في يوم المدرسة الكاثوليكية يشدّني الحنين إلى البدايات، إلى ذلك الصوت القائل: إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم (متى 28 / 19).
ويسأل البعض، لماذا؟ فأجيب: لأن صاحب هذه الدعوة – المسؤولية، هو المعلم الأول، لا بل المعلم الأوحد، وما قاله هو الحق الذي يحرّر.
وبالاتكال على نعمته تتهاوى كل التحديات، وتسقط كل الحواجز، ليشرق الرجاء معزِّزاً مواصلة المسيرة والتطلع دوماً إلى المراقي.
وهنا تسهل كل مبادرات مدارسنا الكاثوليكية لخدمة الأجيال الطالعة بالوقوف معها على “أوسع وأعمق ما يمكن من معرفة وتربية متطلّبة ومثابرة على الحرية الإنسانية الحق” (رجاء جديد للبنان، 106)، بالإضافة إلى مساهمتها الفعّالة، في تأمين التعليم للكثيرين، “دون تمييز أو تفرقة،… لاندماج الشباب في مجتمع غني الثقافة ومساعدتهم على مواجهة مستقبل أفضل” (رجاء جديد للبنان، 106).
أمام هذه التوجّهات الكنسية النبيلة، ونحن ملتزمون بها، نعرف أننا مدعوون دوماً لسلوك يستبعد كل موقف سلبي، يفرِّق ويضلّل، بغية التحلّي والتخلّق بكل الإيجابيات التي توحّد وتبني وتبدع.
صحيح أن مدارسنا الكاثوليكية، تتعرّض لحملات اتهامات مغرضة تشوّه رسالتها، وأحياناً من عاملين في صفوفها، ولكن موقفنا الأصح هو اصرارنا على السعي الدائم لتعزيز المصداقية والشفافية، قناعة منا بأن الشجرة الكثيرة الثمار هي وحدها التي ترشق بالحجارة. ويا ليت الذين يتعاطون اليوم في موضوع الملف التربوي يتعلّمون من الكنيسة، “الأم والمعلمة”، “الخبيرة بالإنسان” والتي تشدد، وكما ورد في شرعة التربية والتعليم في مدارسنا، المادة 12، “على وجوب تحييد المؤسسات التعليمية عن أي تأثير سياسي أو اقتصادي يفرض عليها توجها عقائدياً أو سلوكياً يناقض البحث الموضوعي والعقلاني”.
والمؤسف ان العمل التربوي كما يبدو اليوم، هو ضحية صراعات سياسية ومحاولات لاصدار تشريعات للقضايا الاقتصادية لا تراعي حقوق الجميع ولا تؤمن المساواة والتوازن بين الأسرة التربوية الواحدة، ولا تصون العدالة ولا تحمي الحقوق.
ومع هذا فالمدرسة الكاثوليكية تواصل مسيرتها، وهمها الثابت هو الالتزام بالرسالة الملقاة على عاتقها لتنشئة العاملين في صفوفها على حسن قيامهم بمهامهم والحفاظ على حرية التعليم التي كفلها الدستور والاعتراف بان التربية والتعليم، “حق أساسي يتمتع به الانسان، ومن خلاله يصقل شخصيته عن طريق تكوين الارادة والحرية والمسؤولية، ويكتشف مواهبه وطاقاته، وينمّيها في إطار من الخلق والابداع لرسم المستقبل وصنع التاريخ” (ديباجة الشرعة التربوية لمدارسنا، ب).
ومن هذا المنطلق فنحن نجدّد، وفي يوم المدرسة الكاثوليكية، التزامنا بما نحن مؤتمنون عليه، ونؤكّد على دعوتنا إلى لقاء تربوي يجمع أفراد اسرتنا التربوية: إدارات وهيئة تعليمية ولجان أهل، لكي نعمل معاً على تحييد القطاع التربوي لتأمين مصلحة تلامذتنا، مستقبل الوطن والمجتمع، وللمطالبة بتشريعات عادلة ومتوازنة تؤمن ثبات المؤسسات في تأدية رسالتها، واستمرارية عمل المعلمات والمعلمين فيها، وتسهيل الامكانيات أمام الأهل لتسديد ما تفرضه القوانين من أقساط مدرسية.
ومع هذا، يبقى على السلطات العامة واجب تأمين التعليم الالزامي والمجاني لأنها “مولجة بصيانة حريات المواطنين وحمايتها، وعليها التنبه للعدالة التقسيمية وتوزيع المساعدات العامة بحيث يستطيع الوالدون أن ينعموا بحرية حقة في اختيار مدرسة أولادهم حسب ما يمليه الضمير”. هكذا تعلم الوثيقة الصادرة عن المجمع الفاتيكاني الثاني: بيان في التربية المسيحية والذي نعدّ، وفي مناسبة 50 سنة على صدوره، للقاءات حوله تساعدنا على تعميم رسالة الكنيسة في التربية وعلى تنظيم دورات تدريبية للمنضوين في رحاب المدرسة الكاثوليكية لتطوير كوادرها التربوية ولتعزيز الجودة في التعليم والصعود دوماً في سلم الترّقي.
في يوم المدرسة الكاثوليكية، لا يسعني إلا أن أحيي جميع الذين يتعاطفون معها ويحملون رسالتها لتواصل مسيرتها. وإذا كان لنا في عالم الأرض كثيرون يدعمون شهادتنا ورسالتنا، ففي عالم السماء أيضاً هناك الواقفون أمام عرش الحمل، يشفعون بنا، لندوم مثلهم شهوداً للحق والخير والجمال، ولنكون، كما يقول البابا فرنسيس، “رسالة على هذه الأرض، ندرك اننا موسومون بنار تلك الرسالة التي تنير، تبارك، ترفع، تشفي وتحرّر…”. هذه كانت روحانية البدايات وبها سنكمل الطريق.
الأب بطرس عازار الأنطوني
الأمين العام للمدارس الكاثوليكية