وإحصاءات وبرامج تساعد على مواجهة المشكلات الناتجة عن هذه الهجرة. فالإحصاءات السكانية القليلة والمتقطعة التي تنتجها الإدارة المركزية للإحصاء والجهات الإحصائية الأخرى في الدولة لا تتطرق إلا نادراً الى قضايا الهجرة، ومعظم المعلومات المتاحة في هذا المجال تأتي من جهات خاصة تقوم بجمع المعلومات وتحليلها وفق قدراتها المحدودة، ومن باحثين يهتمون بتحليل هذه المعلومات وفق توافرها. أما الجهات المانحة في مجال السكان فإنها غائبة في شكل شبه كامل عن الموضوع، رغم أهميته المعلنة. فصندوق الأمم المتحدة للسكان، الجهة الأممية المانحة الرئيسية في هذا المجال، يركز اهتمامه في شكل شبه كامل على موضوع الصحة الإنجابية وقضايا الجندر والعنف الأسري، مهملاً كلياً قضايا الهجرة الخارجية (وحتى الداخلية)، من الناحيتين الإحصائية والتحليلية، وبالتالي السياسات المتعلقة بها. رغم هذه القيود حاولنا في دراستنا أن نجمع كل ما هو متاح من معلومات، من المراجع الخاصة ومن تحليلات الباحثين في الموضوع بشكل أساسي، للوصول الى صورة أولية لواقع الهجرة الخارجية للبنانيين وتداعياتها الإقتصادية والإجتماعية وحتى السياسية.
حجم الهجرة
الطريقة المباشرة لمعرفة حجم هجرة اللبنانيين تكمن في مقارنة أعداد الوافدين منهم مع أعداد المغادرين. فأعداد الوافدين ناقص أعداد المغادرين خلال السنة، إذا جاءت سلبية، تعطي الحجم الصافي للبنانيين الذين بقوا في الخارج تلك السنة، وإذا جاءت إيجابية فتعني أنّ الهجرة الصافية هي نحو لبنان. هذه الإحصاءات موجودة تصدرها المديرية العامة للأمن العام وتنشرها إدارة الإحصاء المركزي، ولكنها مشوبة الى درجة لا تسمح باستعمالها. فعلى سبيل المثال، إنّ صافي الهجرة، أي عدد اللبنانيين الذين بقوا في الخارج بين سنتي 1995 و1999 (آخر ما نشر) بلغ حوالي 900000 شخص أي بمعدل 180000 شخص سنوياً، وهذا رقم مبالغ فيه جداً وفق الاحصاءات السكانية الاخرى المتاحة.
لذلك قام بعض الاخصائيين بتقديرات للهجرة، إما بمقارنة نتائج مسحي السكان في سنتي 1997و2004 اللذين نفذتهما الادارة المركزية للاحصاء (شربل نحاس وهذه الدراسة) أو من خلال دراسة ميدانية واسعة لعينة من الاسر الموجودة في لبنان، كما فعل فريق عمل في الجامعة اليسوعية برئاسة شوغيك كسبريان، والتي غطت المدة ما بين 1992 و1997. بناء على نتائج هذه الدراسات نستطيع القول ان حجم الهجرة الخارجية بلغ ما بين 35000 و55000 نسمة سنوياً خلال التسعينيات وبداية الالفية الحالية، وأنه من غير المنتظر أن يكون المعدل السنوي للهجرة قد تغير كثيراً منذ ذلك الحين الا لربما بارتفاع بسيط نظراً للحال الاقتصادية والامنية السائدة.
هجرة الشباب
هذه الهجرة المكثفة طالت في شكل خاص الشباب وتركزت على البالغين من عمر 20 الى 34 سنة (الرسم رقم1). فبينما كانت هذه الفئة العمرية تشكّل أقل من 27 بالمئة من مجموع السكان، شكلت في الوقت عينه 47 في المئة من مجموع الهجرة.
من أهم التداعيات الإجتماعية للهجرة أنها أصبحت، منذ بداية الحرب الأهلية، أكثر كثافة وتركزت في شكل خاص على الذكور بين الشباب، ممّا أخل بالتوازن بين النساء والرجال في سن الزواج. لدى الديموغرافيين في هذا المجال طريقة لقياس ما يسمونه “توافر الأزواج” تتلخص بالمقارنة بين عدد النساء من فئة عمرية معينة مع عدد الرجال من الفئة العمرية، التي يتزوجن منها تقليدياً. ففي المدة التي نحن بصددها، أي1997-2004، كان فارق العمر ما بين الرجال والنساء عند الزواج الأول نحو 5 سنوات، لجهة الرجال كمعدل وسطي ولذلك فقياس توافر الأزواج للنساء البالغات من العمر 20 الى 24 سنة مثلاً يكون بمقارنة أعدادهن مع أعداد الرجال في الفئة العمرية 25-29 سنة.
نتيجة هذه المقارنة تظهر في الرسم رقم 2 للسنة 2004. فبالنسبة للبنات في الفئة العمرية 15-19 سنة كان هناك 106 رجال من العمر المناسب لكل 100 امرأة، بينما بالنسبة للفئات العمرية ما بين 20 و24 سنة هناك 79 رجلاً فقط في العمر المناسب لكل مئة امرأة، وفي فئتي العمر التاليتين (أي 25-29 و30-34) 87 و83 رجلاً لكل 100 إمرأة على التوالي. بالمقابل، فإنّ زيادة مدة التعلم عند النساء كما الحال الاقتصادية الضاغطة وأشياء أخرى جعلت سن الزواج الأول في لبنان يرتفع في شكل كبير في العقود الماضية لكلا الجنسين ليصبح الأعلى في العالم العربي، ومن الأعلى في العالم ككل. فبالنسبة للرجال ارتفع سن الزواج الأول من 29 سنة العام 1970 الى حوالي 33 سنة اليوم بينما ارتفع بالنسبة للنساء من 23 الى 29 سنة خلال المدة عينها.
احدى نتائج هذه الحال (أي الزواج المتأخر للنساء وانخفاض نسبة الرجال في هذه الأعمار بسبب الهجرة) كان في ازدياد العزوبة بين النساء في كل أعمار الزواج، ما بين عامي 1970 و1997. فبالنسبة للنساء في الفئة العمرية 20 الى 24 سنة ازدادت العزوبة من 51 في المئة سنة 1970 الى 74 في المئة سنة 1997. وبالنسبة للفئة العمرية 25-29 تضاعفت نسبة العزوبة بين النساء خلال المدة عينها فارتفعت من 26 في المئة الى 50 في المئة، كما تضاعفت تقريباً بالنسبة لكل الفئات الاكبر سناً ايضاً كما يظهر في الجدول الرقم 1.
في أواخر التسعينيات، أصبحت الشابة اللبنانية أكثر تعلماً وأكثر مشاركة في الحياة الإقتصادية وأكثر تحرراً، ممّا جعلها تبحث عن عمل – كزملائها الشباب الى حد كبير- داخل وخارج الوطن فبدأت تتكثف هجرة الشابات للعمل في الخارج، وبخاصة الى الإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت. وممّا ساعد على دفع هذه الهجرة، العزوبة المرتفعة بين الشابات المتعلمات اللواتي لم يكن لديهن أسرة وأطفال يمنعونهن من االسفر. هذه الهجرة النسائية المتصاعدة للنساء العازبات في سنين الزواج أعادت بعض التوازن بين أعداد الشباب والشابات، ممّا أوقف الإرتفاع في مستويات العزوبة بين الشابات عند مقارنة مستويات العزوبة عند النساء لسنتي 1997 و2004 كما يظهر في الجدول الرقم 1. ورغم أنّ الإحصاءات ذات الصلة غير متوافرة لما بعد هذه الفترة فمن المرجح أن تكون مستويات العزوبة بين الشابات قد بدأت بالتراجع بسبب إرتفاع وتيرة هجرة النساء بصرف النظر عن الإرتفاع البسيط الذي يحصل عادة في مستوى العزوبة الإختيارية.
نتيجة أخرى لاختلال التوازن ما بين الرجال والنساء في سن الزواج التي جاء نتيجة لكثافة وتوزع الهجرة وفق الجنس، ظهرت في الإنخفاض اللافت في الفارق التقليدي في سن الزواج الأول بين الرجال والنساء. فبينما كان هذا الفارق ست سنوات السنة 1970 أصبح اليوم أربع سنوات، ممّا يخفض أيضاً نسبة العزوبة بين النساء، إذ أنّ نسبة توافر الأزواج ترتفع كلما ضاق الفارق بين سنَّي زواج المرأة والرجل.
– مدير مركز الدراسات والمشاريع الانمائية (مدما)
نسب اللواتي لم يتزوجن أبداً وفق العمر (الجدول الرقم 1)
الفئة العمرية 1970 1997 2004
15-19 86.8 94.4 94.7
20-24 50.9 74.4 73.0
25-29 25.9 49.7 49.7
30-34 14.2 30.5 30.1
35-39 10.1 21.2 20.9
40-44 7.6 13.7 17.5
45-49 6.9 9.5 12.3
اسم الكاتب(ة): رياض طبارة
المصدر: النهار
القسم: أخبار محلية