أيام قليلة تفصل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي عن زيارة قرية كفربرعم المهجّرة، حيث سيتطلّع إلى منازلها المدمّرة، ويستمع إلى معاناة أهلها، كاسراً كلّ المحرّمات والعوائق التي تمنع اتّصاله برعيَّته، منادياً بأعلى صوته لحلّ قضيّة كفربرعم الإنسانية، ومعها القضية الفلسطينية.
يُراهن أهالي كفربرعم على هذه الزيارة كثيراً، فهُم يتحضّرون للزحفِ إلى بلدتهم لملاقاة الراعي، ويستغربون الأصوات التي تتعالى رافضةً، وكأنّهم يعيشون في جزيرة معزولة متروكين لقدَرِهم.
التمركّز الماروني الأكبر
لبلدةِ كفربرعم رمزيتُها، وهي قرية مسيحية تقع في أقصى شمال إسرائيل، في المنطقة المعروفة بالجليل الأعلى الأوسط، مقابل بلدات رميش ويارون ومارون الراس اللبنانيّة. تطلّ على عين ابل وبنت جبيل اللبنانيتين أيضاً. وتمتدّ أراضيها إلى أراضي رميش في الشمال الغربي ويارون في الشمال منها، وإلى حدود 1923 بين فلسطين ولبنان، عند نقاط الحدود «الأعمدة» الرقم 16-19. أمّا مركز القرية فيبعد عن الحدود اللبنانية ما لا يزيد عن 3.5 كيلومتر.
إنقطعَت علاقة البلدة مع محيطها عندما احتلَّت القوّات الإسرائيلية منطقة الجليل الأعلى، بما في ذلك كفربرعم، في العملية العسكرية المعروفة باسم «عملية حيرام 28 – 31 / 10 / 1948». وقد بلغ عدد سكّانها عند الاحتلال 1050 نسمة، في غالبية مارونية ساحقة، وهم يشكّلون اليوم ما يزيد على 40 في المئة من أبناء أبرشيّة حيفا والأراضي المقدّسة للموارنة، فيما ينتمي الباقون إلى طائفة الروم الملكيّين الكاثوليك.
التهجير
بعد احتلالها بنحو 3 أسابيع، أُمِر سكّان كفربرعم بمغادرتها موَقّتاً لمدّةٍ لن تزيد على أسبوعين إلى قرية مجاورة تُدعى الجش، لأسباب أمنيّة، وكان ذلك بوعدٍ وتعهّد من وزير الأقلّيات الإسرائيلي ممثِلاً السلطة الجديدة، على أن يعودوا إلى بيوتهم وقريتِهم وأراضيهم بعد انقضاء هذه المهلة، ولو لم يفعل الأهالي ما أُمِروا به لكان مصيرهم تنفيذ تهديد الجيش لهم بإطلاق النار عليهم.
مرَّ الأسبوعان وطالت أعوام التهجير والاقتلاع، وبهدف محوِ كلّ بصيص أمل للعودة، هدَمت إسرائيل في (16 – 17 / 9 / 1953) كلَّ بيوتِ القرية، ولم تسمح بعودة المهجّرين، فمَرَّت 66 عاماً وما زال أبناء كفربرعم أينما حلّوا يُصِرّون على العودة، ويزيدهم التهجير إصراراً على الصمود.
مع العِلم أنّهم توجّهوا إلى أعلى محكمة في إسرائيل وهي «محكمة العدل العليا» واستصدروا أمراً يُجيز لهم العودة إلى قريتهم، ولكنّ الدولة لم تحترم الأمر ومنَعت الأهل من تنفيذه، وقامت بمصادرة الأرض تحت قانون خاص.
لجنة الدعم
«العودة حقّ لنا»، يَجزم الناطق بإسم لجنة أهالي كفربرعم كامل يعقوب، في حديثه لـ«الجمهورية». وينقل موقفَ الأهالي «الذين ما زالوا حتى يومنا هذا مهجّرين، ولم يُسمح لهم بالسكن في قريتهم، على رغم أنّنا ندفن موتانا في مقبرتِها، ونقيم أكاليلنا وعماداتنا في كنيستها، ونزورُها بشكلٍ شبهِ يوميّ، للحفاظ على برعم الأرض والإنسان».
بعد التهجير، اضطرّ بعضُهم للّجوء إلى لبنان، أمّا مَن بقوا منهم داخل إسرائيل فيسكنون أكثر من بلدة، مثل: حيفا وعكّا والقدس والناصرة، وفي قرى الجش والمكر، ويبلغ عددهم نحو 3500 نسمة.
وفي هذا الإطار، يقول يعقوب إنّ «علاقة أبناء كفربرعم مع الكنيسة الكاثوليكية الجامعة عموماً ومع الكنيسة المارونية خصوصاً، قديمة وثابتة وعميقة الجذور كأرز لبنان، وقد أخذَت هذه العلاقة تمَيُّزَها وخصوصيّتَها بعد تهجيرهم من بيوتهم وأراضيهم».
الاتصال بين الأهالي والبطريركية المارونية لم ينقطع، ويلفت يعقوب إلى أنّ قضية كفربرعم لم تغِب منذ ذلك الوقت وحتى اليوم عن فكر بطاركة الكنيسة المارونية وأساقفتِها، فقد رافقوا البراعمة في طريق آلامهم، وقد تعزَّزَت العلاقة واتّخذت منحى أكثر عمقاً واتّساعاً بعدما وصلَ في العام 1996 المطران بولس الصيّاح كأوّل أسقُف على أبرشية حيفا والأراضي المقدّسة للموارنة، حيث احتضنَ البراعمة وحملَ معهم مجدّداً قضيتَهم إلى الكرسي الرسولي في روما، وحرص على أن تكون حاضرةً على طاولة الفاتيكان وبكركي كلّما سمحت الظروف.
وخلال السينودس من أجل مسيحيّي الشرق المنعقد في حاضرة الفاتيكان في تشرين الأوّل 2010 لم يبخل الصيّاح والمطران بشارة الراعي -عندما كان أسقُفَ أبرشية جبيل- وعددٌ كبير من البطاركة والأساقفة، بوقتٍ ولا بجُهدٍ لتوجيه نداءٍ ودعوة إلى قداسة البابا بندكتوس السادس عشر لبذلِ مساعيه من أجل عودة مهجّري كفربرعم».
حاضر دائماً
من هنا، يتبيَّن أنّ الراعي كان مهتمّاً بقضية كفربرعم منذ فترة طويلة. وبعد وصوله إلى سدّة البطريركية، وتبوُّءِ الصياح كرسيّ النائب البطريركي العام، زارهما وفدٌ من لجنة مهجّري كفربرعم في آذار 2012 في عمّان أثناء زيارتِهما المملكة الأردنية الهاشمية، وقد وعَداهم بالعمل لحلّ قضيتهم.
من هنا يؤكّد يعقوب، أنّ «لقاءَ غبطته بأبنائه البراعمة على أرض كفربرعم المهجّرة وفي كنيستِها هو استمرارٌ طبيعيّ للتواصل المستمرّ بينهم، وأنّ زيارته «واجبٌ عليه وحقّ لهم»، ليباركَ برعمَ الأرض وبرعمَ الإنسان، وليُطمئنَهم ويزرع الأمل، ويثبتهم بإيمانهم بالمسيح وبقضيتهم، فلا يضيع حقّ وراءَه مطالب».
ويضيف: «أهلاً بكَ يا صاحب الغبطة في بيتِك كفربرعم وبين أهلك البراعمة»، لافتاً إلى أنّ البطريرك أعلن «أنّ زيارته لكفربرعم وغيرها هي زيارة رَعويّة، ونحن نرى فيها زيارة الأب لأبنائه المهجّرين المظلومين، وأملنا كبير أن يكون للزيارة ثمارٌ جيّدة ومردودٌ مباشَر وغيرُ آنيّ في المحافل الفاتيكانية والدولية لصالح التأثير على صانعي القرار في دولة إسرائيل لتحقيق عودة أبناء كفربرعم». ويشير إلى أنّ «آخر الاتصالات لهذه الغاية كانت في شهر شباط من هذه السنة بزيارةٍ إلى القاصد الرسولي الذي نتواصل معه دائماً».
الكنيسة صامدة
هُدِمت بيوت القرية عام 1953 ولم يبقَ منها سوى مبنى الكنيسة والمدرسة المجاورة، ومنذ ذلك الوقت بقيَت بيوتُها هياكل حجرية صامدة في وجه المطر والريح، عامرةً في ذكريات أبنائها، يتناقلون حكايات البيوت وأصحابها من جيل إلى جيل. أمّا الأراضي – الخاصّة والعامّة وأوقاف الكنيسة المارونية المحَلية – فقد صودِرت عام 1953 ولم تعُد قانونياً مُلكاً لأصحابها.
علماً أنّ أبناء كفربرعم يرفضون هذه المصادرة، كما يرفضون العروضَ الحكومية العديدة للتعويض عنها أو للمبادلة بها في أماكن أخرى. وعلى رغم المصادرة الرسمية، ما زال البراعمة يزورون أراضيَهم وعيونَ الماء التي فيها وهياكلَ بيوتِهم وكنيستِهم ومدافنَ موتاهم، ومِن شِبه النادر أن يمرّ يوم بلا مصادفةِ براعمةٍ في كفربرعم.
تحضيرات لاستقبال «الآتي»
منذ الإعلان عن زيارة الراعي إلى الأراضي المقدّسة ومنها كفربرعم، بدأ المهجّرون، وعلى رأسهم راعي أبرشية حيفا والأراضي المقدّسة المطران موسى الحاج، وكاهن رعية كنيسة السيّدة في كفربرعم ولجنة أهالي القرية وعددٌ كبير من أبناء كفربرعم، الترتيبات لاستقباله في 28 أيار الجاري.
«لا نستطيع الذهاب إليه، فأتى لزيارتنا»، هكذا يعلّق ابن كفربرعم والمكلّف تحضير زيارة البابا والبطريرك الشمّاسُ صبحي مخّول، حيث يستشيط غضباً مثل جميع الأهالي الذين يستمعون ويشاهدون الهجوم على سيّد بكركي حين قرّر زيارتهم، ويقول لـ»الجمهورية»: «مُدَّعو العروبةِ هُم مَن قضوا على القضية الفلسطينية، كفانا تنظيراً، ولا نحتاج لمن يُعلّمنا النضال والدفاع عن أرضنا». فالمَثل يقول: «خَيّطو بغير هالمسَلّة». وأفضل لكم أن تخجلوا وتفحصوا ضميرَكم عسى يجديكم نفعاً. وربّنا يسامحكم».
ويعتبر مخّول أنّ «زيارة سيّدنا البطريرك إلى الأراضي المقدّسة واجب عليه وحقّ لنا، من المنطلق الكنَسي، بصفته بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، وعليه استقبال قداسة البابا الآتي لتفقّد الرعية. الأرض المقدّسة جزء أساسيّ من امتداد بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للموارنة».
ويؤكّد مخّول أنّ «سيّد بكركي ليس حِكراً على لبنان واللبنانيّين، والمارونيّة تتعدّى حدود المكان. ولا يمكن سَجنُها بين جدران الحدود السياسية للبنان. فهي حضارةٌ وتقليد وروحُ وشعب، تنتشر في العالم لتشهدَ للمعلم الإلهي، وهي مدرسةُ حياة.
وهنا أستشهدُ بما قاله العلّامه الأب ميشيل حايك :»لا تنحصر المارونية بكنيسة، ولا يبدو أنّها تُحَدّ أيضاً بأرض مُعيّنة، لأنّها من شمولية إيمانها الكاثوليكي، ومن انتشارها الجغرافي في مختلف القارّات ومن تنوّع تعابيرها الثقافية، تتخطّى حدود أرض وطنٍ معيّن. ومن خلال هذه المظاهر كلّها تشهد المارونية على الشمولية».
ويرى مخّول أنّ «التواصل بين لبنان وموارنة الأرض المقدّسة حاجة ماسّة، وهناك من يحرم شعبنا الماروني الفلسطيني من زيارة لبنان. ولبنان بالنسبة إلينا مَهدُ وبيت الموارنة. فهَل هذا عدل؟». ويضيف: «كلّ سنة أكثر من 10.000 من أخوتنا المسلمين من عرب الداخل يتوجّهون للحجّة والعمره إلى مكّة المكرّمة بلا إشكال. لماذا هذا الاختلاف والتفاوت في المعايير؟زيارة سيّد بكركي هي استكمال وتوطيد لهذا التواصل المتجدّد».
ويرى مخّول في زيارة سيّد بكركي «مؤزارةً لتثبيت أبنائه بإيمانهم وقضيتهم. فهناك أبناء قرية كفربرعم المارونية، الذين تجمّعوا حول الخوري يوسف اسطفان سوسان (ابو عيد)، الذي قاد نضالهم لأكثر من 30 عاماً، فاستمرّ البراعمة وكانوا رمز الصمود والتحدّي. 60 عاماً ونَيّف على اقتلاعهم من أرضهم وتهجيرهم، ولم يتنازلوا عن شبر منها حتى اليوم، كما فعلَ الآخرون.
لقد علا صراخُنا ومطالبتنا، وليس مَن يسمع، حتى محطّات التلفزة التي تدَّعي الوطنية والعروبة، والموجودة بيننا، لم تجرؤ على تغطية الاعتصام في برعم لئلّا تثير حساسيّة السلطة. فبالله عليكم، قولوا لي مَن هو المتواطئ؟ مَن هو المتخاذل؟ مَن يقوم بالتطبيع؟ نحن أم هم؟».
ويُوجّه مخّول باسم البراعمين رسالةً إلى الراعي، قائلاً: «كلّ شعب بلادنا مِن كلّ الكنائس والديانات، وجميع ذوي الإرادة الصالحة يرَون في شخصكم يا سيّد بكركي، رمزَ الصدق والأمانة، حاملاً رسالة الشراكة والمحبّة، الداعي إلى الحوار والتعايش المشترك، إلى المسامحة والغفران.
كلّ هذه القيم تخيف ضعفاء النفوس، وقليلي الإيمان، وفاقدي اليقين، فيتخبَّطون بغوغائيتهم ويفقدون الرشد والصدق. جميعنا في انتظارك يا سيّدنا لكي تستقبل قداستَه وتستقبلنا، في بيت لحم، في القدس وفي الناصرة. فنحن الضيوف وأنت ربّ المنزل، والمجد لبكركي».
ينادي أهالي كفربرعم الراعي، ليصمَّ أذانه عن الانتقادات، لأنّهم يحتاجون إلى زيارته، وهو لا يصغي إلّا إلى صوتهم، وبالتالي، فليطمئنّوا لأنّ حلمهم برؤية بطريرك الموارنة سيتحقَّق.