بيار صادق اسم علم
هل يحمل ريشته معه كما كان يفعل الاقدمون عندما يضعون في القبر كل العدة تحسباً لما بعد؟ أم انه تعب من الريشة والحبر وقوي عليه المرض فآثر الرحيل من دون العدة؟ هل اكتفى بما خطته يداه زمنا، وبات لا يحتاج الى المزيد؟ رصيده كبير جدا، ومميز جدا، في العمل وفي الحياة. 50 سنة من العمل المبدع، الجاد والمضني والمتابعة اليومية للاحاطة بكل جديد. ويكفيه بعدها ان اسمه صار اسم علم، وبرحيله لا يتبدل شيء من الرفعة بل يزيد.
بيار صادق يطوي صفحة من تاريخ لبنان المعاصر، والصحافة، وفن الدعابة فيها. هو الاستاذ في مجاله، والمعلم ، وصاحب الباع الطويل في تحويل المواقف المؤلمة، مضحكة وساخرة، بل حتى في تناول الاحداث والاخبار الممنوعة بطريقته، هو المسكون بالكاريكاتور 24/24 ساعة كما كان يردد. زرع الابتسامة اينما حل، وما تهيب موقفاً او سياسياً او زعيماً. وكان صعب المراس من فائض الحرية، مهووساً بالاستقلالية، لا يداري احداً ولا يساير، تحكمه فلسفته ورؤيته للامور، وان انحازت احيانا الى موقف أو رجل أو فكرة.
عاش في “النهار” وفي لبنان ايام العز، عايش غسان تويني وميشال ابو جودة ولويس الحاج ، وجبران تويني، وغيرهم ممن رحلوا. أخذ من “النهار” ومن الاساتذة الكبار، الراحلين والباقين، فلسفة الحرية، ولما أفاض فيها، وزّع في كل اتجاه، ليتجاوز حدود الوطن الصغير. كان من ركائز “النهار” وعبرها وعبر سواها من ركائز الابداع والحرية.
اليوم، يغيب بيار صادق، فيحرك القلم والريشة للحاق به، وايفائه بعضاً من حقه، اذ لم تكن ممكنة الكتابة عنه، أو رسمه في حضوره، لا خوفا من نقده اللاذع ، بل تهيبا. هكذا يكون التصرف حيال الكبار.
بيار صادق المبدع… وداعاً.
بيار صادق العبقري المدلّل
كتب حبيب شلوق:
قلة هم المُلهمون الذين يتكوكب في شخصهم أكثر من إلهام، فالعبقرية تولد في شخص والذكاء يهبط على آخر، وخفة الظل تنضح من ثالث، والإبتكار من رابع، وما اليها كلها، إذ إن العبقري عبقري والشاعر شاعر والمثقف مثقّف والفنان – بالمعنى السامي للكلمة – فنان.
وحده بيار صادق كان هذا وذاك وذلك. وهو وحده الذي لا يمكن أن تعرفه من دون أن تحبه وتعجب به.
وبيار صادق ابن بعبدا، والدته ليندا رجي من كفرشيما البلدتين اللتين تمثلان مع وادي شحرور مثلث المواهب في المتن الجنوبي، من شبلي الملاط وشقيقه تامر الى آل اليازجي وفيليمون وهبه وملحم بركات وحليم الرومي وماجدة الرومي، الى شحرور الوادي وكروان الوادي وأنيس روحانا وصباح. تنقّل بيار في دروسه من مدرسة مار جرجس في كفرشيما الى الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، وصدفة مرّ بصفوف “التكنيك” في أحد معاهد ساحة الدباس في بيروت، لأن الرسم لم يرق للعائلة التي اضطرته الى الاختباء تحت السرير ورسم السياسيين ( ملحق “النهار” – الياس خوري وبلال خبيز 16 تموز 1994).
بدأ بيار يقلـّد الرسامين قبل أن يبتكر خط الـ rond وهو خط غير كلاسيكي، وحمله هذا الخط عام 1956 الى جريدة “الصحافة” التي كان يملكها أحد المغتربين من آل مكرزل ويديرها الصحافي فرنسوا عقل، قبل أن تحمله موهبته الى مجلة “تي . في.” الصادرة عام 1959 عن شركة العلاقات العامة التي كان يرأسها غسان تويني ويديرها عقل نفسه، ثم “دار الصياد” فإلى “نهار” سوق الطويلة عام 1963، عندما اقترحه فرنسوا عقل على الاستاذ غسان تويني.
وبيار صادق كان ابن “النهار” المدلـّل له “جمهوريته” الى جانب “جمهورية” الاستاذ ميشال أبو جودة، ومكتباهما متلاصقان في الطبقة السادسة، وهناك كانت “تحاك المؤامرات”. كل السياسيين مروا من هناك، وكان ميشال – عفواً الأستاذ – وبيار “الصديق” مكملين أحدهما للآخر في ايجاد فكرة الكاريكاتور وتنفيذها، ثم في نظم الزجل عندما كان الكاريكاتور يقتضي ذلك. وإذا “تمرّدت” الفكرة كان – مع حفظ الألقاب – غسان تويني وفرنسوا عقل ومارك رياشي وتقي الدين الصلح وريمون إده يؤلفون “المجلس التقريري”، من دون أن ننسى مداخلات كميل شمعون وكمال جنبلاط. والقاسم الأبرز في “الفكرة” كان المكتب الثاني ومَن يدور في فلكه.
… وكم من مرة كان اقتضاء الزجل؟! ومن نماذجه عندما ظهر طيف السيدة العذراء فوق كنيسة مار ساويروس في المزرعة في بداية السبعينات، رسم بيار صادق كاريكاتوراً يظهر طيف العذراء والعميد ريمون اده يغني ردة مستوحاة من احد الوزراء السابقين الشعراء: يتمجـّد اسم العدرا … منين بـــدّا تفوت … ما دام المكتب تاني مسكـّر بيروت؟
وبيار صادق الذي أشرق خصوصاً من “النهار” بعد إطلالات من “الدبور” و”الخواطر” و”الشبكة” ثم “العمل” في بداية الثمانينات و”الجمهورية” في صحف ومجلات عدة، كانت له “متاعب” مع الأجهزة ، وخصوصاً عندما منع الأمن العام الإعلانات عن “النهار” بسبب مقالات غسان تويني وتوجهات الجريدة المعارضة للرئيس سليمان فرنجية على رغم أن الرئيس فرنجية كان أحد أبرز رسومات بيار الكاريكاتورية حتى إن من دخل مكتبه أو مكتب ميشال أبو جودة كانت تواجهه صورة ضخمة للرئيس فرنجية باللباس اللبناني أي اللبادة والشروال والمسبحة و”بز السيجارة” على المدخل. وقد يكون الكاريكاتور الأكثر تعبيراً صورة مأمور يقول لميت ممدّد “عم نبّهك … هيدي آخر مرة بتنشر نعوتك بـ”النهار” وإلاّ ما بتكون مبسوط” ( 24 /5 / 1974).
كذلك اضطر بيار صادق الى السفر بتفاهم مع جبران تويني – رحمه الله – وتنسيق معه أيام حكومة الرئيس سليم الحص في عهد الرئيس اميل لحود يوم شكا الحص من تنصّت على هاتفه متهماً الأمن العام بذلك، وكان الكاريكاتور يمثّل الرئيس الحص يتحدث عبر الهاتف ويسأل: “ألووو … السيد جميل”.
بيار صادق المدرسة في رسم الكاريكاتور، ومبتدع الكاريكاتور المتحرّك من ال” ألـ. بي. سي.” الى “المستقبل”… غاب … لم يغب.
بيار الذي كان كثر يبدأون قراءة “النهار” من الصفحة الأخيرة حيث كلامك المعبر بالكاريكاتور، ستظل اسماً كبيراً، وعبقرياً وشاعراً ومبتكراً وخفيف الظل.
بيار صادق الصديق … لا لم تمت.
بيار صادق المقاوم الدائم
من أجل وطن أفضل
كتب بطرس حرب:
رحل بيار صادق الفنان الذي نقل فن الكاريكاتور الى مرحلة جديدة، جديرة أن تسمى باسمه. فهو لبننه بعد أن كان مصرياً بامتياز وعولمه بمعنى أن رسوماً له احتلت موقعها في كبريات وسائل الاعلام العالمية.
رسم بيار حياتنا السياسية من موقع المعارض وبعين الناقد الحساس. عالجها بلبّادة المواطن، اللبناني إبن الشعب، وغامر دون وجل في قول الكلام الصريح عندما كان ينبغي القول ويُمنع الكلام.
نالنا منه جميعاً غمزٌ ولمز، بهدف دفعنا إلى الأفضل. ونلت منه شهادات أفخر بها وأعتز.
لم يستسلم بيار يوماً لإغراء أو لمرض، هو المقاوم الدائم من أجل وطن أفضل تحكمه الديموقراطية ويتمتع بالسيادة والاستقلال.
سخّر ريشته في سبيل هذه المقاومة فأبدع، وأدخل الكاريكاتور إلى الشاشة الصغيرة فسجّل فتحاً.
بيار صادق الصديق رحل تاركاً حزناً وأسى وفراغاً يصعب ملؤه. وعزاؤنا أن إرثه لن يموت، وسيبقى حياً ليسهم في إنارة طريق مستقبل يستفيد من صرخات دوّت منذ الخمسينات عبر “النهار” و”العمل” و”المؤسسة اللبنانية للإرسال” و”المستقبل” راسمة تاريخ وطن وشعب يتوق إلى الخلاص.
رحمة الله عليك يا بيار.
عام 1967
عام 1967 كانت “النهار” تصدر مطبوعة شهرية صغيرة من ثماني صفحات تتحدث فيها عن نفسها… كما تتحدث عن بعض من فيها ممن ترى وجوب تسليط الضوء عليهم. وفي هذا الاطار كانت تكرّس زاوية في الصفحة الثالثة للتعريف بأحد هؤلاء مع رسم كاريكاتوري صغير بريشة بيار صادق. وكان يتولى كتابة هذا التعريف، من دون توقيع غالباً، غسان تويني وميشال أبو جوده وأنسي الحاج وفرنسوا عقل.
وفي 7 أيار 1967، كان التعريف… ببيار صادق نفسه مع رسم له بريشته، ومن دون توقيع.
الكيميائي المجترح
كتب عقل العويط:
لم يكن بيار صادق رسام كاريكاتور، بل كان كيميائيا ومجترحا، بما يمكن أن تنطوي عليه كلمتا “الكيمياء” و”الاجتراح” من دلالات الاختبار والتحويل والاختراع والخلق. فهو السبّاق، نادرا ما كان ينتظر الحدث، إذ كان هو الذي يشارك في صناعته، وأحيانا كان يصنعه وحده.
ذلك لم يكن كثيرا او غريبا عليه، فهو ابن “المطبخ” الذي يُدعى “النهار”، الذي أمَّه منذ تأسيسه، قبل ثمانين عاما، رهطٌ متواصل وغير منقطع من الطليعيين، بينهم بيار صادق.
وقد كان بيار صادق ربيب هذا “المصنع”، مشاركا ومشتركا فيه، بل ومتورطا حتى العظم.
يوميا، طوال عقود، شأنه في ذلك شأن “المعلّمين” و”الصنّاع” الكبار، كان يؤدي دور الكيميائي الذي يختبر بالريشة والقلم، فيحوّل المواد في مختبره، ويتلاعب بها، ويسحرها، ويجعلها… “تتفجّر”. فكم وكم من المرّات اجترح بيار صادق “قنبلة” هذا الحدث السياسي، أو ذاك، انطلاقا من تلك اللمحة، او الفكرة، أو النكتة، أو الجملة. اذ كان يكفيه أن تعبر الخاطرة لكي يكون ما يكون من عجائب ضربات النرد الفنية، التي تتحول بخربشة كلامية ناتئة من هنا، وبخط جارح من هناك، وبوجه ضاحك عابس ساخر متجهم من هنالك، عملا جللا ينعكس في مجرى الحياة الوطنية العامة، فيفعل فيه، مؤثرا ومغيِّرا. ذلك كان على هذه السجية بالذات، باعتبار ان ما كان ينجزه بيار صادق لم يكن يكتفي بحدود الخصوصية الفنية، اذ كان يريده بجميع حدودع ودلالاته: حدثاً يستأثر بالألباب والمعاني والكفاءات كلها.
كثرٌ هم رسامو الكاريكاتور، لكن قلائل مثل بيار صادق. فهو الفنان الذي كان يلتقط طريدته مثل الطير الطائر، بالسليقة والموهبة والحدس والمعرفة والخبرة و… الكيمياء.
خصوصا الكيمياء. تلك التي مختبرها مطبخ “النهار”. مع غسان تويني وميشال أبو جودة ولويس الحاج وفرنسوا عقل وأنسي الحاج، ومع الزوار من كل نوع وانتماء، طبعاً وتأكيداً. ثم مع جبران تويني. وبالتأكيد مع آخرين كثر، آباء ومخضرمين وأبناء طليعيين، بالعشرات. عدم ذكرهم ها هنا ليس انتقاصا منهم، بل خوفا من الاغفال غير المقصود.
كيميائي مجترح. تلك كانت ميزة بيار صادق، كما عرفته في خبرته “النهارية”، باعتبار ان هذه الجريدة أخذت على عاتقها منذ تأسيسها ان تكون البيت الصحافي الجامع لتفتق ملاعب الحرية والخلق والاختراع، في السياسة “الخارجة” على كل “ماركة مسجلة”، والمختلفة، وفي الموقف الجريء، والرأي الحرّ، وجدليات الفكر والعقل والقلب والحوار والتعدد والتنوع، كما في الفنون والآداب والحداثات والاسئلة الممضة والنقد الجارح على السواء.
لا يسعني إلا أن أعترف وأنحني. سلامي إليك.
رحيل مبدع الزمن الجميل
كتب الياس الديري:
ليس من السهل الكتابة عن رحيل مبدعٍ، وديعٍ، متواضعٍ، وفي الوقت ذاته زميل وصديق حلو المعشر، عفيف اللسان، ضحكته الرنانة تزيل الهمّ عن القلب مهما كان ثقيلاً: بيار صادق.
بيار الذي تحوّل مدرسة في فن الكاريكاتور، وجعل نجاحه الباهر الذي تجاوز لبنان الكثير من الصحف والمجلات تتبنى “زاوية” الكاريكاتور، ثم لم تلبث التلفزيونات من فضائية وأرضية أن اقتدت بخطوته الجريئة والناجحة التي أدمنتها شاشة الـ “LBC” في نهاية النشرات الاخبارية المسائيّة.
يا غافل لك الله. في الصباح الباكر أمس، وأنا أتهيأ للتوجه الى “النهار” رنّ النبأ قبل الهاتف: لقد غادرنا بيار الى استراحة المحاربين القدامى.
إذاً، ها هو الموت يغلبنا مرة أخرى، لينقص عدد الزملاء الأصدقاء، القدامى، الأوفياء، المعتقين، حبيباً من أنصعهم وألطفهم وأهضمهم، وأصدقهم في المحبة والوفاء واللهفة.
يشهد الأطباء وأفراد العائلة الجميلة والأصدقاء القلائل أن بيار قاومه. قاوم ذلك اللعين اللئيم. صارعه. حاول أن يلوي له زنده.
لكنها الاستراحة، التي لا بدّ لكل محارب من أن يعرّج عليها في نهاية المطاف.
هو أيضاً كان يعرف. وكان يؤمن أن ثمة فواجع لا يمكن تفاديها، ولا التغلّب عليها… إلا بالمزيد من حب الحياة. بالمزيد من الحب المطلق. بالمزيد من الضحك والكاريكاتور والتسامح.
منذ اليوم الأول الذي جمعنا في مكاتب “النهار” القديمة في سوق الطويلة، تصادقنا.
ومنذ اليوم الأول لم يضيّع ثانية: يرسم كل ما يقع عليه نظره ويحوّله كاريكاتوراً، لا يثير السخط بقدر ما يثير الإعجاب.
وهو نفسه، بيار الحبيب المدهش، رسم غلاف روايتي الأولى: “الرجل الأخير”، التي قال فيها الأستاذ غسان تويني ضاحكاً: لولا رسم بيار ما كان حدا فتح رواية الديري…
في الصفحة الاولى من “النهار” أقيمت زاوية للكاريكاتور. ثم لم تلبث النجاحات والأصداء المشجّعة أن دفعت أستاذنا غسان الى نقل الكاريكاتور الى أعلى الصفحة الأخيرة. ومن أولها الى آخرها.
ثم كان لا بدَّ للأحداث والأيّام أن تتدخّل وتتداخل، ويجد بيار صادق نفسه ينتقل من شاشة الى أخرى، مع صموده اليومي في موقعه “النهاري”. ثم يحصل ما قد حصل.
لا أدري كيف قادتني خطواتي أمس الى سوق الطويلة، وكأن يداً رقيقة تشدني لنصعد معاً ذلك السلم الطويل الذي يقطع الأنفاس، ونجوب جنبات تلك القرميدة التي آوتنا وأطلقتنا، وأطلقت أنجح جريدة عربية من المحيط الهادر الى الخليج الثائر ولسنوات كان على هذه الجريدة، على هذه “النهار” ان تكون منبر العرب، كل العرب، وملتقى رجالاتهم وقضاياهم، وفسحة الحرية لهم.
الغالي بيار، بأسف وحزن أُبلغك أنني لم أجد سلّماً طويلاً أو قصيراً، ولم تكن هناك قرميدة، ولا حتى سوق الطويلة عثرت له على أثر.
هكذا يا بيار؟
كتب راجح الخوري:
الآن لك ان ترتحل باكراً، وعلى عادتك ضاحكاً وبكثير من السخرية والألم المكنون، ولي انا بالذات ولنا نحن شلّة اصحاب العمر، ان نغرق في اللوعة ودموع الحسرة. لي انا مرة اخرى ان اكتب هذه المرثية التي تقتلني، مرثية رحيلك وانت تبتعد مثل شراع يشق عباب ما ملكت وملكنا من دموع .
هكذا اذاً يا بيار صادق؟
تترجل وتمضي باكراً في صمت، ولكأنك اخترت ان تكون وحدك، صانع طقوسك في المجيء وفي رحلة العمر وفي وداع ليس كالوداع، تمضي في صمت لأنك لم ترد ان ترى فينا حزناً او دمعاً حبيساً يتفجر اخيراً، عليك وعلى تاريخ ابداعك الذي طالما افترضوه ضحكاً لكنه كان لك مثل صريف الاسنان … هكذا تتسلل في صمت ليدخل تاريخ من دموع البكاء بعد تاريخ من دموع الضحك، وما الفرق الدمع دمع !
ايها الفارس المترع بالحزن المقنّع، تترجل عن صهوة ألمَين، ألم ان تكون طول العمر في الصحّ وانت في بلد يمجّد الغلط، وألم ان تستمر في قهر الألم بالضحك وانت طريح الفراش وقد شاءت القسوة [ لماذا تكون الاقدار وحشية الى هذا الحد؟] ان تضيّق عليك حتى انفاسك، وانت الذي خلقك ربك ضائقاً بهذا المدى المحزن من الفريسيين، الذين طالما وضعوا لبنان على خشبة، وطعنوه بحراب، ووضعوا الخل في جروحه، التي كانت دائماً جروحك انت وجروحنا سويّة في ساعات الضيق والشكوى اليائسة بيننا، والتي انتهت بأن نرشّ ملح الضحك على جروحنا النازفة التي لم ولن تلتئم !
هكذا اذاً يا بيار صادق، ايها الصديق، الصادق والصدّيق، ترتحل باكراً وبلا وداع “ولوووو”، وانا جار العمر في الصفحة الاخيرة من “النهار”، وجار العمر ونحن نهرب بالأولاد في الحرب من بحر الى بحر، وجار العمر تحت القصف نتقاسم صوت رصاص القنص على جدران الصحف، وجار العمر نتشارك روائع الرحابنة في طرائفهم كما في خوفهم الرائع، وجار العمر في الحزن المقيم الدائم وراء قناع الضحك وفي اعماق الألم … ولطالما عرفتك كما لم يعرفوك، رسول الهام وصاحب مدرسة عملت كل حياتك على قاعدتهما : الأعمق والأصدق في التعبير الانساني ان نهزم الألم بالضحك ونداوي الوجع بالسخرية… والألم حتى الثمالة والسخرية حتى النفس الاخير !
ويا “بياراً”، على طريقة حنان ريشتك المكسورة والالوان، لقد عرفت انت كما عرفت انا انه كان وداع العمر المجروح حتى الاعماق، عندما قبلت رأسك للمرة الاخيرة قبل اسابيع، لأخرج من المستشفى فأرى الطريق فقش دموع، وان ما بين الناقورة والنهر الكبير دهرا من “رجال كاريكاتور ” لم ترسمهم انت، بل تألمت ساخراً لأن لبنان يستحق وطناً!
**************************************************
بيار صادق… اللعب بالكاريكاتور
كتب عباس بيضون:
بيار صادق واحد من جيلنا، وبرحيله نشعر أن جزءاً من زمننا صار في الماضي، كان بيار صادق علماً في الكاريكاتور، وقد أتحف صباحاتنا بصور سياسيينا وقد تحولت إلى فولكلور، صار الرئيس شارل حلو بزيه اليسوعي أقرب إلى الناس منه بصورته الرسمية. كذلك الأمر مع الرئيس سليمان فرنجية وسواه. حول بيار صادق السياسيين إلى شخوص أليفة، وحول السياسة إلى كوميديا، وجعل من مشاهديه الصباحيين أطفالاً يلعبون بصور السياسيين ويتقاذفونها ويضحكون منها وعليها. كان من قوة هذا المثال أن تحول الرؤساء والزعماء إلى أشبه ما يكون بالصور المتحركة. صار لكل من هؤلاء قصة توازي حكايات تان تان وسوبرمان والسندباد. مع بيار صادق لم تكن النكتة وحدها المقصودة، بل أكثر من ذلك، السخرية والكشف والفضح، فثمة أمور لا تقال بالكلمات تقال بالرسم. الرسوم هكذا توارب وتلعب وتتحايل وفي غمزها ومواربتها امتحان لذكاء القارئ الصباحي، بل تسخيف للحياة السياسية وعاميتها وألاعيبها، كانت رسمة بيار صادق عيناً ثانية للجريدة، وافتتاحية أخرى وتعليقاً ثانياً، وفي بعض الأحيان هي موقف أكثر ما تكون المواقف، وهي مفارقة غنية بالتضادات والهجنات والمساخر. لا بد أن كاريكاتور بيار صادر لم يكن هكذا نافلاً في الجريدة ولا مجرد هامش. كان أحياناً في صلبه. أتاح له فنه ولغة هذا الفن وأدواته أن يجسر على قول ما لا يجسر عليه الكلام، ولم يكن هذا ليخفى على المقصودين أو يمر من دون ثمن. عند ذاك كان بيار صادق يجازف ويقول كلمته تحت التهديد. بعض صوره تفقأ دمّلاً وتقول الأشياء في حقيقتها الفاضحة. لا بد أن في ذلك شجاعة أكيدة. بل فيه ما يشبه النضال. يرحل بيار صادق وحياتنا السياسية أقرب إلى المهزلة ولا نعرف إذا كانت أحوج إلى نعي أم إلى كاريكاتور.
بيار صادق: رحيل صانع الابتسامات الصباحي
جعل من الكاريكاتور خبزه اليومي
كتب فيصل سلطان:
خسرت الحياة الفنية اللبنانية الفنان بيار صادق الذي اعتبر في الربع الأخير من القرن العشرين رساماً سياسياً بامتياز وخارجاً عن المألوف في مغامراته المتنوعة التي كانت تبتغي الوصول بفن الكاريكاتور اللبناني والعربي الى ضفاف جديدة، تتماشى مع روح العصر. إنه الرسام الذي آمن بقدرة القلم والريشة على تجاوز سراب الرحيل. ذلك ما عرفتُه عنه حين أفشى لي مرة عند غياب زميلنا ناجي العلي بأن: “كل رصاصات الغدر والحروب ترحل وتبقى آثارُ رصاصة واحدة هي رصاصةُ القلم لا تزول”. كان وجعُ الانقساماتِ ومتاهاتِ الحروب والدمار والانهياراتِ الكبيرة في لبنان والعالم العربي، يثيره كي يدخل في وتيرة نسيج خطوطه وألوانه ويجعله يكتب قسَمه على تحولات تجاربه: “أحلف بفن الكاريكاتور العظيم، أن أحترمَ دستورَهُ وقوانينَهُ وأحفظَ حريتَهُ واستقلالَهُ وظلامةَ منتقديه”.
تفتحت قريحة بيار صادق في الرسم الكاريكاتوري مع بدايات الحرب الأهلية في العام 1958، بعد مرحلة دراسته في الأكاديمية اللبنانية ولجوئه للعمل في الصحافة البيروتية لتأمين مصاريف العيش. فقد عمّقت دراستُهُ في “محترفات الألبا” القدرةَ على تطوير مظاهر الرسم التخطيطي السريع وقطف الملامح وإبراز مظاهرها التعبيرية وصولاً الى ما يسمى ببلاغة المختصر المفيد في رسم وجوه السياسيين والنماذج الإنسانية. وحين عرض مجموعة من رسومه السريعة في معرض الخريف في قصر الاونسكو عام 1957 لفت انتباه استاذه الفنان قيصر الجميل الذي وجده يغرد خارج سرب رفاق الدراسة وشجعه على احتراف مهنة الرسم الكاريكاتوري لأنها قد تؤمن له يوماً لقمة العيش.
هكذا جعل بيار صادق فنَّ الكاريكاتور خبزَهُ اليومي طوال أكثر من نصف قرن وصرخته الساطعة في وجه جشع رجالات السياسة ومؤامراتهم والممارسات القمعية للأجهزة الأمنية. فهو لطالما ردد بأنه لم يلتزم بأي خط سياسي أو حزب، بل سعى أن يكون في ممارساته الفنية حراً طليقا، همه الأكبر الحرية والإنسان والأرض والوطن، وتبيان الحقيقة الساطعة بشجاعة وإيصال الفكرة – الموقف بأبسط الطرق وأسهلها، وهذا ما جعل فنه يتصف بالسهل الممتنع، وهو يعكس مرايا الحياة السياسية وتقلباتها وينتقد بخطوط رسومه وجوه السياسيين ويجعل من المواطن الريفي اللبناني أحد أبرز أبطال رسومه الانتقادية الساخرة، وذلك عندما ابتكر شخصية توما الذي لا يصدق وعود السياسيين ويسخر من أقوالهم.
اللافت في شخصية بيار صادق أنه شق طريقه في بدايات العمل الصحافي كخطاط ورسام تعبيري وكاريكاتوري في مجلات الخواطر والدبور والصياد. عمل خطاطاً في كتابة مانشيت بعض الصحف، واستخدم في مرحلة السبعينيات تشكيل الكتابة بريشة مبرومة مبتكراً ما أسماه بخط “الروند” الذي أثار سخط الخطاطين واعتبروه مظهرا من مظاهر الخروج عن التقاليد المتوارثة وانحرافاً نحو التشويه.
في بدايات تجاربه الكاريكاتورية عمل صادق في مجلة الدبور إلى جانب الرسام الشهير ديران عجميان الذي أكتسب منه حيوية التأليف والحركة، وذلك بعد اطلاعه على تجارب فناني جريدة “كانار أونشينيه” Canard Enchainé الفرنسية. وقد تبلور هذا الانقلاب نحو تحديث مظاهر الكاريكاتور خلال عمله كرسام واعد في مجلة الصياد إلى جانب الرسام خليل الأشقر. إلا أن ينابيع موهبته لم تظهر ملامحها بوضوح إلا حين أفسح له عميد دار الصياد سعيد فريحة مهام الرسم الكاريكاتوري السياسي في الصفحة الثانية من جريدة الأنوار، وهذا ما ساعده في أن يصبح، بعد سنوات قليلة، من النجوم الكبار في قافلة رسامي الكاريكاتور، لا سيما انه انتقل في العام 1960 للعمل في جريدة النهار، بعد أن أفسح له صديق مسيرته الطويلة في الصحافة غسان تويني نشر رسومه في الصفحة الأخيرة من جريدة النهار (ما بين عامي 1960 و1970) كتقليد يومي وبشكل احتفالي بارز على ثمانية أعمدة.
هكذا ارتبط اسم بيار صادق بجريدة النهار الذي لم ينقطع عن الانتماء إلى أسرتها إلا خلال سنوات الحروب اللبنانية ما بين 1975 و1992، فقد أدت مرحلة الانقسامات والمتاريس والهجرات إلى عمل بيار صادق في كل من جريدتي العمل والديار ومجلة النهار العربي والدولي والمنار اللندنية والجمهور.
في العام 1986 شعر بيار صادق أن الصحافة المكتوبة لم تعد تلائمه، لذا أطلق سلسلة رسومه كتجارب مستحدثة في مجال الكاريكاتور التلفزيوني المتحرك في الـ LBC، ونقلها في العام 2002 الى تلفزيون المستقبل، محاولا، من خلال تجاربه البصرية، إظهار قدرات التكنولوجيا في الرسم والفوتوشوب، في مزاوجة حركة الصورة المرسومة والكلمة المكتوبة والموسيقى المصاحبة، على إبراز الحدث اليومي وتقديم تحليلات بليغة ومختصرة. فقد استطاع من خلال العمل التلفزيوني الوصول إلى بيوت اللبنانيين وقلوبهم، وجعلهم متفاعلين ومتابعين بإدمان يوميات رسومه التي تبث مع النشرات الإخبارية كل مساء. وهذا ما جعل من بيار صادق الرسام السياسي الأول بامتياز، فرسومه عكست مرايا الحياة اللبنانية بحلوها ومرها. وقد سعى، قبل أكثر من ثلاثة عقود، للمجاهرة بمواقفه الوطنية في كتابه الشهير الذي أصدره في العام 1977 بعنوان: (كلنا ع الوطن)، مسجلاً من خلال رسومه، صرخة اللبنانيين الموجعة.
ثمة نكهة فنية خاصة في أسلوب بيار صادق، جعلته يتوج كفنان طليعي على عرش الكاريكاتور السياسي، فقد اكسبه العمل الطويل في النهار والـ LBC والمستقبل قريحة القراءة ما بين السطور واستخلاص العبارات والمواقف البليغة التي تصيب الهدف دون مواربة ودوران.
بيار صادق ذاكرة لا يمكن أن تغيب، لأنها تختصر تاريخ الحياة السياسية اللبنانية طوال أكثر من نصف قرن.
كلاكيت
طقوس
كتب نديم جرجوره:
تأتي وفاة الفنان بيار صادق في لحظة انخراط لبناني شبه مطلق في شتّى أنماط الخراب والشقاء. تأتي في لحظة تورّط لبناني بكل ما لا علاقة له بأحوال بلد وناسه. الفنان المنصرف إلى غيابه المرضيّ أولاً وإلى رحيله ثانياً، جعل رسوماته مرايا مفتوحة على الألم والأمل معاً. رسوماته الكاريكاتورية أشبه بطقوس تذهب بـ”اللبناني” إلى ما هو وراء اللقطة، وتعود به إلى ما هو في عمق الراهن. استعان بالشخصية اللبنانية الفولكلورية ليقول وقائع، ويرسم حكايات. ليكشف مدى قوّة اللون على استقطاب العين والقلب والروح معاً، وعلى البوح الأقوى من الكلمات. البوح المفتوح على أقصى التعابير وأجملها. على أقساها أيضاً.
الرسومات الكاريكاتورية التي ألّفها بيار صادق سنين طويلة جزءٌ رئيسٌ من ذاكرة فردية ووعي جماعي. رافق “النهار” في تخبّطات البلد وتحوّلاته. عاين سلاماً ذاهباً إلى حتفه، وعاش حرباً مخضّبة بالأسى واللانهايات، وأقام في سلم هشّ ومنقوص. قال ما يجب أن يُقال، عندما زنّر الموت بلداً وناسه. والموت، إذ انقضّ عليه مرضاً وأوجاعاً، كان سمة هذا البلد وناسه أعواماً مديدة: لا السلام الذاهب إلى حتفه خفّف من وطأة الخراب، ولا الحرب المخضّبة بالأسى واللانهايات أكملت حلقتها، ولا السلم الهشّ والمنقوص كشف مغزى الحكايات. كان بيار صادق مرافقاً للانقلابات الجمّة التي عرفها هذا البلد وناسه، وكاشفاً إياها، وناقداً جنونها: انقلابات السياسة والاجتماع والثقافة. انقلابات الحياة والموت أيضاً. لكن الانقلابات هذه لم تؤدّ إلى تبديل، بل ساهمت في تمتين فعل الخراب العصيّ على كل مواجهة.
مع الرسومات الكاريكاتورية لبيار صادق عاش كثيرون. سواء أحبّها هؤلاء أو كرهوها، وسواء أضحكت هؤلاء أو أقلقتهم، وسواء جعلت هؤلاء يُسَرّون بها أو يغضبون (أو بعضهم على الأقلّ)، ظلّت ريشة بيار صادق، هي أيضاً، عصيّة على كل تخريب. لا تهاون ولا تراجع ولا تساهل. هكذا تُختزل الرسومات الكاريكاتورية لبيار صادق، الذي أدرك أن الصمت وجعٌ، لكنّه ضروري أحياناً عندما ينبثق الخطر من عنف هذا، أو تهديد ذاك. لم يصمت بيار صادق على ركاكة أو فساد أو عنف أو تهديد. أقول إنه أدرك أن الصمت “ضروري” أحياناً، لأن الحذر في مقاربة التنانين يُحصِّن اللغة في معاندتها أقداراً لا تليق بها، ولأن التحايل في مقارعة وحوش القتل والفساد يحمي القول الإبداعي، ويغذّي براعته في اصطياد الحكايات، وفي قول الأشياء. لأن الحذر والتحايل لغةٌ تقول، ولا تهاب التزام حرية ظلّت هشّة في أزمنة البؤس اللبناني الدائم.
خارج السياسة وتصنيفاتها، ظلّت الرسومات الكاريكاتورية لبيار صادق محطة منتظرة، لقدرتها على افتتاح يوم بالسخرية مما سبقه، أو على ختام آخر نازف بالدمار والجنون. لهذه الرسومات حيوية إبداع يُفترض بها أن تُناقش نقدياً. لكن الأهمّ أنها قالت بعض المخفيّ، وأضاءت شيئاً من المسكوت عنه.
يكفي أن يحفظ المرء رسماً واحداً له
كتب حسان الزين:
أصرّ بيار صادق على أنه ليس رساماً. “أنا معلّق سياسي”، قال لي. حسبت أن هذا تواضع من الرجل الخجول والمتواري والذي غزا الشيب شعره وهو يرسم “الصفحة الأخيرة” في جريدة “النهار” وعلى شاشتي “المؤسسة اللبنانية للإرسال” (LBC) و”المستقبل”. رفضَ فكرة التواضع، وفكرة التهرّب من “تهمة” الرسم وبالتالي من النقد، وأصر على أن إصراره هو وصف دقيق لنفسه، ليس إلا.
صحيح، في الأمر وجهة نظر. وإخلاصاً للرجل، أنقل ذلك، وليس انتقاصاً ولا من باب نقل الأمانة وتوصيلها. فتلك العبارة ترسم زاوية للنظر إلى بيار صادق وتجربته.
صحيح، هو معلّق سياسي يعتمد الرسم أداة للتعبير، بمعزل عن قراءة منتَجه فنياً، ولو بلغة نقد الكاريكاتير. منذ البداية، في “الصياد”، ثم في “النهار” حيث تبلورت تجربته “المكتوبة”، بيار صادق كان معلقاً على حدث يومي، ولطالما استعان بالكلام. استعان به، بداية، تكاملاً وتوأمة مع موقف الجريدة وتحليلها، ثم، في التلفزيون والجريدة، عادة وتقليداً وثغرة فنية وسياسية في آن. فبيار صادق الذي كان يتشارك صناعة “تعليقه” مع زملاء له في مكاتب الجريدة وضيوفهم من سياسيين ورواد صالونات سياسية، وجد نفسه في التلفزيون (بعد 1985) وحيداً في آلته الإنتاجية، لا سيما بعد وفاة المحلل ميشال أبو جودة. ولم يكفه، على شاشة “LBC” و”المستقبل” الموقف السياسي.
هنا، آنذاك، بدأ بيار صادق يراوح مكانه. دفع وحده ثمن تحول “التعليق” الصحافي إلى موقف، بعدما كان يتلمس طريق التحليل. وصمد بيار صادق إنسانياً وفنياً، إذ كان قد تمكن من عدّته، لكنها، مع إحباطه وشعوره بالوحدة فنياً وسياسياً، بدت رتيبة ومحدودة. حتى شخصيته الرئيسة، توما، بهندامها وكلامها، كانت من زمن مضى، نوستالجي وريفي، تذكر في أفضل الأحوال بـ”أبي ملحم” (أديب حداد). وفي هذا مفارقة قاتلة حدسها هو شخصياً، باكراً، وقبل القراء والمشاهدين. وقد واصل تقديمها للبنانيين في زمن الترفع عن لغة “أبي ملحم” وشخصيته، وفي مضمار السياسة. فلم يبد معها قديماً وحسب وإنما ثابتاً في بحر التحولات ومستنقعاتها اليومية. وغرق في تلك الشخصية وفي منتّجه المعتمد عليها والمتمحور حولها. ما حال بينه وبين الجديد. وإذ بات القارئ والمشاهد يتوقع منه رسماً وكاريكاتيراً، بقي يقدم “التعليق” السياسي بأداة الرسم.
كأن بيار صادق في هذا ضحية الوظيفة أو الصورة التي قدم نفسه بها وقدمته بها الوسيلة الإعلامية التي يعمل بها. ومن الظلم قراءة تجربته بما أنتجه وظيفياً، ككاريكاتير. ثمة فنٌّ في الكاريكاتير الذي قدّمه. وهو كان جسراً بين زمنين في تجربة الكاريكاتير النادرة في لبنان. ويعبر لا عن السياسة وأحداثها وحسب، وإنما عن المقاربة الإعلامية لها. وفوق هذا، كان بيار صادق شخصاً حاول بتواضع “التعليق” على السياسة وأحداثها وأشخاصها بالكاريكاتير والسخرية.
ويكفي أن يُحفظ له أنه حاول “التعليق” على السياسة بلغة الكاريكاتير، لنكتشف أنها لا تستحق أكثر من ذلك، ولنحفظ له ذلك. ولعل هذا أثر بيار صادق، قبل أعماله بالمفرق.
يكفي أن يتذكر المرء رسماً واحداً له.
بيار صادق وداعاً. غيابك الذي سبقته بابتعادٍ، يكشف أكثر كيف أننا نرى السياسة ونعيشها وندفع ثمنها بلا كاريكاتير. وهذا مؤلم. مؤلم غياب السخرية والضحك. مؤلم غيابك.
طريق خاصّة
كتب ارمان حمصي:
بداية لا يسعني سوى القول إن وفاة بيار صادق هي خسارة كبيرة، لا للبنان فقط وإنما للفن الكاريكاتوري كلّه. لقد أعطى الكثير لهذا الفن، وعلى فترات متفاوتة، أي منذ الستينيات ولغاية اليوم، وبدون أن ننسى بالطبع فترة الحرب التي عرفناها في لبنان. من أبرز ما ميزه، أنه استطاع أن يعطي رأيه بصراحة وأن يؤسس لطريقة خاصة بالتعاطي مع الخبر والتعليق عليه، وهذه الطريقة، بدون شك، ستبقى محفورة في تاريخ فن الكاريكاتور في لبنان. يشكل رحيله خسارة حقيقية للبنان وللفن فيه وللجميع، إذ نعرف كلنا من هو بيار صادق وما له وما عليه، ونعرف بالتأكيد لمسته الخاصة على الحالة السياسية اللبنانية.
أستاذ
كتب ستافرو:
فنان كبير يغادرنا ليشكل خسارة للفن. كان أستاذا منذ أكثر من نصف قرن، وقد تدرب على يديه الكثير من فناني الكاريكاتور الذين أتوا من بعده. وكما نعرف، عاصر بيار صادق العهود كلها في لبنان، منذ ما قبل فؤاد شهاب ولغاية اليوم، من هنا كان بمثابة تاريخ بل لنقل موسوعة حقيقية للأحداث السياسية في لبنان. لا أستطيع القول عن رحيله سوى إنها خسارة كبيرة.
معالم سيرة
بيار صادق من مواليد العام 1938 في زحلة. تخرّج من “الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة” في العام 1958. كان لا يزال طالباً حين دخل عالم الصحافة، ليعمل في مجلاّت “الدبور” و”الخواطر” ودار “الصياد”.
تعرّف إلى الرسّامين خليل الأشقر وديران عجميان، لكنه تأثر برسّامي مجلة “روز اليوسف” و”صباح الخير” المصريتين، خصوصاً جورج البهجوري. في العام 1960، استدعاه غسان تويني للعمل في جريدة “النهار”، التي انقطع عنها فترة، عمل خلالها في “الديار” و”العمل” و”الجمهورية” بين العامين 1978 و1985، كما عمل في “النهار العربي والدولي” و”المسيرة”، قبل أن يعود إلى “النهار” في العام 1992.
قدّم في “المؤسّسة اللبنانية للإرسال” رسماً كاريكاتورياً متحرّكاً، وبدأ هذه التجربة في أيار 1986، قبل أن ينتقل إلى تلفزيون “المستقبل”.
أقام عدة معارض في لبنان والخارج، منها: معرض السان جورج لبنان (1969) والكويت (1972) والمملكة العربية السعودية (1976)، وواشنطن (1984). كذلك اشترك في معارض دولية في مونتريال وأثينا ويوغوسلافيا.
أصدر عدة مؤلفات تتضمن رسوما له، كما حاز العديد من الجوائز والأوسمة.
**************************************************
بيار صادق طوى “الصفحة الأخيرة”
الريشة التي أرّخت لنصف قرن من السياسة اللبنانية
كتب باسم الحكيم:
عن عمر ناهز 76 عاماً، رحل الفنان المشاغب أمس. على مدى نصف قرن، رصد الأحوال السياسية والاجتماعية لبلد يعيش “ثورة أحداث” كما وصفه مرةً. تأثّر برسّامي الـCanard enchaîné الفرنسية، وفناني المجلات المصرية، وشكّل لسان حال المواطن البسيط وذاكرة جيل تربّى على أعماله
لا تنتظروا بيار صادق على شاشة “المستقبل” الليلة، هو لن يأتي. لا تفتحوا الصفحة الأخيرة من صحيفة “النهار” اليوم، فقد نسي أن يسلّم كاريكاتور الوداع. غادر مسرعاً قبل أن يسبقه قطار “المحطة” الرحبانية. وضع الريشة والقلم جانباً، ومضى يبحث عن ريشة جديدة في مكان آخر عن عمر ناهز 76 عاماً. لم يتمكن حتى من قول كلمته الأخيرة.
ترك منزله في برمانا وأدخل إلى “مستشفى القديس جاورجيوس” في حالة صحيّة حرجة، ولم يتأخر حتى فارق الحياة. لكن حين كرّم قبل أربعة أشهر تقريباً، بدا كأنه يوصينا بهذا البلد الذي ضاع بين أقدام الساسة وأطماعهم. قالها كمن يضع بين أيدينا أمانته، يوم كرمه رئيس الجمهورية اللبنانيّة ميشال سليمان ومنحه “وسام الأرز من رتبة كوموندور” في كانون الأول الماضي في مناسبة مرور 50 عاماً على عطائه. يومها، أهدى التكريم “إلى وطن اسمه لبنان، لأننا إلى الآن لم نكرم لبنان وما زلنا ندوسه، ونتمنى أن نقول كلّنا للوطن وليس كلنا على الوطن”.
ورث الرسام الراحل موهبته عن والده الذي كان كاتباً ونحاتاً ورساماً. لمست عائلته فيه حبّ الرسم منذ الطفولة، فشق طريقه في عالم الفن في المراهقة، واختار طريقه في الشباب، حين التحق بالاكاديمية اللبنانيّة للفنون الجميلة وتخرج منها متيّماً بالرسم الناقد، فأراد أن يغيره بيده وريشته حيناً، وبقلبه وعشقه لهذا الوطن أحياناً. لم تقبل العائلة قراره، لأنّها كجميع العائلات اللبنانيّة تحلم بأن يتسجل ابنها في الاختصاصات التقليدية كالطب والهندسة والمحاماة. هنا كان أول تمرّد في حياته، سيليه تمرد على الأوضاع السياسيّة وانتقاد للسياسيين بالكلمة والرسم. ينقل صادق في حوار تلفزيوني صدمة جدته حين عثرت عليه يرسم امرأة عارية. يومذاك، لفت والده انتباهه إلى أنّ عليه أن يحترف فن الكاريكاتور. قبل الاحتراف، بدأ بالرسم لمصلحة بعض المجلات منها “الخواطر”، و”الدبور”، وكان هدفه تأمين مصاريف الجامعة فقط.
تنقل صادق بريشته بين “دار الصياد” ومجموعة من المطبوعات اليوميّة أولها “النهار”، و”العمل”، و”الجمهورية”. هكذا، كانت البداية في معقل آل فريحة لفترة وجيزة، قبل أن ينطلق في مشروع صديقه ناشر صحيفة “النهار” يومذاك الراحل غسان تويني، ويستمر فيها ما يقارب 40 عاماً، قبل أن يغادرها عام 1978، ويعود إليها عام 1992. بين المغادرة والعودة، عمل لمصلحة صحيفة “العمل” التي غادرها أواخر الثمانينيات والتحق بصحيفة “الجمهورية”. كان من أوائل من نقل الرسم الساخر إلى الشاشة الصغيرة في عام 1986، فقدم التعليق الكاريكاتوري عبر LBC مع شخصيته المحببة “توما” التي عكست مزاج المواطن اللبناني البسيط، إلى أن ترك المحطة عام 2002 بضغط من النظام السوري كما صرّح. هكذا، قرّر أن يختم مشواره المهني مع تلفزيون “المستقبل” الذي دعاه إلى الانضمام إلى فريقه فور مغادرته “المؤسسة اللبنانيّة للإرسال”. واصل بالرسم حتى اليوم الأخير من حياته. كان أول مَن قدم الكاريكاتور التلفزيوني المتحرّك الذي ظل جامداً على الشاشة سنوات طويلة.
على مدى خمسين عاماً، أرّخ الفنان الراحل للساحة السياسية والاجتماعية اللبنانية، ومرّ كل السياسيين تحت ريشته. سخر من هذا، واستفزّ ذاك، مشكلاً لسان حال المواطن البسيط وذاكرة جيل كامل تربى على رسوماته التي كانت بسيطة بتقنياتها. وليس سرّاً أن بيار صادق كان مشاغباً ومشاكساً. من هنا، تلقى تهديدات كثيرة بالتخفيف من حدة انتقاداته، وكاد أن يعتقل، لكنه لم يرتدع بل أكمل عمله وفقاً لقناعاته. في أحد حواراته السابقة، قال بأنّ المخابرات العسكرية حلّت ضيفةً سمجة عليه عام 1968. وقد مارست عليه السلطات يومذاك الترغيب والترهيب، فقد أرادت أن يكف عن رسمه الساخر، فعرضت عليه العمل في وزارة الدفاع، لكنه رفض، فتحوّل بعد 48 ساعة إلى التحقيق أمام المحكمة العسكرية.
طوال السنوات الصعبة في لبنان، كان يتجاور عملاقان على الصفحة الأخيرة لأهم جريدتين في لبنان: ناجي العلي في “السفير”، وبيار صادق في “النهار”. يفرّقهما الأسلوب والنهج والموقف، وتجمعهما هذه السلطة القائمة على قول الكلمة الفصل في اللحظة السياسية الراهنة. الأول أسكته كاتم صوت في لندن من العام 1987، والثاني أغمض عينيه أمس في لحظة سياسية حاسمة من تاريخ لبنان.
فلاش باك | وردة في القلب
كتب روي ديب:
خسر لبنان أمس أحد أشهر فناني الكاريكاتور. لن ينسى اللبنانيون إمضاءه الذي كان عبارة عن كلمة “بيار” بالأحرف اللاتينية، و”صادق” باللغة العربية، مع وردة في الوسط يلفّها وجهه. في شبابه، دخل صادق الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، ليدرس الرسم ضد رغبة أهله، فكان يرسم ويبيع أعماله لمجلة “الخواطر” و”الدبور” كي يسدّد قسط الجامعة. تأثر برسامي الـ Canard enchaîné الفرنسية، ورسامي المجلات المصرية كـ”روز اليوسف” و”صباح الخير”. أما أول ارتباط مهني له، فكان مع مجلة “الصياد”، إلى أن دعاه الصحافي الراحل غسان تويني إلى العمل في جريدة “النهار” عام 1985. هنا، طوّر صادق فنّ الكاريكاتور مع تكريس خانة ثابتة في الصفحة الأخيرة اليومية. حينها، لم يكن رسامو الكاريكاتور اللبنانيون كثراً، واشتهر منهم ديران عجميان وخليل أشقر. خلال تلك السنوات، تمكّن صادق من بناء علاقة مع قرّاء الجريدة، تميّزت بأسلوبه الخاص في رسم الشخصيات السياسية، واختصاره للأحداث السياسية في رسم يومي. تجربة “النهار” تقطّعت منذ عام 1978 حتى 1992، بسبب ظروف الحرب الأهلية، فانتقل إلى العمل في جريدة “العمل” التابعة لحزب “الكتائب”.
أما المرحلة الأهم، فكانت في دخول صادق إلى عالم التلفزيون، وتجربته الأولى في محطة LBC عام 1985 التي كانت تابعة يومها لحزب “القوات اللبنانية”. هكذا طوّر صادق مبدأ الرسوم المتحركة التي ظهرت للمرة الأولى في 12 أيار 1986. فقرة تركت بصمة مميزة على خاتمة نشرة أخبار LBC (والآن نبقى مع كاريكاتور بيار صادق) حتى عام 2002. خلال تلك المرحلة، ازدادت شهرة شخصية “توما” بشرواله ولبّادته الذي غالباً ما كان يتحاور مع السياسيين، أو يغرّد وحده. أيضاً، كان لموسيقى تلك الفقرة وقعها الخاص، وهوية ارتبطت برسمه الذي انتقل به إلى تلفزيون “المستقبل” حيث عمل يومياً على إصدار رسم يقابله رسم آخر في جريدة “النهار”. تلقى بيار أوسمة عديدة مثل “وسام الارز من رتبة كوموندور” من الرئيس ميشال سليمان وجائزة الشاعر سعيد عقل مرتين. وبالإضافة إلى رسوماته الموزعة في الصحف والشاشات، أصدر كتباً أبرزها “كاريكاتور صادق”، “كلنا عالوطن” و”بشير”.
“السيد بحب المزح”… واغرورقت عيناه بالدموع
كتب زينب حاوي:
لم يجفّ بعد حبر كتابة أحرف اسمك على إحدى الأوراق المبعثرة التي آخذها عادة إلى الجامعة، وأسجل عليها ملاحظات الأساتذة حول رسالتي في الماجستير عن الكاريكاتور. بالأمس، كنّا نتحدث عنك، وأحضّر لك الأسئلة كي ألتقيك وأتمتع بحرارة اللقاء مجدداً. لكن بالأمس، غادرتنا بيار صادق. الخبر نزل عليّ كالصاعقة. دخلت حالة الإنكار الفعلي.
أقلّب محطات التلفزة عسى الخبر يكون شائعة. أبحث في صفحات الإنترنت عن اسمك وآخر أخبارك… لكن تم التأكد من خبر الرحيل. إنها فعلاً لمفارقة، أن يفصل بين لقائنا الأول والأخير سنة كاملة. التقيتك في نيسان الماضي. أتيتَ وقتها من مسافة بعيدة الى مبنى “المستقبل” في سبيرز، بعدما نسيت موعد لقائنا… ربما هي الكهولة. جئت بابتسامتك الحلوة، فتحت لي باب محترفك الخاص، وجلست وراء لوحك وشخصياتك الكاريكاتورية. لم تجلس وراء مكتبك ربما لكسر الحاجز بيننا. كنت مطمئناً واثقاً، لكنك كنت تَحمل حرقة في قلبك لما وصل اليه البلد والناس. تتكدس على مكتبك الخاص عشرات الصحف والمجلات في غرفة أضواؤها خافتة تماماً كما رغبتَ أنت في التواري خلف الأضواء، وتقمّص شخصية “توما” اللبناني الجبلي المحافظ على تقليد الشروال والقبعة القروية. تركت هذه الشخصيات تلعب في الفضاء الساخر. عتبتَ وقتها على جمهور المقاومة الذي أقام القيامة ولم يقعدها بسبب رسمك بورتريه السيد حسن نصر الله. وقتها، أصابك فعلاً الرعب من الأبلسة التي أصابتك ورجمك بالموت جراء ضربة ريشة. لكنك قلت مبرّراً إنك استمتعت بكل تفصيل لفّ ذلك الوجه المليء بالأسرار والعزم. ضربت ألوانك كاسياً هذا الوجه ومعطياً إياه الأبعاد الفنية والسياسية. “وبعدين السيد بحبّ المزح”. هكذا ختمت حوارنا بقهقهة اغرورقت عيناك بعدها بالدموع. 50 عاماً أمضيتها تنحت الواقع السياسي والاجتماعي وتعرّيه بمفهومك، وبوجهة نظرك التي لم تخبئها يوماً بل أُجبرت على ترك منابر كثيرة هرباً من خطر خفض صوت رسوماتك. نعم، كان لها صوت ودبت فيها الحياة لتتحرك وترفق بالتعليق الساخر على وقع موسيقى ظلت في وجدان جيل رافقك من LBCI عام 1985 الى قبيل مغادرتك إلى شاشة “المستقبل”. لم تغرك الوسائل الحديثة التي سهلت لكثيرين عملية الرسم والسرعة الى حد الحرفية في إنجاز الرسوم. لم تعر هذه التكنولوجيا أهمية، ولا الحواسيب ولا لوحات المفاتيح ولا البرامج الفنية المساعدة. ظللت وفياً لريشتك الصغيرة ولألوانك، اكتفيت بلوح ابيض مستطيل تقابله كاميرا تصوّر الرسوم وتقوم بعدها بالمونتاج وبعملية التحريك.
أمس، كتبتُ بعضاً مما أذكره عنك على صفحتي الفايسبوكية، فقال لي أحد الأصدقاء “قبل أن تمتدحيه، عليك البحث جيداً في سيرته. هو اليميني المتطرف الذي بقي لسنوات الى جانب حزبي “القوات” و”الكتائب”. لكن كل ذلك لم يحرك فيّ شيئاً، لا يهمني إلى من ينتمي وفي أي احضان ارتمى. يهمني ما نطقت به ريشته. اقرأ من بُعد مختلف، ما قرأته في عينيه لدى اللقاء. ما سيتركه بعد الرحيل. ستغيب يداه وتبقى الريشة يابسة. لكن الرسوم كما أرادها ستبقى حيّة متحركة كلما نقرنا زر البدء بالمشاهدة لغاية انتهاء الموسيقى.
السياسيّون يرثون هاجيهم: الشوق إليك واحد
كتبت نادين كنعان وزكية الديراني:
لعلّ الرسام الكاريكاتوري ستافرو جبرا أحد أكثر الأشخاص القادرين على التحدّث عن سيرة الراحل بيار صادق الفنية. هما ابنا مهنة واحدة، رغم اختلاف توجّه ريشتهما. يقول جبرا في حديث إلى “الأخبار” إنّ صادق كان صادقاً في أعماله. ولذلك حافظ على اسمه طوال فترة عمله. “هو من أقوى الرسامين الكاريكاتوريين في العالم العربي، وأعطى الكثير للبنان”. يلفت جبرا إلى أنّ الراحل يعدّ من الجيل الثاني لرسّامي الكاريكاتور اللبنانيين. الجيل الأول ضمّ عزت خورشيد وخليل أشقر. لمع اسم صادق في مرحلة سياسية صعبة مرّت على بلده، وهي المرحلة أيضاً التي شهدت إبداعه. أيام الحرب اللبنانية، لم تكن وسائل التكنولوجيا متطورة، بل كان على الرسام أن يسلّم عمله شخصياً إلى الوسيلة الإعلامية التي يعمل فيها، وسط أصوات القذائف والخلافات السياسية. يرفض جبرا أيّ مقارنة بين ريشة الراحل ورسام موجود على الساحة اليوم، معتبراً أنّ لكل فنان مدرسته الخاصة، “لأنّ الكاريكاتور من أصعب الفنون في العالم ويحتاج إلى خلفية فنية وثقافية”. ولصادق مكانة خاصة في وجدان اللبنانيين وذاكرتهم.
وأمس، تمثّل ذلك في التعليقات التي غصّت بها مواقع التواصل الاجتماعي. أوّل الناعين على تويتر كان الوزير السابق غسان سلامة، الذي غرّد مودّعاً رجلاً كان من مناصريه في ستينيات القرن الماضي “حين كان رائداً من دون منازع”. تغريدة سلامة حملت موقفاً من الرسائل التي احتوتها أعمال صادق بعد تلك الفترة: “بعدها، بقي الرسم نقياً، لكن الرسالة المضمرة فيه أصابها بعض التشوش”. لم يكن سلامة السياسي الوحيد الذي أعرب عن حزنه على فقدان صادق، بل انضم إليه آخرون ممن شكّلوا المادة الأولى لرسوماته الساخرة وانتقاداته اللاذعة. رئيس الحكومة السابق، سعد الحريري، نعى “الصديق الصادق” نعى بيار صادق و”الريشة التي رسمت حرية لبنان والعرب لأكثر من نصف قرن”. واعتبر الحريري أنّ وفاة الرسام اللبناني “خسارة كبيرة للبنان وصحافته ولكل من أحب ريشة تتكلم بلغة الصمت الصارخ والنقد اللاذع والأفكار المتوهجة”. وأضاف “نحن في بيت الرئيس الشهيد رفيق الحريري خسرنا أخاً وصديقاً وقلماً رشيقاً عشق الحرية وأحب لبنان”. ضمّ الحريري في تغريدته صورة لشخصية “توما” الشهيرة مقرونة بتوقيع صادق. رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع كتب بدوره على “تويتر”: “كان من الطينة العظيمة، صادق الكلمة والريشة، وقبل كل شيء شجاعة الحرية”. الإعلاميون كان لهم الحصة الأكبر في التعازي. تحدّث نيشان دير هاروتيونيان عن فقدان “الصفحة الأخيرة مع بيار صادق”، وهي الجملة التي رافقت نهاية نشرات الأخبار على LBC سابقاً وتلفزيون “المستقبل”، لأنّ “اليوم كانت صفحته الأخيرة”. أما الإعلامية ريما نجيم فتوّجهت إلى “رجل الضحكة والدمعة والمَوقف” بالقول: “بيار صادق أنتَ الخبر اليوم… نرسمُك دمعةً هاربةً إلى حيث السلام الأبدي”، فيما نشر طوني خليفة على تويتر صورة للراحل وخلفه مجموعة من رسوماته. نضال الأحمدية اعتبرت أنّ وفاة الفنان المخضرم خسارة لها ولأسرة مجلة “الجرس” أوّلاً، إضافة إلى تأكيد مذيعة قناة “العربية” نجوى قاسم أنّه برحيل “أبو عمر” فإنّ “بسمة أخرى رائعة ترحل وتتركنا وسط الأحزان”. وإلى جانب الفنانة إليسا، خطّ الشاعر نزار فرنسيس بضع كلمات للمناسبة الأليمة ونشرها على حسابه على تويتر، قائلاً: “يا مَن أضحكتنا على أوجاعنا، ورسَمتها ساخراً بريشتك الباكية… سنشتاق إليك لنبتسم… أو لنبكي… فالشوق إليك واحد”.
تقام الصلاة على راحة نفسه في الثالثة من بعد ظهر اليوم في “كاتدرائية مار جرجس” المارونية في وسط بيروت، ويوارى في ثرى مدافن العائلة في بلدة بعبدا.
أرملة بيار صادق: صرفه من “النهار” لحظة أليمة في حياته
روت حنان صادق لـ”الوكالة الوطنية للاعلام”، أن “بيار لم تكن له صداقات عميقة مع السياسيين، مع العلم أنه كان على علاقة جيدة بهم، وذلك كي يتمكّن من انتقادهم بحرية مطلقة (…)”. وذكّرت بأن “جريدة “النهار” كانت جامعته وبيته، قضى فيها 40 عاماً، وقد ربطته بالراحل غسان تويني صداقة أخوية عميقة (…)”.
وفي استعادة للحظة أليمة في مسار فنان الكاريكاتور الراحل، كشفت أرملته أن أكثر ما أثّر به في حياته “هو ورقة عليها 4 أسطر اختصرت 40 عاماً من العطاء، محورها الاستغناء عن خدماته في بيته الثاني. وقيل يومها إن السبب هو معاشه الكبير، إلا أن ذلك لا يمت إلى الحقيقة بصلة… فمعاشه في جريدة “النهار” كان لا يذكر. ومع ذلك تعالى بيار عن الجراح، واتصل بالنائبة نايلة تويني المسؤولة عن قرار فصله، مؤكداً استعداده للرسم طوال حياته في الجريدة من دون مقابل، فكان الجواب الرفض”. ولفتت إلى أن زوجها، بعد صرفه من “النهار”، تلقى اتصالاً هاتفيّاً من عقيلة الراحل غسان تويني، لتخبره أن غسان، “عندما علم بما فعلته وريثته آنذاك، بكى بحسرة (على مصير) من بنى معه صرحاً حضارياً”.
**************************************************
أسدل مسرحه اليومي ورحل
كتب بول شاوول:
رحل الكبير بيار صادق، ولا تصدق أن الصادق رحل. على امتداد أكثر من نصف قرن كانت رسومه اليومية (كالمسرح اليومي) من خبز القارئ والمتفرج. كأنما ديك النهار ما كان ليصيح إلا بين خطوط لوحة ساخرة منه. أو مواجهة في سبيل الحرية. فنان الحرية بيار صادق. في أزمنة الخطر. وفي الأزمنة الأخرى. ما كان يزدهر بهذه القوة والتألق والنفاذ إلا عندما يُحوَّل رسمه قضية. قضية في مفارقة. أو مفارقة في قضية. تابعتُه في عهود عدة من “النهار” إلى “L B C” فإلى “الجمهورية” فإلى “تلفزيون المستقبل”. وفي عهد ما كان يسمى المكتب الثاني كان في صدر المواجهة، مع الثنائي الكبير غسان تويني وميشال أبو جودة. كأنها صلاة ثلاثية في روافد لا تنتهي ونتذكر كم تعرض لتهديدات في تلك الأزمنة والمخاطر.. حتى جاءت الحروب، فبقي في عمق هذا الزمن الاستثنائي. الفنان الاستثنائي لا يستثني انخراطَه بين مناخ ومناخ. زمن الفنان ينغرز في الحياة. أو في الواقع، أو في الازمات الكبرى، والحروب. وينغرز فيها بكل كيانه وجرأته. فعندما ترّحل أو صَمت “أبطال الحرية” في عهد أوقات الدعة والراحة، بقي بيار صادق في جذوره في أيام الموت والخطر والارهاب والترهيب والميليشيات والوصايات والتقسيم والكانتونات، “أبطال” الخراب الجميل، و”التمرد” و”النسق”، والثورة وجنون الحرية (على الورق البرفيري)، اختبأوا وراء قداساتهم في الزوايا… خوفاً على “جلودهم” الغالية. بيار صادق من هؤلاء الجامحين المغامرين. لا حساب لحياته وانما لقضايا الحرية والسيادة والوطن، في أزمنة “الفقدان” والمجازفات.
كأنَّ كل رسم خطه جوازُ سفر إلى الموت. أو تهديد. أو وعيد من أهل الوصايات والقتلة والعملاء. هذا هو بيار صادق. الواحد في كل فصول الكرامة والوقوف والصمود. (وأيّ شاعر هذا يدّعي جنون الحرية وهو أليف السلامة، و”الأمان” والجبن!) . اتذكر ان القارئ اللبناني والعربي كان ينتظر الصفحة الأخيرة في “النهار” صفحة كاريكاتور بيار صادق. وأحياناً يفتتح الجريدة بها. أما عندما يلتقي الثلاثي غسان تويني وميشال أبو جودة وصادق في عدد واحد… فكانت احتفالية ومتعة يدشن بها الصباح. ثلاثة ديوك في واحد: يصيحون، تويني بذلك التحليل العميق اللاذع وأبو جودة بعموده المكثف، الملتقط بشفافية بالغة جوهر الحدث، والمعلومات التي تشحنه في موقف يخترق المألوف وبيار صادق بلغة الكاريكاتور يختزل الكلام الموقف بأعماق مفارقاته حتى باتت بعض رسومه أبين من أشخاصها. وأتذكر عندما كان رسم الرئيس فؤاد شهاب… وعلبة سجائره “يننجي” ودخان يتصاعد من كرسي لا نرى من صاحبها سوى يده. لذع بيار حتى مع حلفائه. أتذكر ذلك الكاريكاتور لريمون اده وزيراً للداخلية (ايام الوزراة الرباعية في عهد الرئيس شهاب) وقد “حرد” العميد .. وعندها عرفنا ان بيار رد على صديقه الصدوق.. “انت ضمير الديموقراطية يا عميد!”. وكذلك عندما رسم الرئيس كميل شمعون وصائب سلام ورشيد كرامي ورشيد الصلح والشيخ بيار الجميل… والرئيس حلو، وصولاً إلى الرئيس الياس سركيس… لم ينج أحدُ من لذعته. انها اللذعة الساخرة على حدود المفارقة أحياناً، وعلى حدود القسوة أحياناً أخرى… وعلى حدود “الكوميديا” أحياناً اخرى، تضحك مع ريشة بيار صادق. وتدمع وتغضب. ولكن لا تيأس ابداً في أزمنة الوصايات العديدة على لبنان من سورية ومن منظمة التحرير واسرائيلية وعربية… بقي بيار صادق في خطوطه الأمامية (وهنا أتذكر الراحل الكبير ناجي العلي) خصوصاً عندما بدأت موجة الاغتيالات. والمجازر والحروب الجامحة . بقي على خطوطه الأمامية في مواجهة كل هؤلاء الذين كانوا يريدون ان يدفنوا وطناً أكبر منهم. وان يقسموا أرضاً أوفى منهم. وان يتقاسموا حصصاً لا يستطيعون ابتلاعها: هنا. وسط الدمار والرعب والخراب والتدمير والتهجير كان بيار صادق الضمير المنتصب، الصوت المليء الصارخ في برية الدمار واليأس، ونتذكر انه هُدد من قبل الوصاية السورية.. مرات. ولم يلتفت إلى هذه التهديدات ووجهت إليه تهم من بعض الفصائل الفلسطينية التي تركت قضيتها وبركت في زواريب بيروت تنتظر “فتح” طريق جونيه لتصل إلى فلسطين. ولم يوفر لا أحزاب “الشرقية” ولا “الغربية”. مجّ هذه “التسمية” التي قسمت البلاد بين خطوط تماس دموية، واوطان عديدة.. وكانتونات تفقس بين القبائل والعائلات والمذاهب.. وعندما أعلنت ثورة الأرز… كان بيار صادق من روادها. بل لعله مع قلة من الشعراء والكتاب والصحافيين مهدوا لتلك الانتفاضة. عندما ظلوا مثله في خطوط المواجهة يدافعون عن سيادة لبنان وحدوده وديموقراطيته وحريته. أي عندما كان مثل هذا الكلام من المحرمات بل ومن صنف “الخيانات” (من قبل عملاء الوصايات نفسها). مهد لثورة الأرز من خلال التزامه ثوابت الوطنية من خلال التجرؤ على كبار الطغاة وصغارهم… من خلال التمسك بوحدة هذا البلد ودوره الطليعي وشعبه الواحد. لمع في زمن انتفاضة 14 آذار… كما لمع وسط الارهاب والقتل والمصادرة والعنف. اللامع بقوة في كل الفصول. والرائع، انه على قدر ما كان يتقدم في التجارب والاعمار (عاش أكثر من عمر، وأكثر من حياة: هذا شأن الشجعان ومقتحمي المحظورات) كانت لغته اكثر اختماراً تستبقي الموقف على نضارته واللعبة على عنفها. واللغة “التشكيلية” على تمكنها ومهنيتها وصوغها؛ فلا ترهل عند بيار صادق ولا وهن، في تفاصيل رسومه. وفي دلالاتها ومعانيها وسخريتها وشعريتها. انه الساخر بشعرية عالية والشاعر بسخرية نافذة. واذا كان فن الكاريكاتور هو فن المفارقة. (أو الغلو احياناً) أي الفن الذي يختصر شخصاً بما يميزه فيزيقياً أو سياسياً، فان بيار صادق من أبرع الفنانين العرب ويكفي أنه تراجع بعض الوجوه والقامات.. التي رسمها في السنوات الأخيرة لتتأكد كيف يلتقط “الجوهر ” من التفاصيل: الأنف أو الفم، او القامة… لكن لا يكتفي بيار صادق بمثل هذه العناصر، فهو يضيف الحركة (فنان الحركة) والأزياء. وفضاء الرسم. لا أظن مثلاً ان فناناً صاغ “شخصية” الجنرال عون بمثل ما صاغها بيار، كأنها مسلولة من داخله وفكره وتاريخه وشكله. البرتقال واللون البرتقالي… والوجه والقفزة واللون. ساخر لكن سخريته لا تتوقف هنا، بل تتعدى ذلك إلى الموقف والموقع انه اللاذع هنا، لكن الضاحك. وغالباً ما تكون الضحكة مرة (واحياناً قهقهة) ونتذكر بيار صادق الانسان والفنان عندما كان يرثي الكتاب أو الفنانين: من فريد الأطرش إلى عبد الوهاب وأم كلثوم وعاصي الرحباني.. فبأي شعرية وسلاسة وشفافية يختزلها في توديع الكبار وكذلك بعض السياسيين كالرئيس الشهيد رفيق الحريري. وبعض شهداء ثورة الأرز وقبل ذلك كميل شمعون.. ثم غسان تويني وجبران تويني فالدمعة هنا بملحها الجارح والخطوط والألوان بما توحيه من فقدان وخسارة لكن مع توجيه السهام (وهو مسدد بارع) الى القتلة المفترضين بعنف المفجوع.
فبيار صادق الذي حضر في مراحل هذه الجمهورية منذ بداياتها وما بعد الاستقلال حتى اليوم. وكذلك الأحداث العربية وثوراتها وطغاتها وهزائمها كان أكثر من شاهد “يُبلغ” وأكثر من “وصاف” ومتابع، وأكثر من مهني أو موظف.. كان “حمّال” القضايا الكبيرة… والتفاصيل الحياتية والمشاكل الاجتماعية راصداً الحكومات والبرلمانات وحتى المؤسسات العسكرية والأمنية.. كان “حمال” هموم من كل ضرب وصنف: في الشارع ، في السرايات، في الاضرابات، في التظاهرات (دعم الحركة الطالبية في السبعينات دعماً قوياً) فهو أنيق في رسمه وشعبي في آن واحد. الاناقة في التمكن واللون ونظافة الرؤيا الغنية وسعة المخيلة (الكاريكاتور فن المخيلة الطالعة من الواقع وفن الواقع الذي يغذي المخيلة). وهو قريب من كل الناس من دون اغراق في أي نوع من التنازلات. واذا كان بيار صادق أحد ضمائر لبنان الوطنية، فهو احد كبار الفنانين اللبنانيين والعرب والعالميين. له نكهته الخاصة ولغتة المتميزة واسلوبه المنفتح (على غير انغلاق ) ومداه المتنوع.. فله الفسحة الوسيعة على مساحات الكبار وله الموهبة الرحبة على مساحات الكبار وله ذلك الحضور .. اليومي الذي كان ينتظره كل من يقرأ جريدة، أو يشاهد تلفزيوناً. وهل ننسى الخطوة الكبيرة التي قطعها عندما كان أول رائد في “الرسم الكاريكاتوري التلفزيوني المتحرك” انه مدرسة في الطليعية, ومدرسة في الحرية والديموقراطية وفي الظرف واللذع والسخرية.. والالتزام!
فألف رحمة عليك يا بيار صادق! ولن تكفي دمعة لكل هذا التاريخ. ولن يكفي تاريخ لكل هذه الابداعات!
ذلك ان امثالك لا يُغتفر لهم ان يرحلوا عندما يكون الوطن في حاجة اليهم. عندما يضاف الى أزمنة “النقصان” مغادرة الكبار. فلأنك حاجة ابداعية. ولأنك ضرورة انسانية. ولأنك انتظار دائم.. يكون لنا وللبنانيين الدائرين في دوامة المجهول وطغيان “الآلهة” الصغار والمثقفين الذين اهتدوا دربك الوعر، والمواطنين الذين يكادون يفقدون البوصلة بين الخوف والوصايات والسلاح، والناس الذين تحيق بهم الوساوس أو يغرر بهم الصمت.. هؤلاء كلهم سيحسون ان صوتاً عالياً.. قد صمت على قدر ما ارتفع، وان اصابع شفافة سكتت على ازمنتها المقبلة وان القهقهة الملأى بالسخرية ستفقد دوّيها اليومي وان الجرأة المجاهرة والمقحمة ستبحث كثيراً عن فنانين وكتاب وصحافيين ليكملوا الدرب الوعر الخطر الذي افتتحته قبل أكثر من نصف قرن.. وما زال مفتوحاً.
**************************************************
La plume de Pierre Sadek a pris son envol…
Le Liban a perdu hier le précurseur et le maître incontesté de la caricature politique au Liban, celui qui a accompagné sans relâche par ses dessins et ses caricatures télévisées, pendant plusieurs décennies, les moments forts de l’actualité locale, mettant ainsi un peu de fraîcheur et d’humour à des développements et des événements souvent sombres et sinistres. Pierre Sadek nous a quittés à l’âge de 75 ans des suites d’une longue maladie. La presse libanaise, aussi bien écrite qu’audiovisuelle, a incontestablement perdu en lui un grand défenseur de la liberté d’expression et un journaliste avant-gardiste qui a su promouvoir une vision critique, et originale, de la politique libanaise dans ses différentes dimensions.
Originaire de Zahlé, Pierre Sadek s’est forgé, tout au long de ses 45 ans de carrière, une place à part comme caricaturiste politique, réussissant, grâce à son talent et sa perspicacité, à étendre sa renommée au-delà des frontières nationales. Il a ainsi collaboré avec plusieurs médias locaux et étrangers, dont Time Magazine, France Soir, Washington Post, an-Nahar, al-Amal, al-Anwar, al-Joumhouriya, ad-Diyar et la LBC.
En 2012, il avait été la cible d’une virulente campagne pour avoir publié dans le quotidien al-Joumhouriya, une caricature du secrétaire général du Hezbollah, Hassan Nasrallah. En décembre de la même année, le président Michel Sleiman l’avait élevé au rang de commandeur de l’ordre du Cèdre. Le ministre de l’Information, Walid Daouk, avait alors dit de lui, en marge de la cérémonie : « Pierre Sadek est le premier à avoir excellé dans le domaine de la caricature pour la télévision et il a su pénétrer le cœur de tous les Libanais. »
Les premiers pas de Pierre Sadek dans le dessin et, ensuite, la caricature remontent à son plus jeune âge, lorsqu’il avait 6 ans. « J’ai d’abord imité et reproduit la calligraphie arabe découverte dans les livres, avant de passer à l’encre de Chine. Ma première caricature fut celle du président Alfred Naccache. J’étais comme éclairé, guidé », avait-il déclaré dans une interview accordée en novembre 2000 à L’Orient-Le Jour.
Après avoir obtenu son baccalauréat, Pierre Sadek est contraint par ses parents de s’inscrire dans la très respectable école technique située à la place Debbas. Le jeune homme, mu par sa passion, rejoint toutefois clandestinement les rangs de l’Académie libanaise des beaux-arts. « J’ai pu payer mes études avec mes premiers salaires encaissés en faisant des caricatures pour les quotidiens Khawater et ad-Dabbour. » C’est dans ad-Diyar, selon lui, que son travail s’est fait connaître, soulignant la nouveauté du style, de l’approche et du traité de ce jeune inconnu.
En 1960, Pierre Sadek intègre l’équipe du Nahar pour une longue coopération qui va s’interrompre en 1975 avec la guerre. « C’était bien la première fois qu’un quotidien offrait huit colonnes et sa juste valeur à la caricature politique, avait-il indiqué à ce propos. Ce qui m’a permis de la faire évoluer, d’en faire un art à part entière qui a son propre message à diffuser. Ce n’était plus du remplissage mais un élément essentiel dans le journal. Au même titre qu’un texte. »
Pierre Sadek se considérait comme un rédacteur qui s’exprime à travers sa galerie de portraits adaptés à l’actualité, le témoin d’une histoire qui se fait et se défait. Après un silence de deux ans, il reprend ses pinceaux et la parole dans le quotidien al-Amal du parti Kataëb, pour une collaboration de huit années. Mais ses dessins s’impatientent, chatouillés par un désir de plus. « En 1986, j’ai eu envie de faire bouger les images, comme je les voyais en les dessinant, et le faire tous les jours. » La LBC et Samir Geagea d’une même voix lui donneront tous les moyens de le faire. « Ma seule condition a été la liberté totale. Depuis 14 ans, personne, bien heureusement, n’intervient dans mon travail, malgré toutes les pressions et les changements subis », expliquait-il à L’Orient-Le Jour.
En 1992, Pierre Sadek retrouve ses anciennes amours et an-Nahar, « ce qui me fait deux problèmes quotidiens » ! Et deux plaisirs… Pour remplir son contrat, ce monsieur plein d’énergie consacre alors plus de trois heures par jour à dépouiller la presse locale et internationale, regarder les journaux télévisés, écouter les bulletins radios et analyser ce lot d’informations pour trouver deux idées et les exprimer, sur quelques colonnes, d’abord, puis en quelques secondes, « moins d’une minute, en fait. Le rythme est important, il faut faire court, sinon l’image meurt. Un peu comme une anecdote. »
Amoureux de la politique, il avait souligné qu’ « il faut l’aimer et la connaître bien, ne croire en aucune information mais avoir sa propre perception des évènements ». Il était aussi un grand ennemi de la routine : « J’essaie tous les jours de créer quelque chose de nouveau. » Pierre Sadek est auteur de quatre livres, Caricature Sadek, Idhak Maa Pierre Sadek, Koulouna Aal Ouatan, et enfin Bachir.
Les obsèques auront lieu aujourd’hui, à 15 heures, en la cathédrale Saint-Georges des maronites, dans le centre-ville de Beyrouth. Hier, un hommage unanime lui a été rendu par de très nombreuses personnalités du monde politique et de la presse