لا يكاد يمرّ يوم، من دون أن يُستعاد السجال الجديد القديم حول «الأخطاء» في التقارير الإخباريّة، على الشاشات المحليّة. كلّ مساء، تقترح علينا النشرات الإخباريّة مادّة متنوّعة،
تحاول فيها خرق المسلّمات، وتقديم ما قد يجذب المشاهد ويبهره. لكنّ في ذلك الإبهار ما يخلق أسئلة مهنيّة عدّة، خصوصاً بالنسبة للجمهور المتلقّي، وللأكاديميين المتخصّصين في فنون التواصل وصناعة الصورة. يختلف الأساتذة في كليات الإعلام حول تعريف «الخطأ المهني» في إعداد التقارير والتحقيقات الإخبارية على الشاشات اللبنانيّة. منهم من يرى أنّ معظم الصحافيين يرتكبون «تعديات» صريحة على مبادئ المهنة، وعلى أصول إعداد التحقيقات ضمن نشرات الأخبار. في المقابل، يعتبر أكاديميون آخرون أنّ مفهوم الخطأ خاضع للنقاش، فلا شيء منزل في ظلّ النظريات حول التقليد والتجديد في الإعلام المرئي والمسموع. من بين الإضافات التي تثير الجدل، إدخال أغانٍ ومؤثرات دراميّة على التقارير الإخباريّة. ويرى أكاديميون أنّ تلك الإضافات لا تندرج في أصول صناعة التقارير، إذ إنّ وجودها يتناقض مع موضوعية المادة الإخبارية، لقدرتها على التأثير العاطفي في المشاهد. ترى الأستاذة المحاضرة في كليّة الإعلام وفاء أبو شقرا، أننا لا نستطيع أن نسمي تلك الإضافات على التحقيقات التلفزيونية «أخطاءً». «هنالك مدارس إعلامية في العالم تجتهد في صناعة أنماط جديدة في هذا المجال، لكن وجهة النظر الأكاديمية تعتبر تلك الأنماط غير مستحبة. إذ من المفضل ألا تبتعد النشرة الإخبارية عن الجدّية»، تقول أبو شقرا. وتضيف: «تستخدم المؤثرات كالموسيقى والأغاني وتقنيات الـ«سلو موشن» في الوثائقيات، لا في التحقيقات الإخباريّة المفترض بها أن تحافظ على هامش كبير من الحيادية، لا أن تسعى للتأثير على المشاهد». جولة على النشرات الإخباريّة، ستجعلنا نقع على تقارير عدّة تصلح مثالاً في الاستخدام المجاني للمؤثرات الدراميّة. على سبيل المثال لا الحصر، عرضت قناة «الجديد» في إحدى نشراتها الإخباريّة (17/02/2014) تقريراً بعنوان «مروان شربل يبكي في وداعكم». استخدمت معدّة التقرير نوال بري أغنية «الوداع» للسيدة فيروز في متن التقرير. كما ركّزت على عيني مروان شربل الدامعتين، لفراق اللبنانيين قبل تسليمه وزارة الداخلية الى خلفه. تمّ تداول التقرير على نطاق واسع على مواقع التواصل، بعدما أثارت دموع الوزير تعاطفاً شعبياً كبيراً معه. لكنّ الأستاذ المحاضر في كليّة الإعلام والتوثيق روي جريجيري يرى أنّ التقرير المذكور وقع في فخّ إبراز الحيز الخاص (العاطفي)، على حساب الحيّز الخبري، مثل إظهار إنجازات الوزير، أو أبرز محطّات ولايته.
ويشير جريجيري إلى تضمّن التقرير مساحات زمنية من الصمت، وذلك ما يُستخدم غالباً في المسرح، بهدف التأثير الدرامي. ويلفت إلى أنّ التقرير وقع في فخّ آخر، أثناء مقابلة أجرتها معدّته مع ابن الوزير السابق. في المقابلة، «تعترف» الصحافيّة بطلبها «خدمةً» معينة من الوزير. «لقد طلبنا مرةً رخصةً للزجاج العازل للرؤية (الفوميه) فقال لنا عندما أعطي ابني رخصةً سأعطيكِ واحدة». يقول جريجيري: «أن تقرّ المراسلة بأمرٍ كهذا في تقريرٍ إخباري، يشكّل خرقاً في أخلاقيات المهنة ويناقض أدنى متطلبات الحيادية، كما يلغي المسافة الواجب على الإعلامي احترامها ضمن الحد الأدنى من الاستقلالية عن السلطة». ويضيف: «إنّ عدداً كبيراً من المواثيق الإعلامية لحظت وجوب رفض الإعلامي والصحافي الهدايا على أنواعها، مثلما رفضت السفر على حساب سياسي أو شركة أيضاً. وإذ بنا نرى مراسلة «الجديد» هنا تطلب هدية من مسؤول لنفسها. ليصبح مضمون التقرير أقرب إلى إعلان تسويقي، عوضاً من أن يكون إخبارياً».
لا تقتصر المؤثّرات الدراميّة فقط على إدخال الموسيقى على التقارير الإخباريّة، بل تمتدّ أيضاً إلى استخدام معجم لغوي يلجأ إلى التضخيم وتعظيم الأمور، بما يخدم مصلحة القناة. على سبيل المثال لا الحصر أيضاً، عرضت «أم تي في» في نشرتها الإخباريّة مساء أمس الأوّل، تقريراً «خاصاً»، حول استرداد «بلدية الحدت أراضيَ مسيحيةً بيعت لمستثمرين من الطائفة الشيعية بعد مفاوضاتٍ استمرت ثلاثَ سنواتٍ ونصف سنة». وتعاطت «أم تي في» مع الملفّ بنبرة «ثأريّة»، ولم تتردّد في التعبير عن انتصارها لأنها كانت أوّل من أشار إلى خطورة ذلك الخلل «الديموغرافي والجغرافي والوجودي». كما وصفت الصفقة بأنّها «إنجاز»، بحسب معدّة التقرير جويس عقيقي. وهنا، تلاعب واضح بمشاعر فئة معيّنة من المشاهدين، ممن قد يصنّفون أنفسهم متضررين من الصفقات على حساب طائفة معيّنة. لكن من يحدّد معايير صناعة التقارير، إن كانت النظريات الأكاديميّة، لا تعدّ مرجعيّة بالنسبة للقنوات اللبنانيّة؟ إذ انّ الأصول المعتمدة في مدارس الصحافة حول العالم، تحوّلت إلى مادّة للسخرية بالنسبة لبعض صانعي الأخبار على شاشاتنا.
يرى جريجيري أنّ سلوك وسائل الإعلام يتوقّف في المبدأ على نظرة المجتمع/الفرد/الدولة إلى وسائل الإعلام وماهيتها. فحين تكون وسائل الإعلام شركة تجارية، لا يمكن محاسبتها على خرقها لقواعد مهنية أو على كيفية معالجتها للشؤون العامة، بل تتم محاسبتها فقط إذا خرقت القوانين تماماً كأيّ سلعة تجارية أخرى. بخلاف الإعلام الرسمي أو الحزبي الخاضع لشرع الخطاب الواحد، تعلن وسائل الإعلام اللبنانيّة تبنيها للمسؤولية الاجتماعيّة، والذي يفترض الالتزام بشرع المهنة وأخلاقيّاتها. «ومع غياب شرعة إعلاميّة موحّدة للممارسة المهنة في لبنان، يفترض بكلّ مؤسسة صوغ شرعة داخليّة»، بحسب جريجيري، تكفل التزامها بأخلاقيات المهنة وأصولها في كلّ ما تقوم ببثّه. ربما لا تجد المحطّات اللبنانيّة نفسها معنيّة بذلك، كون كلّ واحدة منها تعدّ نفسها مدرسةً في الإعلام، تخرّج صحافيين يصيرون «كباراً»، و«فوق النقد» فور تزايد عدد «الفانز» على صفحاتهم الفايسبوكيّة. ولكن من يحمي المشاهد من كلّ تلك «الدراما؟».
جوي سليم / السفير