بل اكتسب أهمية اختصمَ فيها الأقربون والأبعدون. وتفاعل الموارنة مع محيطهم العربي، وواكبوا الاسلام منذ نشوئه، فكانت كنيستهم، وفق الخوري واكيم مبارك «شاهدة على نشوء الاسلام»، وامتازت علاقتهم به، على عكس غيرهم، بحركة مَدٍّ وجزر، فلا هُم تعاهدوا معه على سلامٍ دائم، ولا هُم ناصبوه عداءً مُستديما. ولعلّ أصدق تعبير عن ذلك ما قاله الشيخ خلدون عريطم في مقدمة كتابه «الموارنة في لبنان بين العروبة والاسلام»: «… فكانت هذه الشريحة (الموارنة) حلقة مهمة توَقّف عندها العاملون لوحدة أمّتنا، والساعون لتمزيقها وتفتيتها، لأنّ هذا البعض من الموارنة بقي على الدوام بين مدٍّ وجزر في علاقته مع أمّته العربية وعالمه الاسلامي، فهو مع الأمويين وضدهم، وفي صدام مع العباسيين ومعهم، وهم الأصدقاء للحملات الصليبية، كما أشار أكثر من مؤرخ أوروبي وماروني، وثائر عليها، وهم المرحّبون بالسلطان سليم الاول والمنتفضون على السلطنة العثمانية، بحيث كانوا البوّابة الرئيسية للتدخل الاوروبي في قسمة تَركة الرجل المريض». وتعصف رياح التغيير في فضاء العالم العربي، والمسيحيون المشرقيون يواجهون ظروفا قاسية وصعبة. فما هي العناصر التي يستطيع الموارنة وكل المسيحيين المشرقيين الارتكاز عليها في مقاربتهم للواقع العربي المأزوم؟
1 – في قراءة بعض معالم الواقع
في العالم العربي
في الثامن عشر من شهر كانون الاول المنصرم، انتحرَ محمد البوعزيزي في تونس حرقا، بعد أن أضرم النار في جسمه عَمدا، في ظاهرة غير مسبوقة أدّت الى اندلاع الثورة التونسية، التي عرفت بثورة الياسمين، والتي أطاحت بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي. وكان احتجاج المتظاهرين على انتشار البطالة، وارتفاع أسعار السلع الغذائية، والفساد، وسوء الظروف المعيشية. تحوّلت المظاهرات التي بدأت في كانون الأول 2010 إلى سلسلة من أعمال العنف والاعتقالات من جانب الشرطة والجيش التونسي تجاه المتظاهرين، وأسفرَت عن عشرات القتلى وآلاف الجرحى.
وبالتزامن مع الثورة التونسية، بادرَت مجموعة "كلنّا خالد سعيد" الى الدعوة الى مظاهرات احتجاجية في مصر، يوم 25 كانون الثاني 2011، المتزامن مع الاحتفال بعيد الشرطة، وعبر موقع الفيسبوك الاجتماعي، تحت عنوان «يوم الثورة على التعذيب والفقر والفساد والبطالة». ودعَت هذه المجموعة، ومجموعات أخرى انضمّت اليها، إلى خروج مظاهرات منظمة «للمطالبة بالتغيير السياسي وحَلّ المشكلات الاقتصادية في مصر»، ونتج عنها ما يُعرف اليوم بالثورة المصرية التي أطاحت بنظام الرئيس المصري حسني مبارك. ويعتبر الشاب المصري وائل غنيم، خبير تسويق المواقع الالكترونية في شركة غوغل في الشرق الاوسط وشمالي لفريقيا، والناشط في إطار المجتمع المدني المصري، قائد الثورة المصرية على اعتبار أنه أنشأ موقع «كلنّا خالد سعيد» على الشبكة الالكترونية، ودعا من خلاله الشباب المصري للمشاركة في تظاهرات 25 كانون الثاني، حتى قيل «شباب الإنترنت يطيحون بمبارك».
لم تقتصر الاحتجاجات والتظاهرات على تونس ومصر، بل تعدّتهما الى 11 بلدا عربيّا، وقد تعاقبت زمنيّا كما يلي:
– 28 كانون الاول و13 كانون الثاني احتجاجات قوية في المغرب تخللتها عمليات انتحار.
– 14 كانون الثاني احتجاجات محدودة في الاردن أدّت الى تغيير حكومي.
– 16 كانون الثاني احتجاجات شعبية في الشارع في ليبيا.
– 17 كانون الثاني احتجاجات ومظاهرات في كل من السودان وعمان وموريتانيا.
– 18 كانون الثاني احتجاجات في اليمن تكررت في 1 شباط.
– 26 كانون الثاني انتحار في سوريا على الطريقة البوعزيزية.
– 29 كانون الثاني احتجاجات في السعودية تخللتها عملية انتحار.
– 30 كانون الثاني انتحار شاب في المغرب.
– 1 شباط احتجاجات في جيبوتي.
وقد تزامنت هذه الاحتجاجات مع 25 عملية انتحار على الطريقة البوعزيزية، في كلّ من الجزائر (6) ومصر (6) والمغرب (5) والسعودية (2)، وانتحار واحد في كل من تونس والسودان وسوريا واليمن وموريتانيا. وجاءت عمليات الانتحار هذه في أقلّ من شهر ونصف الشهر، ولأسباب تتصل في غالبيها بحالات يأس وإحباط وفقر وعَوَز، فَضّلَ من عَانوا قساوتها الموت على الحياة.
وتتصل الأسباب المباشرة وغير المباشرة، والتي تجسّد قواسم مشتركة لحركة الاحتجاج هذه التي عَمّت العالم العربي، وبطرق مختلفة، بالأنظمة السياسية وتجلياتها الامنية، وقوانين الطوارئ المفروضة في غالبية هذه البلدان، وتغييب الديموقراطية، وتزوير الانتخابات على أنواعها، وقمع الحريات العامة، والفساد وسوء الأوضاع المعيشية والاقتصادية…
2 – بعض العناصر للتأمّل
في «علامات الأزمنة»
أكّد المجمع الفاتيكاني الثاني، في دستور راعوي حول الكنيسة في عالم اليوم «فرح ورجاء»، «أنّ شعب الله، إذ يحرّكه الايمان، (…) يحاول أن يميّز، في الأحداث وفي متطلبات عصرنا وطموحاته، العلامات الحقيقية لحضور الله أو لقصده…». فما هي قراءتنا الروحية لهذا الواقع العربي الذي ننتمي اليه وهو يعنينا من دون أدنى شك؟ وما هي «العلامات الحقيقية لحضور الله» في كل ما حدث ويحدث؟ إنّ هذه المقالة تَعرض بعض العناصر للقيام بهذه المهمة.
أوّلا، لقد سبق تلك التغييرات المذهلة، والتي لا تزال في بدايتها، الدعوة النبوية لانعقاد الجمعية الخاصة بسينودس الاساقفة من أجل الشرق الاوسط، والتي قد تكون العناية الإلهية قد أرادتها لافتتاح مرحلة التغيير هذه، والتي لم يكن غالبية المشاركين فيها يتوقعون حدوثها بهذه السرعة. غير أنّ منطق الله وطرقه هو غير منطق البشر وطرقهم، فمنطق الله هو منطق الرجاء الذي دعتنا اليه الجمعية الخاصة من أجل الشرق الاوسط، هذا الرجاء الذي بدأت تظهر تباشيره في فضاء هذه المنطقة، وإن سبقته جراح أصابَت الجسد المسيحي المشرقي، ذلك أنّ الموت يسبق القيامة.
ثانياً، لا يمكن لأحداث تختزن كثافة من هذا النوع في معناها الانساني إلّا أن تستوقف المسيحيين وتُلزمهم تفحّص الوقائع التي جعلت من بائع خضار متجوّل مُطلقا لثورة الياسمين التونسية، والتي صنعت من رجل مغمور وعادي وناشط على مواقع الانترنت قائدا للثورة المصرية. إنّ هذه الواقعة وتلك، تعنيان أن عَمل فرد واحد يختزن معنى انسانيّا عميقا، يستطيع استنهاض الملايين وقلب الموازين. وبالتالي، فما هي قيمة التحدّث عن أقلية أو عن أكثرية من الناحية العددية؟ كذلك، ألا يعني ذلك أنّ «بنى الخطيئة» هي من الوهن بحيث أنّ عمل فقير واحد هو قادر، في سياق تشابُك أنشطة احتجاجية تصاعدية، على إسقاطها، «ذلك أنّ الامور تعمل معا في سبيل الخير».
ثالثاً، ألا يبدو واضحا أنّ العمل السلمي هو أقوى من المواجهة العنفية وأقدر من أرتال الدبابات وأعداد الجيوش وأفعل منها؟ ألا تستوقفنا هذه المتغيرات، خصوصا أنّ المسيحيين اللبنانيين كانوا في أساس «الثورة اللبنانية» في العام 2005، هذه الثورة التي ألهمت، وكما يصرّح بذلك الشباب العربي اليوم، ثورات هذا العالم العربي والشرق أوسطي في العام 2011؟ ما انفكّ صاحب السيادة المطران أنطون حميد موراني يردد أنّ لبنان هو «وجدان العالم العربي الناقد»، وها هي هذه المقولة المثيرة تجد أبهى تجليّاتها اليوم في ما يقوله شباب العالم العربي في هذا الوجدان، الذي، وعلى رغم صِغر لبنان، هو قادر على الإسهام بشكل أساسي وبنوي في تغيّر وجه العالم العربي.
رابعاً، لا يمكن لأيّ مسيحي مؤمن إلّا أن تستوقفه حوادث الانتحار المتتالية التي أعقبت انتحار البوعزيزي. في مقاربة سريعة لعمليات الانتحار تلك، يبدو جليّا أننا أمام شعوب بائسة ويائسة في آن تفتقد «حضارة المحبة»، شعوب تعيش في بلدان لا يفهم حكّامها، المستبدون والظالمون، إلّا بعد أن يتحرّك الناس في الشارع، نتيجة لإضرام بعضهم النار في أجسادهم عمدا، تعبيرا عن احتجاجهم على ما يقاسون، بعد أن فقدوا كل أمل في نجاح أيّ تغيير اجتماعي وديموقراطي يوفّر لهم كريم العيش. إننا، ويا للأسف، إزاء مواطنين أدركوا أنّ آذان من يتحكّمون بمصيرهم وبرقابهم قد صُمَّت عن الاصغاء الى مطالبهم، فقرروا الانتحار. هذه الظاهرة الغريبة التي سيخجل منها تاريخ هذه البلدان وشعوبها، ألا تجسّد، على فداحتها ورفضها، «قوّة الفقراء والمعوزين» كانعكاس لقوّة الله؟ أليس «الصليب عند الهالكين جهالة، أمّا عندنا نحن المؤمنين فهو قوّة الله»؟
ولعلّ أكثر الأمور ايجابية في عمليات الانتحار هذه، أنها لم تمكِّن الأنظمة المستهدفة من رَبط هذه التحركات بالخارج وبنظرية المؤامرة، ومن أن تتهم أولئك البؤساء الذين أضرموا النيران في أجسادهم عُنوة بالتعامل مع أنظمة مشبوهة وامبريالية، وبتنفيذ مشاريع «أعداء الأمّة» ومخططاتهم. فليس أبلغ فيما حدث من أنّ فقراء عُزّل أسقطوا بـ «أسلحة الانتحار والرسائل الالكترونية» اثنين من أكبر الطغاة في العالم العربي. إنها أفعال "المجتمعات السائلة" (Les sociétés fluides) التي أسستها ثورة الاتصالات، والتي لا يمكن للأنظمة القمعية مراقبتها وضبطها.أليست هذه الثورة، وحين تستعمل مُكتسباتها في سبيل الخير، واحدة من تَجَليات عمل الله في عالمنا؟
أخيرا وليس آخرا، ما انفكّ المسيحيون في البلدان العربية يرددون، وعلى مدى أكثر من ستة عقود، أنّ الأنظمة العربية الحاليّة تقيهم شرّ الاصوليات العربية، وتوّفر لهم بالتالي حضورا «آمنا»، وفي شروط تراعي الحد الادنى من الحقوق الاساسية لهم. غير أن ذلك لا يعفي المسيحيين من مهمة الاشتراك في التغيير نحو عالم أفضل، على اعتبار أنّ هذه المهمة تتصل بدعوتهم ورسالتهم على السواء. والسؤال الذي يجب أن يتنبّه له المسيحيون هو: هل تصدّرت كل الشعارات التي رفعها المنتفضون في العالم العربي الشعارات الاسلامية المتطرفة على أنواعها؟ أم أنّ شعارات المجتمع المدني كانت هي الغالبة؟