– التاريخانيّة (historicisme) / وتقومُ في الميل إلى إعادة بناء أحداث الماضي كما لو كنّا شهودًا لها ، مع حذف المسافة التي تفصل بين الأحداث وبيننا ، إنه حلم ” الأصوليّة ” ، ليس هناك وسيط بين يسوع وبيننا ، فالروايات الإنجيليّة تؤخذ في حرفيّتها . إلّا أن الإختلافات بين الأناجيل الأربعة ، غالبًا ما تتعارض مع هذا المفهوم ، طالما أنّ الأناجيل شهادات أدلى بها تلاميذ أو مناصرون على جانب من الإقتناع ، وليست تسجيلات ” موضوعيّة ” . ومن هنا ، كان أحيانا الموقف المعاكس :
– التشكيكيّة ( أو الشكوكيّة ) / من المحال أن نلقى ” يسوع التاريخ ” : فنحنُ لا نبلغ البتّة ، في الأناجيل ، إلا إلى ” مسيح الإيمان ” ، وفق تعبير العالم البيبلي الألمانيّ رودولف بولتمان ( +1967 ) الذي خلص إلى القول بإن هذا الإيمان وحده هو المهمّ ، ويترتّب عليه من ثمّ ، أن يتخلّى عن كلّ إرتباط تاريخيّ .. وبالعكس ، ترى الكنيسة أنّ الإيمان المسيحيّ ، كان دومًا متجذرا في التاريخ ، في ” حدث يسوع ” .
هذه المواقف الحديّة ، تجاوزها اليوم تلاميذ بولتمان أنفسهم : فلا معنى لإقامة تضادّ بين البحث التاريخيّ والإيمان ( بإستثناء عدد من النقاط ، كأناجيل الطفولة والمعجزات ) . ومن المعروف جدّا ، أنّ مؤرّخا ما ، لا يمكنه أن يكون حياديّا وموضوعيّا بشكل كامل ؛ فإن هو أهتمّ بموضوع ما ، أو شخصيّة ما ، فلإنّ له مسبقا تفسيرًا معيّنا ، ولإنه يشاءُ مقاسمته . كما يتوجّب على المؤرّخ أن يجيبْ ، هو أيضا ، إلى موضوع يسوع : ” وأنتم من تقولون إني أنا ” . كما يقول الكاردينال راتسنجر (البابا بنديكت 16 ) : ” إنه إن كان المؤرّخ يقدرُ أن يصل إلى حقيقة شخصيّة يسوع الناصريّ ، لكنه لا يقدرُ أن يفهمَ كينونته كــ ” مسيح ” … ” (من كتابه: مدخل إلى الإيمان المسيحيّ ) . إلا أنّ المؤرّخين (مسيحيين كانوا أم غير مسيحيين ) ، إذ يناقشون نظرياتهم في البحث ومعلوماتهم عن البيئة اليهوديّة الفلسطينيّة حيث عاش يسوع ، يصبحونَ على درجة أفضل من القدرة على التمييز بين ” حدث يسوع ” ، وبين مختلف التفسيرات عنه ، أي بين معارفهم التاريخيّة ، وبين إفتراضاتهم المسبقة : الإيمان أو عدم الإيمان .
يقول الأب آلان مرشدور : ” أن ما جرى حقّا ، لم يعد مباشرة ً في متناول أيدينا ، لكون البناء النهائيّ أضحى قويّا ومتناسقا إلى حدّ كبير ” .
إنّ الحقيقة التي تشهدُ لها الأناجيل – وكلّ الكتاب المقدّس – تتجاوزُ بكثير ٍ الحقيقة التي يسعى إليها المؤرّخون ؛ فهي تقومُ على كشف المسيح وإعلان خلاصنا ” أن الحقيقة الكاملة ، التي يكشفها الوحي ، بشأن الله وبشأن خلاص الإنسان ، تجلّت لنا في المسيح ، وهو وسيطُ الوحيّ كلّه وكماله في آن واحد (المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ ، دستور عقائديّ في الوحي ّ الإلهيّ ) .
لقد قام الإنجيليّ لوقا بعمل المؤرّخ . فلقد جمع مصادر : إنجيل مرقس ، مجموعة أقوال ليسوع (logia) ، تقليد بولس (بشأن كنائسه ورحلاته ) ، تقليد أورشليم .. الخ . وقرّر أن يرتّب هذه المواد في كتابين يتناديان : أحدهما حول وحيّ الله بيسوع ؛ والآخر حول شهادة رسل يسوع : فالأوّل ، الإنجيل ، يشبهُ ترجمة (حياة ) ليسوع ، إلا أن لوقا كشف بإنّ تاريخ شعب اسرائيل برمّته ، يتحقّق في حياة يسوع هذه . وهكذا ، يبدو إنجيله بمثابة إمتداد للعهد القديم اليونانيّ ( وفق الترجمة السبعينيّة ) . فهو يبني لاهوت التاريخ في ثلاث حقبات (اسرائيل- يسوع – الكنيسة ) .
زينيت