ينضم المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني الى اسماء اعلام في عوالم الفلسفة وعلوم الانسان درجت الجامعة الانطونية على تحية واحد منهم كل سنة منذ 2008، وهم توالياً ناصيف نصار (2008)، وجورج قرم (2009) وبولس الخوري (2010)، وانطوان – حميد موراني (2011)، واحمد بيضون (2011)، وجورج خضر (2012)، وخليل رامز سركيس (2013).
الكوثراني علم ومرجع في التاريخ ليس من منافس لغزارة انتاجه سوى غزارة مصادره ومراجعه، ولا ما يضاهي دقته وتأنيه في ممارسة حرفته كمؤرخ سوى زهده باليقينيات والتعميمات.
امتهن مكرّمنا التأريخ في مرحلة كان فيها الصراع محتدماً على تاريخ لبنان، ومقصات الطوائف والايديولوجيات آخذة في تفصيل الماضي على قياس مشاريع اللحظة السياسية. لكأن مستقبل الأمة التي كل واحد من مكوناتها ينادي “انا أمة”، على حد تعبير “النبي”، مرهون بنتيجة السباق على حصر ارث ماضيها. فكان ان شكّل السجال الحادّ – الذي غلب على معظمه طابع المحاكمة الايديولوجية بدل الاستنطاق الابستمولوجي والمنهجي – الذي أعقب نشره اطروحته الاولى، دافعاً له للانكباب على موضوع الذاكرة الجماعية وانماط استعمارها للبحث التاريخي وسبل قلب هذه العلاقة باتجاه تطهير الذاكرة وترشيدها بالوعي التاريخي العلمي.
وليس من العجيب، والحال هذه، ان يكون صاحب هذه الرؤية قد تردّد في بداياته بين الفلسفة والتاريخ. فهو موقن ان للمبادئ والافكار قواماً خاصاً يتخطى شروط انتاجها واستعمالها، يقينه ان الواقعات بكماء في ذاتها ولا تجيب الا عن السؤال الذي يوجهه اليها المؤرخ. وقد بقيت الروح الفلسفية هذه حاضرة في نتاجه، متجلية في المكانة الخاصة التي افردها لتاريخ الافكار، والعناية التي اولاها لابستمولوجيا التاريخ ومنهجياته. ولكن المؤرخ الذي فيه بقي حاضراً كذلك ليمنع العقل الفلسفي من ان يخلع عن البنى والتحولات تاريخيتها، او يحيل التاريخ انفلاشاً حتمياً لممكنات كانت قوانين الصيرورة او السمات الجوهرانية للشعوب والحضارات تحملها بالقوة.
لعل هذا التوتر الخلاق عنده بين البحث عن معقولية للحوادث تقتفيها الفلسفة أو تفترضها، وبين أمانة لمائية التاريخ ولاغائيته هي السمة الابرز لتجاربه التاريخية. وهو لما يقدّم يوماً نظرية مكتملة ولا تاريخاً كلياً، بل اكتفى، شأنه شأن المؤرخين الحقيقيين، بالكشف عن زوايا جديدة للنظر الى الماضي. فها هو ينتقل من البحث في الدولة الاسلامية مثلاً الى مفهوم الدولة السلطانية ونسق استعمالها للدين نصاً وسلطة. نسق بيّن أنه عابر للحدود المذهبية التي لطالما استعملت مفاصل منهجية للبحث يمر فيها مقص المؤرخ تمهيداً لدرس ضفتيها مستقلتين او مقارنتين. وها هو يسائل مدلولات مصطلح “المجتمع المدني” المحيل الى قطيعة مع السلطة الدينية والمفترض حكماً انبلاج الفردية فوق ركام البنى التقليدية، والمعبّر بالتالي عن مصالح الفرد بروابط ارادية ومصلحية. لذا يجده غير ملائم للدلالة على بنى الاجتماع التحت – دولتيّ الموجودة في المجتمعات العربية والاسلامية، وهي قبل كل شيء بُنى عائلية وقبلية تقليدية لا يجوز أن نسقط عليها المفهوم الاوروبي الحديث. فكان أن فضّل التعبير عنها بعبارة “المجتمع الاهلي”. وها ان جزءاً من مجهوده البحثي ينصب على تأصيل المهمة التأريخية ابستمولوجياً ومنهجياً، كأن به هماً مقيماً يجعله يحرص على تطهير ادواته المفهومية خوفاً من ان تأتي المعرفة التاريخية التي يقدمها اكثر تعبيراً عن احكامه المسبقة منه عن الحقبة التي يحاول استنطاقها.
على المؤرخ اذاً ان يعترف بأن الاسئلة التي يطرحها على المادة التاريخية – وهي مادة ناقصة حكماً – والتي تقود خطاه في التنقيب عنها وانتقائها وتأويلها، ليست محايدة معيارياً. لكن ذلك لا يعني الرضوخ للقراءة الايديولوجية التي تسخّر التاريخ تسخيراً لمصالح الحاضر أو توتراته. لا يليق بالمؤرخ الحق الا ان يعي الخلفيات والانتماءات التي ينطلق منها، لكن المؤرخ ذاك لا يليق بحرفته ما لم يحوّل مدارات انتمائه موضوعات بحث ونقد. والحال، لقد استنطق مؤرخنا عروبته واسلامه ولبنانيته وشيعيته، وافاد من مناهل ومدارس عدة تنوعت تنوع خلفيات اساتذته في قسم التاريخ في الجامعة اللبنانية.
ليس العَلَمْ اسماً، اذا ما قصدنا بالاسم عنواناً لجوهر جامد او صنماً من اي نوع. وما اصرار الكوثراني غداة كل انجاز بحثي، على هجر مكاسب مؤلفه السابق وطرق باب موضوع جديد الا رفضاً لأن يصبح اسماً يعتاش من تراكم فوائد رصيد سابق. حسبه ان “علميته” تأتيه من افعاله، من وعيه ان المعرفة مشروع محكوم باللااكتمال، وعمله بهدي هذا الوعي. هذا المتواضع امام شساعة ما لا يعرفه، والقلق من امكان الا يكون ما قدمه مادة مفيدة لعقلنة الذاكرة في مجتمعه، هو عندنا مؤرخ البنى والتحولات، وعلم القلق المنتج والتواضع الخلاق.
نائبة رئيس الجامعة الانطونية للشؤون الثقافية.
باسكال لحود / النهار