من الذين كانوا يقيمون في عاصمة الشمال بسبب ارتباطهم بقطاعات التوظيف والتعليم والخدمات وغيره من سبل العيش. ورغم كل ما قيل ويقال عن التوترات المتنقلة في طرابلس لا تزال اعداد المسيحيين المقيمين في مدينتهم وافرة، وتقدر استناداً الى اوساط متابعة بنحو 1700 عائلة تتركز غالبيتها في ميناء طرابلس المدينة التوأم لعاصمة الشمال وأحد مراكز نبض الحياة فيها. وبهذا المعنى يصبح كل كلام عن افراغ المدينة من المسيحيين وتهديد وجودهم، مجرد مشاريع جنون لا قيمة لها.
يبلغ عدد المسيحيين المسجلين على لوائح الشطب في طرابلس والميناء والقبة نحو 22 الفاً يتوزعون على كل الطوائف الرئيسية والاقليات. واقترع منهم ما يقارب 4500 ناخب خلال الانتخابات البلدية والاختيارية الاخيرة، وخصوصاً في الميناء التي يمتلكون فيها نصف عدد مقاعد المجلس البلدي، في حين يمتلكون ثلاثة مقاعد في مجلس بلدية طرابلس. لكن الامر في طرابلس لا يقاس بالاعداد والكميات بل بتقاسم الحياة اليومية والمشاركة فيها من دون تمييز بين مسلم ومسيحي، تماماً كما هي الامور في المدارس المسيحية التي تضم عملياً الآلاف من التلامذة المسلمين من دون ان يشكل الامر اي اشكالية على ما يروي الناشطون في المدينة، الذين يؤكدون ان الاب ابرهيم سروج ليس الا من تجليات هذه المدرسة الارثوذكسية "المنفتحة" التي تقدم المبادئ الوطنية والقومية وتراث العروبة على الانتماء الديني المتزمت، وهو تالياً متمسك بمبادئه ومدينته والعيش فيها وحمل قضاياها اياً كانت اتجاهات البعض المتناقضة مع هذا الخط.
يذكر عاطف عطيه في كتابه عن الصحافي "لطف الله خلاط – الصحافة بين الدين والسياسة" نقلاً عن النائب العام في طرابلس يوسف الحكيم عام 1911 في كتابه "سورية والعهد العثماني"، ان عدد سكان طرابلس والميناء لا يتجاوز تلك الاثناء الخمسين الفاً، ثلاثة ارباعهم من المسلمين السنة والربع الباقي من المسيحيين ومعظمهم من الروم الاثوذكس. ويصف الحكيم الحياة الاجتماعية بقوله: "يسود الاخاء الوطني والمودة وحسن المعاشرة وصدق المعاملة المجتمع الطرابلسي الراقي المحافظ على تقاليده العربية الاصيلة". ويضيف عطية في كتابه نقلاً عن كتاب "ولاية بيروت" ان العائلات المسيحية الطرابلسية" انصرفت عن العمل في المسائل السياسية التي كانت تركز على السلطان وتقديم واجبات الولاء والطاعة له عبر ممثليه في المدينة الى الاهتمام بالاعمال التجارية والبروز في مجالات الثقافة والادب والصحافة في توجه يختلف عن ذلك الذي سلكته العائلات الطرابلسية المسلمة وانحصر اهتمام المسيحيين السياسي بحدود طلب المساواة وتمييز الانتماء الديني عن الوطني (…)".
في جردة المتابعين لأحوال المدينة التي تستضيف ثلاثة مطارنة ارثوذكسيا ومارونيا وكاثوليكيا، اضافة الى رئيس الكنيسة الانجيلي، ان شارع الكنائس الذي كان التجمع المسيحي الابرز في طرابلس يفرغ تدريجاً منهم، والمسيحيون يغادرونه بهدوء. اما في القبة فلقد انتهى وجود الطرابلسيين المسيحيين التاريخي فيه، وهم لا يعودون الى هناك سوى خلال الانتخابات. اما من تبقى منهم فيتركزون في الميناء وبعض احياء طرابلس الجديدة. وسكان طرابلس الجدد مكان المغادرين هم في غالبيتهم من عائلات الضنية وعكار اضافة الى وفود الاثرياء السوريين الذين اخذوا يحلون في المدينة منذ بدء الحرب الاهلية في بلادهم قبل ثلاث سنوات. ورغم ذلك يصر مسيحييو طرابلس على تقاسم الحلو والمرّ مع ابناء مدينتهم، ويعتبرون ما يجري مجرد مرحلة وتنتهي.
تعني مشاركة نحو خمسة آلاف ناخب مسيحي في الانتخابات، ان ربع الناخبين المسيحيين او اكثر شاركوا اقتناعا منهم بالمشاركة في صناعة القرار السياسي والبلدي في العاصمة الثانية. كما يعني امتناع ثلاثة ارباعهم عن المشاركة انهم فقدوا الامل في إحداث اي تغيير في مستوى التمثيل، وخصوصاً المسيحي، لكن خمسة آلاف صوت واكثر يمكن ان تحقق فارقاً كبيراً ومهماً في مدينة تتقارب فيها اصوات الفائزين والخاسرين، ويتزاحم المرشحون ولوائحهم على الفوز بأدنى صوت لتحقيق نتائج ايجابية. واسوأ ما يمكن ان يكون قد تمخض عنه حرق مكتبة "السائح" او مكتبة الاب سروج، على ما يقول ناشطون مسيحيون في المدينة، هو "تراجع هذا الشعور بالمساواة والاخاء والمصير المشترك، خصوصاً ان من يقف وراء التحريض على احراق المكتبة معروف، ومن يرعاه ويموله معروف الهوية والاقامة، وكذلك من قام بجريمة الحرق واطلاق النار، لكن رغم كل ذلك رفض الامنيون المحليون التابعون لوزارة الداخلية توقيفهم للاستماع الى افادتهم، وقالوا لسائليهم "شو منعمل فيهم اذا كمشناهم؟". وثمة اجابات اخرى من هذا النوع لا تستدعي في صفوف الطرابلسيين المسيحيين سوى مشاعر القلق من ان موسى الفوضى قد تصل الى ذقنهم وتضرب بيوتهم ومصالحهم، وهذا ما لا طاقة لهم على تحمله لأنه يعني بكلام آخر التهجير اذا ما استمرت الدولة ومؤسساتها وسياسيو طرابلس وزعماؤها في تقاعسهم ومراعاتهم لخاطر هذا وذاك وسط الفلتان في المدينة.
بيار عطالله / النهار