هكذا رجل لا يموت ولا يرحل وإن غاب فلكي يعود بهالته الرسولية، فيلسوفاً، أرّخ للبنان ميثاقاً وطنياً لحضارة إنسانية متألقة، بنّاء وضع مداميك فلسفية تنهض بالإنسان الى الرقي الفكري والثقافة الكونية.
كمال الحاج، كان العيد لأيام في جامعة سيدة اللويزة تخلّلتها قراءات نصوص مختارة من كتاباته ومؤتمر اكاديمي أضاء على محاور أساسية في فلسفته، الى الاحتفال الكبير الذي شمل إطلاق مؤلفات كمال الحاج الكاملة والتوقيع على الميثاق التأسيسي لبيت الفكر – أسسية كمال الحاج. وفي الختام وبمباركة البطريرك بشارة الراعي، رفعت الستارة عن تمثال الفيلسوف الذي دخل النحات – الشاعر رودي رحمة في صلب تكاوينه وفي كل ضربة إزميل أنار شعلة من سمات المفكر وروحانيته.
لم يكن الكلام وحده إحياء لذكرى كمال الحاج، فالموسيقى والغناء من جوقة الأب خليل رحمه وأوركسترا الجامعة، كانت كدموع الفرح عند اللقاء بعد الفراق الأليم. ففي أمامية العازفين وقف كمال الصغير إبن يوسف وفاديا وحفيد الراحل – العائد، يحيى جده على الترومبيت في نشيد الافتتاح “أرزة للوطن” من كلمات يوسف كمال الحاج والحان الأب خليل رحمة. وفي زي الرهبان المريميين أطلّت فاديا والصوت يملأ المدى انفعالا وحسناً، ترفع الى العلى كلمات زوجها يوسف المستوحاة من قصيدة شارل قرم “الجبل الملهم” على ألحان المونسنيور فالانتينو ميزيراكس.
كنا في “اللبنان” الذي نتمناه، ولا نخاف عليه من شر الآخرين. فالكلام عن سيرة الرجل الفيلسوف استهلّه شاعر الكلمة بسام برّاك الذي غاص في مؤلفات كمال الحاج لينيرنا بفكره الرسولي، فيما نص وثائقي عن مرااحل حياته الذي استشهد فداء فكره، وحبه لوطنه، يعبر أمام أعيننا: “إسم لبنان تسامى بعيد الصوت في كتب الحاج ومناظراته الفكرية واللغة العربية التي انوسمت على جبينه العالي في كل ما قاله وكتبه وحصّله من دكتوراه في السوربون وترجمة لفكر بيرغسون وديكارت، إذ بشّر قائلا: “لا قومية لأمة لا تقدس لغتها… إن لم نشعر في قدس أقداسنا بعظمة اللغة العربية فإن لم نتسم بحقيقتها، حقيقتنا، كذبنا على أنفسنا ونافقنا على التاريخ…”.
الى كلمة يوسف كمال الحاج باسم أسرة الفيلسوف، معرّفاً عن المؤلفات الكاملة، مفنداً محتوى كل مجلد، مهدياً هذا العمل الجبار الذي تناول سهراً متواصلا على مدى سنوات ليخرج اليوم بالحلة اللائقة بفيلسوف لبنان، “الى زوجتي فاديا وأولادي”.
وتتضمن مجموعة مؤلفات كمال يوسف الحاج الكاملة مجلداً تقديمياً وأربعة عشر مجلداً، بدءاً من كتابات الحاج الأولى، فالتيارات الفلسفية والتأملات الميتافيزيقية الى القومية اللبنانية الإنسانية، والميثاقية الطائفية البناءة وفي المجلد تحليل فلسفي للنصلامية “بإزاء الصهيونية، والنصلامية كلمة تدل الى التلاحم النصراني – الاسلامي في التصدي لخطر الصهيونية، وصولا الى المؤلفات الايمانية”.
وكانت كلمة الأب العام مالك بو طنوس رئيس جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة، فقال: “لست مندهشاً بهذا “الكمال الحاج” على دروب الكمال والمشتهي، بعد عرض الفلسفة، كرسي المذبح، فاذا كانت الذبيحة ترتسم بالدم، فكمال الحاج صار كاهناً لحظة استشهاده. ثم القى الوزير السابق ميشال اده كلمة تناول فيها موقع الرجل ودوره.
تحدث من قلب الجامعة الاب وليد موسى رئيس جامعة سيدة اللويزة فقال: “هذا مصير المناضلين من اصحاب المدارس الفكرية الذين يظن من ازالوهم من الوجود أنهم اطفأوهم لكنهم يزدادون تألقاً واشعاعاً بعد مقتلهم، ونؤكد أن من آمن وان رحل فانه سيحيا بفكره ومؤلفاته. من الطبيعي ونحن في جامعة ان نطرح موضوعات القومية، الوطنية، اللغة، الفلسفة، الميثاق، الطائفية، الصهيونية، الايمان ولو كانت ذات اشكاليات مختلفة، ولهذا اقمنا مؤتمراً متعدد الاصوات والتوجهات منذ ست عشرة سنة واستكملناه اليوم لكي يكون الحوار الذي كما قال البطريرك هو الطريق الى الحقيقة والمعرفة وهذا ما آمن به كمال الحاج وما دعا اليه في مؤلفاته ومناظراته”.
كيف لا يتروحن الموت ويستفيق من رحلته الطويلة وصوت فاديا بصفاء اوتاره، يذكر العائد بولعه بمريم العذراء وقصيدته لها “اما ترجعيني الى طفولتي”. نشيد سماوي من الحان سمير طنب واداء اوركسترا الجامعة وجوقة الاب خليل رحمة، فيما تنقشع كوة من العلى ليغدو السمع انقى وارهف وهي المشتعلة حبا تهتف من كلماته:
“يا امي الجهل يحيط بي/ فكوني نوري/ الموت يحيط بي/ فكوني حياتي”.
وقبل التوقيع على الميثاق التأسيسي لأسسية بيت الفكر كانت كلمة الختام للبطريرك الراعي: “احتفالية تاريخية مزدوجة تجمعنا اليوم: اطلاق مؤلفات كمال الحاج الكاملة وتوقيع الميثاق التأسيسي لبيت الفكر في رحاب جامعة سيدة اللويزة الزاهرة ومنها ننطلق من عنصرة لبنانية بروح الفيلسوف كمال الحاج وفكره، فيما حماس الرسل الاثني عشر عندما خرجوا من عنصرة الروح القدس وطافوا العالم كله للشهادة للكلمة الالهية يسوع المسيح. اما نحن فللشهادة للبنان عنصرتنا، ولفلسفة ميثاقه الوطني ورسالته النصلامية الجامعة بين المسيحية والاسلام في زمن الاخلال بالميثاق والرسالة…”.
الميثاق في رعاية بشارة الراعي حمل توقيعه وتواقيع اسرة كمال الحاج، كما قدم يوسف الحاج الرقم الاول لموسوعة كمال الحاج لمكتبة البطريركية ومكتبة البطريرك. وفي المناسبة قدم الراعي لزوجة الراحل ماغي الحاج ميدالية البطريركية وتمثل اكليل مجد على رأس كمال الحاج.
ختام الاحتفال اقيم على احد مداخل الجامعة برفع الستارة عن تمثال الفيلسوف تخليداً لذكراه.