر الموارنة أن يلقوا المجد بعدما عرفوا الألم والهوان.
وقد بنى البطريرك يوحنا الحاج الكرسي البطريركي في الديمان، المعروف اليوم بالكرسي القديم، في وسط البلدة، وبنى إلى جانبه كنيسة مار يوحنا مارون، وهي اليوم كنيسة الرعيّة. أما الكرسي الحالي فقد بناه البطريرك الياس الحويّك، ووضع له الحجر الأساسي في 28 أيلول سنة 1899. وهو من تصميم الأخ ليوناراللعازاري، الذي قام بتصميم إعادة بناء الكرسي في بكركي.
مدرسة روما المارونية
سنة 1584 في 5 تموز أنشأ البابا غريغوريوس الثالث عشر المدرسة المارونيّة في روما، فحقّق آمال الطائفة وفتح أمام طلاّبها أبواب التقدّم. جاء في براءته الرسوليّة هذه الكلمات:
“لنا الأمل الوطيد بأن تلاميذ هذه المدرسة، على مدىالأيام المستقبلة، بعد امتلاكهم من عبر التقوى، والديانة الحقيقية، الصادر من شجر سرو صهيون، وتعاليم الكنيسة الرومانية المقدسة، رأس كل الكنائس، لنا الأمل الوطيد بأن يوزّعوه على أرز لبنان وعلى طائفتهم، عاملين في خدمة الرب ومجدّدين في بلدانهمالإيمان الضعيف ومساندينه. وهكذا يتحوّل عمل مادّي لا يفيد إلاّ القليلين من زائري روما إلى عمل روحي يكون لفائدة الطائفة كلها ولخلاصها.
“وبناء عليه، وعن معرفة تامة، وعملاً بكمال سلطتنا الرسولية،… نبني مدرسة الموارنة ونؤسسها حتى يتغذّى فيها ويتزيّن بالأخلاق الصالحة، ويتربى على التقوى والتعليم السليم والفضائل المسيحية الكاملة الواجبة لكل مسيحي، شبان هذه الطائفة…”
ووفد التلاميذ الموارنة إلى روما، وبدأت آمال البابا تتحقّق، وراحت الطائفة تنتقل إلى عالم المعرفة والنور. وأكثر من ذلك أيضاً فقدانفتحت الطائفة على أوروبا والعالم، وأصبحت تلعب دور الوسيط بين الشرق والغرب.
وتخرّج من المدرسة المارونية ألمع رجالات الاكليروس، وكان أعظمهم:
البطريرك اسطفان الدويهي، مؤرّخ الطائفة المارونية الذي “طاف في كل الأبرشيّات واختار كهنة ذوي علم وتقوى، وفحص الكتب البيعيّة وأصلح ما أوقعه فيهاالنسّاخ من أغلاط، وردّ القواعد إلى أصلها، وغربل مصاحف المؤرخين ومصنّفات الآباء القديسين، من شرقيين وغربيين، وألّف كتباً عديدة محفوظة في مدرسة روما” (البطريرك يعقوب عوّاد)
يوسف السمعاني العالم الحصروني الذي عًيّن حافظاً للمكتبة الفاتيكانيّة.
جبرائيل الصهيوني الذي درّس في جامعة سابينـزا ثم انتقل إلى باريس ودرّس في الكليّة الملكيّة.
مرهج ابن نمرون، وقد خلف الحاقلاني كأستاذوترجمان.
وشجّع البطاركة العلم، على ما أوضح المجمع اللبناني:
“نحثّ ونناشد بأحشاء يسوع المسيح كلاً من المتولّين رئاسة الأبرشيات والمدن والقرى والمزارع والأديار جملة وأفراداً أن يتعاونوا ويتضا فروا على ترويج هذا العمل الكبير الفائدة… فيعنون أوّلاً بنصب معلم حيث لا يوجد معلم، ويدوّنون أسماء الأحداث الذين هم أهل لاقتباس العلم، ويأمرون آباءهم بأن يسوقوهم إلي المدرسة ولو مكرهين. وان كانوا أيتاماً أو فقراء فلتًقدم لهم الكنيسة أو الدير ضروريات القوت، وفي حالة تعذّر الكنيسة أو الدير فيترتب جزء منها على الكنيسة والدير والجزء الآخر يقوم بدفعه آباء الأولاد”. (المجمع اللبناني، 529)
وأخذت الرهبانيّات الأوروبيّة تفد إلى لبنان. ففي سنة 1626 وصل الكبّوشيّون، وفي سنة 1635 وصل الكرمليّون، وفي سنة 1656 وصل اليسوعيّون،ثم كرّت المسبحة.
جاء هؤلاء الرهبان إلى لبنان لخدمة شعبه، فأسّسواالمدارس وأخذوا يزرعون بذور العلم ويهيّئون للبلاد جيلاً جديداً. ولم يمض وقت حتى أصبحت المدارس التي تأسّست في لبنان تضاهي مدارس أوروبا.
وكثُرت المدارس. وكانت مدرسة إلى جانب كل كنيسة مارونيّة. وازدهر بعضها كمدرسة عين ورقة ومدرسة مار عبدا هرهريّا ومدرسة حوقا. و بعدما نال اللبنانيّون، ومعظمهم كانوا موارنة، قسطاً كبيراً من الثقافة أصبحوا روّاد الحركة الفكريّة في العالم العربي، وكان لهم دور كبير في النهضة الثقافية في كل الشرق الاوسط.
أول رهبانيّة مارونية
في سنة 1694 مثل جبرائيل حوّا وعبد الله ابن عبد الأحد قراألي ويوسف البتن أمام البطريرك اسطفان الدويهي وكاشفوه بعزمهم على إقامة رهبانيّة تسير بقانون واحد ويرئسها رئيس عام واحد، ويكون لكل دير من أديارها رئيس خاضع لسلطان الرئيس العام. ويرتبط رهبانهم بنذورالطاعة والعفّة والفقر الاختياري،والانصياع على اسم القديس انطونيوس أبي النسّاك، فسرّ البطريرك لعزمهم وشكر مساعيهم ولبّى دعو تهم”. (الدبس، 253)
بكركي
لم يكن للبطاركة مقرّ شتوي، فاتّجهت الأنظار إلى بكركي.
سنة 1703 بنى الشيخ خطّار الخازن دير بكركي، وكان كنيسة صغيرة وبقربها بيت للكاهن.
سنة 1730 تسلّمه الرهبان الأنطونيون.
سنة 1750 تسلّمه المطران جرمانوس صقر والراهبة هنديّةعجيمي ليكون مقرّاً لأخوية قلب يسوع.
سنة 1779 صدرت براءة رسوليّة ألغت رهبانيّة قلب يسوع،وقضت بأن يتحوّل دير بكركي لخير الطائفة المارونيّة.
سنة 1786 اعتبره المجمع الماروني تابعاً لكرسي قنّوبين.
سنة 1823 أصبح كرسيّاً بطريركيّاً لفصل الشتاء.
سنة 1890 رمّمه البطريرك يوحنا الحاج وأضاف إليه قسماً من الطابق السفلي والطابق العلوي بكامله، وهو من تصميم الأخ ليونار اللعازا ري.
سنة 1970 رمّمه من جديد البطريرك بولس المعوشي.
سنة 1982 بنى البطريرك انطونيوس خريش البوّابة الخارجيّة.
سنة 1995 أضاف إليه البطريرك نصر الله صفير جناحا ًليحفظ فيه الأرشيف ويكون متحفاً خاصاً بالكرسي البطريركي، كما أنشأ مدافن للبطاركة وزيّن الكنيسة بشبابيك مزخرفة.
تعاقب على الكرسي البطريركي في الديمان صيفاً وبكركي شتاءً تسعة بطاركة هم:
يوسف حبيش من ساحل علما (1823 – 1845)، يوسف راجي الخازن من عجلتون (1845 – 1854)، بولس مسعد من عشقوت (1854 – 1890)، يوحنا الحاج من دلبتا (1890 – 1898)، الياس الحويّك من حلتا ( 1899 – 1931)، انطون عريضه من بشري (1932 – 1955) ، بولس المعوشي من جزين (1955 – 1975)، انطونيوس خريش من عين ابل (1975 – 1986)، نصر الله صفير من ريفون (1986)
وجميع هؤلاء البطاركة قاموا بأعباء المسؤولية وعملوامن أجل وحدة الصف، وكان هاجسهم الأول استقلال لبنان.
فكما استطاع الموارنة، بالرغم مما لاقوه من محن وشدائد في أيام المماليك، وخصوصاً في أيام السلطنة العثمانيّة، أن ينتزعوا الحرية والاستقلال الذاتي، فلم يقبل بطريركهم الفرمان الذي كان الباب العالي يعترف بموجبه بكل بطريرك، كذلك فانهم أرادوا أن يتابعوا المسيرة ويعملوا ليكون لوطنهم استقلاله التام وأن يحافظوا عليه.
1860
الفتنة الطائفيّة سنة 1860 راح ضحيّتها نحو عشرة آلاف قتيل ماروني، فأحدثت شرخاً كبيراً بين الموارنة والدروز، فاضطر الكثيرون من الموارنة إلى أن يتركوا وطنهم ويتوجّهوا إلى بلدان الاغتراب، وجعلت العيش المشترك على المحك. وفي الحرب العالميّة الأولى أحكم العدو حصاراً تموينياً على جبل لبنان،فمات عشرات الآلاف من الجوع.
الديمـان
وادي قنوبين هو المقر البطريركي في أيام الشدة،وقددامت 383 سنة، من سنة 1440 إلى سنة 1823، وعندما استتب الأمن اتجهت أفكار الب طاركة إلى الديمان، وكان البطريرك يوسف حبيش أول من حقق هذه الفكرة فسكن في بيتيشرف على الوادي، وهو لأحد الشركاء، غربي ال بلدة وقد بنى البطريرك يوحنا الحاج الكرسي البطريركي في الديمان، المعروف اليوم بالكرسي القديم، في وسط البلدة وبنى إلى جانبه كنيسة مار يوحنا مارون، وهي اليوم كنيسة الرعية . أما الكرسي الحالي فقد بناه البطريرك الياس الحويك ووضع له الحجر الأساسي في 28 أيلول سنة 1899، وهو من تصميم الأخ ليونار اللعازاري ، الذي قام بتصميم إعادة بناء الكرسي في بكركي.
لبنان المستقل
الاستقلال هو بناء لم يكن تشييده أمراً سهلاً. فقد ظهرت بين اللبنانيين، وهم سبع عشرة طائفة، بعد انسحاب العثمانيين عدّة اتّجاهات جعلت الا تفاق مع بعضهم بعضاً أمراً عسيراً. ولكن البطريرك الماروني، أيّاً كان اسمه، عرف أن يكون رسول سلام، فكان حاضراً فاعلاً يؤيّد كل مسعى للخير ويقف في وجه كل ظلم. فمحضه اللبنانيّون ثقتهم وكان لهم بمثابة عامل وحدة وحامل لواء الحريّة. ففي سنة 1919 فوّضوا إلى البطريرك الياس الحويك أن يتوجّه باسمهم جميعاً إلى مؤتمرالسلام الذي عُقد في فرساي يطلب الاستقلال. وغادرالبطريرك إلى فرساي وعرض القضيّة اللبنانيّة وفاوض ونجح، فوطّد ركائز الاستقلال وحقّق طموحات اللبنانيين.
وسار البطاركة الذين تعاقبوا على الكرسي بعده على الخط نفسه، فقال البطريرك عريضه لا للاحتكار، وقال البطريرك معوشي لا للحكم المتشدد، وقال البطريرك خريش لا للتقاتل، وقال البطريرك صفير لا للهيمنة، ونعم للسيادة والقرار الوطني الحرّ. فتخطّوا الآفاق الضيّقة و عملوا لا من أجل طائفتهم فحسب، بل من أجل جميع اللبنانيين. وبهذه الروح أسهموا في توحيد الصفوف، فانفتحت الطوائف بعضها على بعض، فكانت ثروة ومصدر غنى وعرف لبنان الازدهار.
وانتظر الموارنة، بعدما زالت أسباب الشدّة وانتقل بطاركتهم إلى الديمان صيفاً والى بكركي شتاءً، أن يبلغوا المجد وينعموا بشيء من السعاد ة. ففوجئوا أنهم لا يزالون في أول الطريق، وأن يوم المجد لا يزال بعيداً.
الأبرشية المارونية
في بداية الكنيسة “وقع اضطهاد شديد على كنيسة أورشليم، فتشتّت أبناؤها أجمع، ما عدا الرسل، في نواحي اليهوديّة والسامرة… وأخذ الذين تشتّتوا يسيرون من مكان إلى آخر مبشّرين بكلام الله” (أعمال الرسل، 8/2،4).
إن هذه الظاهرة التي عاشها المسيحيّون الأوّلون في أورشليم، عاشها الموارنة أيضاً في لبنان. فاتّجهوا على مدى حقبات متفاوتة إلى بلدان الاغتراب، وحملوا رسالة مار مارون إلى كلّ بلدان العالم.
الموارنة في بلدان الاغتراب، اضطلعوا بدورهم الإنساني على الصعيد العالمي ونجحوا، وكان أبرزهم جبران خليل جبران. ولكنهم لم ينسوا أنهم تركوا لبنان معذّباً، فعملوا من أجله ودعموه بالمال والسياسة، إلى أن يعودوا إليه. فحوّلوا ظاهرة الاغتراب ظاهرةإيجابيّة. انهم شعب لا يموت.
ومن جهة ثانية فان البراءات البابويّة المحفوظة في أرشيف الكرسي البطريركي في بكركي التي تلقّاها البطاركة على مدى أجيال عديدة، والمخطو طات التي نسخها الأساقفة والكهنة والنسّاك على مرّ الأجيال، في وادي قنّوبين وفي أمكنة عديدة من جبل لبنان وكنائسه، والوثائق التا ريخية التي تفوق المليون مستند،هي شهادة ناطقة بأعمال الموارنة الذين أدّوا رسالتهم على مدى أجيال عديدة، وشهدوا ليسوع المسيح وسط جيل صعب وملتو وأظهروا أنهم يؤدّون رسالتهم بالرغم من كل التحدّيات.