لا يزال المخضرمون من ابناء القرى يتذكرون ذلك النداء “مبيّض مبيّض”، الذي ينتظرونه مرة كل سنة، يحضّرون له القدور والأواني النحاسية والدّلاء ومصبات القهوة لعملية التبييض السنوية. يرحبون بالمبيّض، الذي يحمل على كتفه عدّة التبييض، ويتخذ مكاناً له في ساحة القرية، حيث يتحلق حوله الأولاد يراقبون بشغف عمل المبيّض وحذاقته في عمله و”سحر” القصدير الذي يحيل النحاس أبيض لماعاً بقطنة يفرك بها الطناجر والملاعق والصحون النحاسية.
هذا النداء الذي كان يطوف في أزقة طرابلس وأحيائها، كما في باقي المدن والقرى اختفى اليوم، وآلت حرفته الى الانقراض، بعد انتشار الستنلس والألمينيوم والبلاستيك، من دون ان يتخلى القرويون عن تجهيز العروس بطناجر النحاس والدّسوت التي يطبخون فيها طعام الولائم، وتكون من ضمن “الجهاز” الذي يتبارى فيه الأهالي. استعمال الاوعية النحاسية كان مشهوراً في المجتمعات القروية والأحياء الشعبية، وكان المبيّض يقيم في محترفه في سوق النحاسين، يستقبل أوعية الزبائن التي كانت تتكدّس، فينتظر الزبون دوره لأيام عدة، فيما المبيّض الجوّال يطوف في القرى في صورة دورية، يمكث فيها لأيام عدة حتى انتهاء خدماته.
ولا يزال في سوق النحاسين في طرابلس ثلاثة مبيضين لا يعتمدون على حرفة التبييض، بل يمارسونها الى جانب عملهم في صناعة النحاسيات، لأن حرفة التبييض لا تدرّ عليهم كما في الماضي.
يقول بلال طرطوسي انه بدأ عمله في النحاسيات منذ ان كان في الخامسة عشرة، “لكن الحرفة تغيّرت كثيراً وتراجع الشغل، ولم يعد الاعتماد على هذه الحرفة وحدها كافياً لتأمين المستقبل”.
ويضيف: “كل الاوعية النحاسية قاتلة اذا لم تجرَ لها عملية التبييض، أي تغطية الوعاء بطبقة رقيقة من القصدير تمنع تفاعل النحاس مع الهواء فينتج من ذلك مادة الزرنيخ القاتلة”.
لكن كيف تتمّ عملية التبييض؟ يشرح طرطوسي ان للتبييض مرحلتين: “الاولى تحضير الوعاء للتبييض، وخصوصاً قبل حلول شهر رمضان، وذلك بإزالة القصدير القديم عبر وضع الوعاء على النار لتسخينه. ثم نضيف اليه مادة النشادر التي تساعد في التنظيف، حيث يبدأ القصدير بالذوبان.
ونستخدم الوعاء على النار مجدداً، ومتى بلغت الحرارة مستوى معيناً نمرر عليه قضيب القصدير الذي يذوب تحت تأثير الحرارة. فنحفّ الوعاء بالقصدير الذائب بواسطة قبضة من القطن السميك، ونظل نحفّه حتى يعمّ القصدير كل الوعاء، ثم نبرّده بالماء منعاً للتبقّع، الى ان يخرج نظيفاً لامعاً”.
لكن هذه الايام، للأسف، لم تعد حرفة المبيّض يتّكل عليها كمورد رزق كما كانت في السابق، اذ استغنى المبيضون المعروفون عن حرفتهم هذه وحلّ محلهم المبيضون السوريون، كما في كثير من المهن والحرف التي انقرضت في لبنان.
طرابلس – نعيم عصافيري / النهار