وسائل الاعلام هي ساحات عالمنا المعاصر .هذا ما تؤكده سوسيولوجيا الاعلام و تعاليم الكنيسة والاختبار الذي يقوم به كل منا في حياته اليومية.
من خلالها وفيها تجري عمليات التبادل بكل أشكاله: تبادل السلع والافكار وأنماط السلوك ، التأثر والتأثير في كل قطاع من قطاعات الحياة والوجود في وجوه الخير أو الشر. في رؤية البابا يوحنا بولس الثاني وسائل الاعلام هي منبر اول بين منابر حديثة أخرى تعنى ب " قضايا السلام وترقي الشعوب ولاسيما منها حقوق الاقليات والمرأة والطفل وحماية البيئة "( رسالة الفادي 73). أنها منابر وميادين تدعو المسيحيين العلمانيين الى أضاءتها بنور الانجيل ،وردم القطيعة المتفاقمة بين الايمان والثقافة في الحضارة المعاصرة – جوزف خريش
بهذه الرؤية ومنذ المجمع الفاتيكاني الثاني كان للكنيسة ، مكرسين وعلمانيين ، تعاليمها وبرامجها ، مكررة ومطورة اياها في وثائق وآليات ومناسبات عديدة.
الكنيسة في لبنان ، بدورها ،كان لها حضورها في هذا المجال ، مواكبة حركة الاصلاح والتجدد، على الرغم من ألاوضاع التي فرضتها ظروف الحرب. فكان لها مجامعها وبرامجها التي خلصت بعد تأمل وفحص ضمير جماعي عميق الى استراجية ورؤية تجسدتا في مقررات السينودس من أجل لبنان و سواه من المجامع الكنسية . في كل من هذه المحطات كان للعلمانيين دور بارز غير مسبوق في تاريخ الكنائس الشرقية . انبثق عن هذه المسيرات وثائق وتوصيات عديدة هي قيد المتابعة والتطبيق. فما عسى يضيف اليها مؤتمر العلمانيين اليوم ؟
لا بد في صدد المعرض المسيحي ، وعلى مشارف انعقاد مؤتمر رسالة العلمانيين من التذكير بعدد من الافكار الجديدة التي أسفرت عنها تلك المجامع في ما يتصل بمسألتين: رسالة العلمانيين ورسالة الاعلام، في علاقة كل منهما برسالة الكنيسة الجامعة.
-1 للعلمانيين دعوة ورسالة هما جزء من دعوة ورسالة الكنيسة ، في علاقة من التلازم والتكامل ، على أساس" مساواة حقيقية" ( نور الامم 32 ) بين جميع أعضاء الكنيسة تجمعهم رسالة واحدة في كهنوت عام مثلث الابعاد : كهنوتي ونبوي وملكي ، وفي " شعب كهنوتي وامة مقدسة" كما جاء في رسالة القيس بطرس ( 1 بطرس 1:9-10 )
-2 منذ عصر المطبعة اصبحت مهمة التعليم مشتركة بين رجل الدين والعلماني . وبالتالي ترسخت فكرة أن كل رجل دين هو اعلامي – من وجه ما- وكل اعلامي، في المقابل، هو رسول أيضا .
3-لا يشكل الاعلام برامج مستقلة في نشاط الكنيسة بل انه يدخل في كل البرامج.
4-الاعلام بعد (dimension) انطولوجي ( كينوني ) لا تكنولوجي فقط بالنسبة للكنيسة .بمعنى ان الاعلام ليس من باب المقتنى بل من باب الوجود(avoir- etre: to have – to be ) . الكنيسة امتداد جسد المسيح في مسار التاريخ . نطاق رسالتها يتعدى البشارة و التعليم الى الشهادة. من هنا الكلمة المأثورة للبابا بولس السادس: (عالمنا بحاجة الى شهود لا الى معلمين الا اذا كان هؤلاء شهودا )
5-ليس الاعلام نشاطا اضافيا او ثانويا في حياة الكنيسة .بل هو ضروري جدا بحيث ان اهمال استخدام هذه الوسائل – بنظر البابا بولس السادس –هو خيانة للمسيح بالذات .لذلك الكنيسة أعلامية تكون او لا تكون . " الويل لي أن لم أبشر ".يقول لرسول بولس .
6- بالاضافة الى البعد الانطولوجي العميق للاعلام هناك بعد لاهوتي نبوي اكدت عليه وثيقة " عصر جديد "( Aetatis Novae) مشيرة الى ان دور الاعلام ليس تقريريا او اخباريا وحسب بل هو تفسيري للاحداث . يبين معناها في نور الانجيل .
7-لوسائل الاعلام الحديثة دور أساسي في البشارة الجديدة أو المتجددة .كما أن الثوب الجديد لا يرقع بقطعة عتيقة، كذلك البشارة الجديدة لا تتم الا بلغة جديدة وأسلوب جديد، بعقليات جديدة ومؤسسات جديدة .
في ضوء هذه المفاهيم الاساسية أردت أن استهل كلمتي عن واقع العلمانيين في المنابر الحديثة .لأن أغفالها يجعلني اشعر ان كل توصيف للواقع او تقييم له سيبقى ناقصا .
أولا :
في المشهد الاعلامي المسيحي ، في اطاره اللبناني العام ، تبرز قطاعات وفئات وأنواع يأتي في طليعتها قطاع الاعلام المرئي والمسموع في حقليه التلفزيوني والاذاعي ، يليه الالكتروني الحديث العهد، ثم الاعلام المقروء في الصحافة على أنواعها . غير ان الاعلام ليس وسائل وادوات فحسب . أنه مهنة وصناعة وفن . قوانين وأخلاقيات . فضلا عن أن هناك قطاعات عمل ومؤسسات يتعدى نطاقها الاعلام بالمعنى الحصري ليمتد الى كل جوانب الثقافة . بل قيل ان الاعلام هو الثقافة .ولا ثقافة بلا اعلام لا تتوفر فيه شروط الكفاءة المهنية والمناقبية ، بما تشمل من قيم الحقيقة والحرية والكرامة أساس كل الحقوق الانسانية .
1-القطاع الاوسع والاكثر تأثيرا بين وسائل الاعلام هو بلا شك قطاع التلفزة. منذ الخمسينات كان لبنان سباقا في خوض هذا النشاط ، مشكلا بذلك علامة فارقة في العالم العربي حيث كان استعمال هذه الوسائل حقا حصريا للسلطات الحكومية. ألامر الذي جلب- وما يزال – المتاعب للبلد الصغير، جراء الواقع المميز الذي يتمتع به نظامه القائم على تقاليد عريقة من التعايش والتعددية والمبادرة الخاصة والاحترام بين طوائفه،والنزعة الدائمة لدى أبنائه الى الحرية و الاستقلال .في الحرب التي اندلعت عام 1975 وتحت تأثير الضغوط التي استهدفت الحريات الاعلامية في لبنان تم اقرار صيغة مشتركة بين القطاعين الخاص والرسمي- بالنسبة لشركتي التلفزة الوحيدتين اللتين كانتا قائمتين – في محاولة لوضع اليد على هذا القطاع أسوة بالانظمة العربية .فدخلت وسائل الاعلام المرئي والمسموع مرحلة من الفوضى ادت الى واقع غير مسبوق . تحوّل بين 1977 و1996 الى ما وصف بالانفجار الاعلامي.بلغ معه عدد محطات التلفزة 60 والاذاعة اكثر من 120 وقيل أكثرمن ذلك بكثير .وراء هذا الواقع كان ما هو مستغرب وغير مقبول ، كما كان ما يبرره منه اتخاذ المبادرة من جهة هيئات مدنية واهلية كان عليها أن تعمل- في أجواء الحرب – لتلبية حاجات التواصل بين المواطنين ، ولفك أشكال الحصار الذي كانت الميليشيات تفرضه على المناطق . لذلك قد نفهم لماذا شارك علمانيون وربما رجال دين في اتخاذ المبادرات الاولى لتأسيس أذاعة ثم في مرحلة لاحقة لتأسيس محطة للتلفزة .
المشهد غير المقبول هو ما جرى بعد توقف القتال عندما تسابقت الميليشيات والزعامات واصحاب رؤوس الاموال الى امتلاك موجات البث وتأسيس محطات – حتى بالنسبة لمن لم يكونوا مالكين لمحطات معينة – وذلك لأحراز حقوق حصرية على غرار ما كان وما يزال جاريا بالنسبة للصحافة السياسية ، علما أن حق الحصرية هذا كان وما يزال يشكل سياسة غير شرعية تتعارض مع القوانين الدولية التي اقرها لبنان .
شهدت وسائل الاعلام بين 1990 و 1996 عشوائية وانتهاكات جسيمة في حق الحريات كان المسيطرون على الاوضاع اكثر المسؤولين عنها .فبعد مماطلة من الحكومات المتعاقبة تم تأليف مجلس وطني للاعلام منقوص الصلاحيات بالنسبة للمعايير الدولية التي تتضمن صلاحيات تقريرية ومسافة من السلطتين التنفيذية والتشريعية بما يضمن لهذا المجلس الاستقلالية والموضوعية في العمل .هذا الامر لم يتحقق أذ تم تعيين أعضائه مناصفة بين مجلس النواب والحكومة . في هذا الاطار صدر قانون لتنظبم الاعلام المرئي والمسموع ( 1994 رقم 382 ) أجاز الترخيص للعدد المعروف من المحطات ( 15 اذاعية و7 تلفزة) التي توزعت ملكيتها على أساس المحاصصة المذهبية والزعاماتية ، بعد أن صنفها فئتين – اولى وثاتية – لا تتمتع الثانية منهما بحق بث الاخبار السياسية والاعلانات التجارية ، ما شكل بدعة في نظر القوانين الدولية .فلم تؤخذ فيه بالاعتبار تصنيفات اخرى معتمدة مثل المحطات المناطقية ،والقطاعية ،والتربوية ،والثقافية ،والدينية وغيرذلك..
2- بالنسبة للمحطات الدينية ، وبخاصة تيلي لوميار(1991) وصوت المحبة (1984) لم يحسب لها اي حساب في بادىء الامر في توزيع الاقنية والموجات . لذلك قامت الحركات الرسولية العلمانية والمؤسسات الاعلامية المسيحية بتشجيع ومباركة من الكنيسة بحركة احتجاجية على هذا الاجراء حملت الحكومة بشخص رئيس الوزراء آنذاك الى اصدار قرار بالترخيص، فأصدر قرارا وزاريا بدلا من مرسوم فجاءت تسوية متواضعة أعطي بموجبها للمحطتين -عبر مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان – حق البث على القتوات الرسمية لا الخاصة تحت اسم : "تيلي لوميار – تلفزيون لبنان " و"صوت المحبة – اذاعة لبنان " ، وقد استفاد ت من هذه التسوية في الوقت نفسه محطات دينية ،غير قائمة اصلا ،عائدة لطوائف اخرى على سبيل القاعدة المعروفة : 6و6 مكرر .
تطور واقع المرئي والمسموع الديني فاكتسب انجازا جديدا مرموقا ،عام 2004 ، باطلاق الفضائية "نور سات" الرديفة لتيلي لوميار ، برخصة مستقلة وبقرار من وزارة الاتصالات .هذه المحطات الثلاث تشكل اليوم العمود الفقري للاعلام المسيحي تحت اشراف الكنيسة المباشر ، مع الاشارة الى أن محطات اخرى مثل "ال بي سي" و"ام تي في" ( قبل اتخاذ الاجراء التعسفي بوقفها )، وعدد من البرامج التي تبثها المحطات اللبنانية الاخرى تشكل منبرا اضافيا للعلمانيين، يوصلون من خلاله الرسالة المسيحية في مضامينها الانسانية التي تستحق أحيانا التنويه والتشجيع . ولكن لا يمكن الاعتماد الدائم على هذه المحطات نظرا لبرامجها المحكومة بأهداف تجارية وسياسية خاصة ، في ظل وقوانين استنسابية تخالف مخالفة واضحة مضامين الدستور اللبناني والقوانين الدولية على الرغم من اقرار لبنان لها .
تقييم واقع الاعلام الديني المسيحي: حققت هذه المحطات الثلاث حتى اليوم نجاحا ملموسا على صعيد انعاش الليترجيا والثقافة الدينية والحوار المسكوني والحوار المسيحي الاسلامي وقدمت بذلك مساهمة ثمينة في نشر ثقافة السلام ، وتقريب المسافة بين المقيمين والمغتربين وبين مسحييي منطقة الشرق الاوسط .يسعى القيمون عليها لمجاراة التقدم التقني وتوسيع رقعة البث وتحقيق معدلات انصات مرتفعة نسبيا . على الرغم من الصعوبات التي تواجهها هذه المحطات- وخاصة صوت المحبة التي نالت نصيبها البالغ من أثار سلسلة الجرائم التي استهدفت اللبنانيين منذ خريف 2004 ولم تنج منها كليا تيلي لوميار في حرب 12 تموز ولا ال " ال.بي. سي. " – على الصعد التمويلية التي تتطلب مبالغ ضخمة ، والادارية والقانونية ، والاعتماد المرتفع على التطوع، والرقابة وغيرها، استطاعت أن توفر أداء اعلاميا مرموقا بشهادة كثيرين . الملفت أيضا أنها جمعت الى النشاط الاعلامي نشاطات اجتماعية وخيرية وثقافية وسياحية روحية في خدمة جميع الشرائح وبخاصة الشبيبة والفئات الضعيفة ، ما يشير الى فهم الدور الحقيقي للاعلام المسيحي وممارسته-علما انه لا يتوقف في البشارة عند الكلام بل يقترن باعمال محبة وحملات جماعية ضد ظاهرات الانحراف التي تتطلب التدخل والمبادرات العملية المباشرة . هذه الممارسة والرؤية لم تكونا لتتحققا لولا وجود علمانيين ومكرسين أدركوا رهانات البشارة الجديدة فدعموها بما يتحلون به من كاريزما وتضحيات. ( اسمحوا لي أن أذكر الاخ نور والآباء حنون اندراوس و فادي تابت و طوني خضره، والسادة جاك كلاسي وانطوان سعد ..والعديد سواهم ممن يعملون في الاعلام الديني بعيدا عن الاضواء .)
3- بعد العام الفين انفتح الفضاء اللبناني على محطات خارجية بشكل ملحوظ ، وذلك خصوصا مع دخول فضائيات عربية ومحطات ناطقة بالعربية وغيرها بعدد لا يحصى، فأصبحت تشكل بالنسبة للمشاهد اللبناني والثقافة اللبنانية بشكل عام عامل ثراء بقدر ما هو أيضا عامل تهديد مشحون بالمخاطر ، وبخاصة على الشبيبة ، جراء ما تحمله هذه المحطات من اعلام العنف والاباحية والاصولية والعنصرية . كيف يمكن مواجهة هذا التدفق والغزو الثقافي في غياب التنشئة الملائمة لحماية الاجيال والعائلة والاقتصاد الوطني والامن الداخلي . اسئلة مطروحة على ضمير الجميع .
السؤال يشمل ايضا قطاع الاعلانات الذي يلعب دورا كبيرا في جميع القطاعات الاعلامية الاخرى ممثلا بالنسبة لها عامل تغذية بقدر ما يمثل عامل تبعية لسلطة المال وانقياد لقواعد السوق والاخلاقية المركنتيلية المرتبطة بها ، من ميل للربح السريع وعقلية مادية استهلاكية تحاكي الغريزة والطبقة الاكثر سوادا في اللاوعي الانساني على حساب الحس النقدي والجمالي وقيم الحقيقة والخير العام .
كم يبدو مخجلا- في هذا المجال – أن تكون الاحياء والبلدات والفرى المسيحية والساحات القريبة من الكنائس والاديار والبطريركيات ايضا هي الاكثر استقبالا لعرض المادة الاعلانية المشوهة للبيئة والحواس والذوق السليم .رغم هذه السلبيات لا تحجب ايجابيات هذا القطاع المهم بالنسبة للاقتصاد اللبناني لما فيه من نصيب مرموق لمستثمرين مسيحيين بينهم علمانيون مؤمنون .بامكان هؤلاء- الى جانب جنيهم ارباحا- خدمة الثقافة اللبنانية والمسيحية من خلال تعزيز ثقافة قيم النزاهة والشفافية في وجه ثقافة الغش السائدة والتلاعب بالعقول والفساد التي يسجل لبنان فيها – اليوم- خطوات سلبية وفقا لما تطالعنا به البيانات الدولية الصادرة دوريا عن مراصد حقوق الانسان .
ثانيا :
1-– أتوقف باقتضاب عند الصحافة المكتوبة في قطاعيها المدني والديني مع ان عرضها يستحق فسحة اوسع لولا ضيق الوقت.انها القطاع الاكثر قدرة على التعبير عن حقيقة الانسان في عالمه الداخلي ، نقيض الاعلام المرئي والمسموع الذي يدور في العالم الخارجي ويخاطب الحواس والعاطفة اكثر من العقل ، متحركا فوق سطوح الاشياء لا في عمق الوجود ، خاضعا لتأثير سحر الوجوه النجومية وجاذبية الحركة واللون في عالم الفنون ، وصنمية السلع في التجارة. والقابلية للانخداع لدى سماع الخطاب العقائدي في عالمي السياسة والدين لا سيما في غياب الحس النقدي .
كانت الصحافة اللبنانية الوطنية والاغترابية في اساس النهضة العربية التي ظهرت اولى بوادرها في الاديار وقرب الكنائس ، وفي المؤسسات التعليمية ،والمطبعة والمسرح في الجبل والساحل.كما كانت في أساس الحركة الاستقلالية التي أدت الى ولادة" لبنان الكبير" مرافقة اياه في نضال أبنائه في الحقب العثمانية والانتدابية ومرحلة الاستقلال والحرب الحالية التي لم تنته بعد .لقد تماهى نضال الاعلاميين في كل هذه المراحل -وما يزال- بنضال السياسيين والاحزاب والمجتمع الاهلي والمدني .فكم من حكومة ولدت في مكاتب صحيفة ، أو اسقطت بعد حملة أعلامية ، كم من الاعلاميين دخلوا السجون واغتيلوا وكالجنود قدموا حياتهم وهم يؤدون واجبهم ، في الطريق او المكتب ، في الجبهات إو في المنازل ،غير متسلحين الا بالاقلام وعدسات التصوير … شهادة هؤلاء كما شهادة بعض المؤسسات الاعلامية- التي لم تسلم من الاعتداء عليها في الفترة الاخيرة – هي مشاهد درب صليب مراحله لم تتوقف بعد – وبعضها قريب منا في المكان والزمان والاشخاص .قدمت الصحافة اللبنانية نماذج رائعة في معمودية الدم هي قرابين فداء مرفوعة فوق مذبح الوطن وتحت قباب الهياكل المقدسة ، وجديرة بان تنضم الى قرابين المخلص الذي أحب خاصته حتى الموت فداء عنها .
نبحث عن علمانيين يلبون الدعوة الى القداسة ؟ أوليس ان في مثل هذه الوجوه صورة الى ما نبحث عنه ؟
اكتفي بهذا الجانب من مشهد الصحافة مقدما اياه على الجوانب الاخرى ، ايمانا مني ان الاعلام هو مهنة رسولية جوهرها عطاء الذات ، أما الباقي- الصناعة و التقنية فهو مما يعطى ويزاد بعدما يتوفر الجوهر .حاليا تواجه هذه الصحافة تحديات يعود اهمها الى منافسة الصحافة الالكترونية لها، ما ينعكس على معدلات السحوبات والمردود المالي وتفاقم خطر الارتهان لعالم الاعلانات والسياسة . ولكن هناك دراسات وأبحاث تشير الى أن الصحافة الحرة والمستقلة لا تتأثر كثيرا بهذا الواقع الجديد في الاوساط الديمقراطية التي تعرف ان تميز بين الغث والسمين ، ما يعني أن المعلن يجد نفسه مضطرا الى ان يكون تابعا لا متبوعا لدى استثماره في الصحافة الحرة الصحافة، بعكس الصحافة المرتهنة التي تتنازل عن حريتها للمعلن كي تؤمن استمراريتها .فتتعرض مع الوقت الى فقدان القراء ثقتهم بها ،في مقدمة للفشل .
هذه الحقيقة من شأنها أن تحفز القراء- ومن بينهم العلمانيين – الى تشجيع الصحافة الحرة ، وذلك عبر أنشاء حلقات ضغظ ومراصد مدنية من المشاهدين والقراء الذين تتكون منهم الجمعيات والرابطات والحركات الثقافية والرسولية ، لتقييم متواصل للانتاج الاعلامي ،بهدف الحد من تأثير المال والتيارات المادية والسياسة الهدامة عليها .أن المعلن أو السياسي الذي يشعر بانه ملاحق بالمساءلة والمحاسبة لا بد له من ان يعيد الحسابات في تصرفاته ضمانا لمصلحته .
2- ما يقال في الصحافة المدنية ينسحب ايضا على الصحافة الدينية ، باستثاء أن الاخيرة لم تستطع حتى الآن أن تكوّن رأيا اعلاما مؤثرا وفاعلا . على بعض المجلات الدينية التي صدرت وما تزال تصدر – مع فترات من الانقطاع – مثل المشرق والمسرة والمنارة لا تنكر طابعها اكاديمي العريق . كما لا تنكر محاولات التجديد التي يقوم بها بعض مجلات الابرشيات والرابطات ومراكز الدراسات والابحاث التابعة للجامعات والمعاهد العليا الدينية والاكاديمية.ولكن عدم انتشارها وسوء توزيعها وافتقارها الى الشروط التقنية وعدم كفاءة العاملين فيها مهنيا ، واعتمادها على التطوع ، وغياب هيئات التحرير الدائمة عنها ، بالاضافة الى عدم الاخذ بالاعتبار لشروط اخرى اساسية مثل تعددية الاصوات وملاءمة الخطاب مع حاجات القراء ومستوياتهم الفكرية والروحية والاجتماعية ، كل ذلك يحمل الى القول بأن الصحافة الدينية المسيحية هي أقرب الى الصحافة الشعبية المحدودة التأثير والبعيدة من أن تكوّن أو تشارك في صنع الرأي العام الذي بدونه يصعب الحديث عن وحدة وشراكة وديمقراطية في الحياة الوطنة كما في الحياة الكنسية .أن صوت الراعي الذي يتلاقى مع صوت الرعية هو اقرب الى الاعلام الصحيح ،بالنسبة للاعلام القديم ،حيث كان المعلم يتكلم والتلامذة يصغون . يمكن التجرؤ للقول ان مع هذا الواقع يصعب تكوين جماعة او كنيسة بوصفها جماعة وشعب الله . هذا لا يعني ان وسائل الاعلام الحديثة تختزل كل سبل الاعلام . هناك أشكال عديدة في تقاليد الاعلام الديني والشخصي لها مكانتها المرموقة التي يجب عدم اغفالها ، من اللقاءات الشخصية والمناسبات الدينية …هدف المجلة الدينية وكل مجلة المساهمة في بناء الجماعة من خلال الحوار بين جميع عناصرها . عندما تنجح الوسيلة الاعلامية الدينية بان تكون خلية حية مثل العائلة بنجح بالقدر نفسه بأن تكون "كنيسة صغيرة " و" آية رجاء .
يبلغ مجموع المجلات المسيحية الدينية حالياً حوالي مئة دورية تعالج مواضيع تتصل بالرعويات، من بيبلية وآبائية وليترجية وتاريخ الكنيسة ،وقضايا أخلاقية وعلاقة العلم بالاخلاق ومواضيع ثقافية وتراثية، الى حاليات كنيسة اليوم وحوار الاديان وغيرها . علما ان عددا من الصحف السياسية يقدم مساهمته في هذه المواضيع فيخصّص مساحات واسعة للخبر الديني ،مقدما تغطية وافية لأخبار المرجعيات الدينية، أقوالها ومواقفها، وأعمدة كاملة لموضوع الأديان والمذاهب، موفرًا التواصل اليومي بين الرعاة وجمهور المؤمنين. تعود هذه الايجابية إلى انفتاح الاعلام المدني اللبناني على الرأي الآخر عموماً ،والى وجود علمانين في مختلف وسائل الإعلام، منها أيضا تلك التي تصدر في الخارج. هناك مجموعات من العلمانيين البارزين يعملون في مختلف المؤسسات الإعلامية الناطقة بالعربية والاجنبية في لبنان وعالم الانتشار/ وهم يشكلون طاقة كبيرة اذا ما عرفت الكنيسة التعاون معهم من أجل شهادة حقيقية.
هذه الصحافة –على ما هي عليه – قد يتعزّز دورها إذا ما توفر لها مشروع موحّد يربط بينها، ورؤية راعويّة جامعة تتناول قضايا الكنيسة والمجتمع.واذا ما تم تطويرطابعها المهني واستكمال شروط أدائها شكلا ومضمونا. ومن المفيد تطوير دورها، لئلاّ يكون محصوراً في تغطية النشاطات الرعوية وحسب بل يشمل قضايا اجتماعية تهم الجميع توجه الانتباه المسيحي الى القضايا الاساسية في مجالات العدالة والحرية والكرامة الانسانية والتصدي لهيكليات الظلم والخطيئة الاجتماعية .
اتجاوز – لضيق الوقت معالجة- موضوع الصحافة الالكترونية البديلة- على أهمية هذا الموضوع البالغة في زمن العولمية ،مشيرا الى ضعف هذه الصحافة حتى الان في الاوساط الكنسية والحركات الرسولية في لبنان والمنطقة . وهو امر يستحق تكريس وقت خاص له .
ثالثا :
–القضايا التي يجدر أن يتضمنها الإعلام المسيحي وتحتل مكانة مرموقة فيه هي ،بالإضافة إلى المواضيع التقليدية، القضايا عينها التي تهمّ الإنسان في لبنان ومحيطه العربي بصورة عامة، وفي مقدمها قضية السلام والحرب ، وقضايا أخرى أساسية لا تقل أهمية، كالحوار ما بين الأديان والمذاهب والتيارات الفكرية والحوار المسكوني والحوار المسيحي الإسلامي.وإلى قضايا العدالة والحرية وحقوق الإنسان كافة، الإسم المدني للإنجيل في عالم اليوم.هذه القضايا تتطلّب الالتزام بها والتضامن مع أنسانها وجماعاتها الأكثر معاناة، باعتبار أن كل إنسان متألم هو مسيح مصلوب، من الواجب المقدس علينا، كالقيرواني ، تقديم المساعدة له، ليتحرّر من كل ما ينتهك حقه في الحياة الإنسانية الكريمة، بما فيه الحق في أن يكون له أرض ووطن ،والحق في الإقامة والسكن اللائق، والتنقل الحرّ، والاتصال والإعلام، والتعبير والمعتقد والدين ، والتعلّم، والاجتماع ،والعمل، مفتاح المسألة الاجتماعية كلها, من هذا المنطلق التضامني مع الإنسان وقضاياه يمكن أن نفهم دعوة قداسة البابا إلى أبنائه الكاثوليك في لبنان والعالم العربي لتعميق انغراسهم الثقافي في بلدانهم عندما يقول :" إن مصيرًا واحدًا يربط ما بين المسيحيين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة… (مشددا ) على ضرورة المحافظة على علاقاتهم التضامنية مع العالم العربي وتوطيدها ( ودعوته) إلى اعتبار انضوائهم إلى الثقافة العربية التي أسهموا فيها إسهامًا كبيرًا موقعاً مميزًا، لكي يقيموا هم وسائر مسيحيي البلدان العربية حوارًا صادقًا وعميقًا مع المسلمين … وأن يبنوا معًا مستقبل عيش مشترك وتعاون " (رجاء جديد للبنان ،الفقرة 99).
وإذا كان لا بدّ من امتياز يعطى لأحد أو لفئة من المجتمع فذلك ينبغي ان يكون للضعفاء، المستصغرين والمستضعفين، الذين أوصى بهم المسيح توصية خاصة وتماهى بهم كما أوضح في إنجيل التطويبات، وهم: الطفل والمرأة والمسن والمريض والمعوّق والمهمّش والمهجر والسجين والمعرّض للزوال من أبناء الأقليات الإتنية واللغوية والدينية..إن الدفاع عن هذه القضايا ولا سيّما منها "حاجات المستضعفين والمهمشين وذوي الحالات الهشّة– كما يقول البابا يوحنا بولس الثاني (ي ع، 34،2000)- قد تكون إعلانًا ضمنيًا لبشارة الرب".
بهذه الروحية عينها يتوجه أيضا بطاركة الشرق الكاثوليك الى أبنائهم :
" أن كنائسنا تدرك تمام الادراك أن الانسان المسيحي في بلادنا يشارك أبناء وطنه سراءهم وضراءهم فهو يعيش الالام عينها ويعاني من الحدود والجراح عينها ، وتسكنه التطلعات والآمال نفسها . أن تضامننا .. يتخطى همّ الدفاع عن حقوقنا .. ليصل الى حد المشاركة في الدفاع عن حقوق الانسان وتحرر الشعوب وحقها في العيش الكريم .. والعمل على أثبات كرامة الانسان في وجه كل القوى الداخلية والخارجية التي تقمعه وتذله وتحول دون تحقيق أمانيه الانسانية المشروعة.. و مقاومة الظلم أيا كان مصدره واياً كان فاعله ، لهي من سر المسيح والكنيسة .. فنحن لا نستطيع أن نسكت عندما يهان الانسان وتداس كرامته وتنتهك حقوقه الاساسية" ( الحضور المسيحي في الشرق ، شهادة ورسالة، 1992 ، 55)
خاتمة
أن في الدفاع عن هذه القضايا أذاً دوراً كبيراً للاعلاميين المسيحيين. فهم مدعوون "باسم الرسالة كما باسم المهنة لكي يكونوا في خدمة الحقيقة والعدالة والحرية والمحبة "(ي ع، 37، 2003).لأن لهم – كما يؤكد البابا يوحنا بولس الثاني – " مهمة نبويّة، ودعوة تتطلب فضح الآلهة المزيّفة وأصنام العصر المزيفة، وهي المادية والمتعوية والاستهلاكية والقومية الضيّقة " (ي ع، 2001، وسائل الإعلام والاتصال، أخلاقيات وآداب، 31) وما يتفق مع هذه الاصنام من عقليات التسلط والاحتكار وسياسات التمييز على أنواعه ، إلى ظواهر الفساد والغش والتلاعب بعقول الناس على حساب الحقيقة والمصلحة العامة في كل المواقع . كلها مواضيع يتعيّن على الإعلام المسيحي معالجتها بروح الشجاعة والتضحية التي انطبع بها عمل الرسل الأولين في اختبارهم التحوّلي يوم "العنصرة"، يؤيدهم الروح القدس في آداء شهادتهم من على سطوح ومنابر العالم التي هي اليوم وسائل الإعلام.
بمثابة الخاتمة :
لقد أشار المجمع البطريركي الماروني في النص الخاص بالعلمانيين الى "فوضى العمل واستنسابيته ( على مستوى هيكلية الكنيسة وادارة مؤسساتها ) وعدم احترام التوقيت وغياب التخطيط واحتكار بعض الاساقفة و- أ و المسؤولين فيها للقرارات المهمة واستبعاد العلمانيين الذين يعارضون آراءهم –" ما يطرح سؤالا حول مدى صلاحية المسؤو ل ومدى وعيه لرعوية مشاركة العلمانيين في حياة الكنيسة وبالتالي مدى الشراكة في القرار . واعتبر النص المجمعي ان هذا الامر بات ملحا سيما وان الكنيسة مزمعة على المضي في العمل بروح مجمعية مشتركة، حيث لا فضل لواحد على آخر الا بمقدار صدق شهادته واخلاصه بالعمل وتفانيه في خدمة الكنيسة. يخلص النص نفسه الى " ضرورة وضع مقاييس واضحة ومعروفة لهذا الاختيار – منها مثلا- الالتزام المسيحي المشهود له ، الكفاءة العلمية ، روح الشركة الكنسية ، الخدمة المتواضعة وغيرها " . ( المجمع البطريركي الماروني –بكركي 2006 – النص التاسع ، 24، صفحة 328 ).