أول من أمس، ليلاً فيما الناس شاخصة أمام الشاشات تنتظر معرفة ما جرى عند محلة الطيونة، فعلت التغطية المتعجلة والشائعات فعلها، محولةً المشاهدين إلى صور كرتونية يتحكم بانفعالاتها ما ينطقه مراسلو المحطات. مرة جديدة، سقط الإعلام في هفواته التي وإن باتت معتادة ومتكرّرة، إلا انّها لم تكن أقلّ استفزازاً للمتلقّين الذين وجّهوا انتقادات لاذعة وساخطة لبثّ القنوات اللبنانيّة المباشر من مكان الانفجار. راح المراسلون يعدون الضحايا أو الجرحى، ثم يعلنون أرقاماً متضاربة. يتبنون مقولة أنّه لا شهداء في التفجير، ثمّ ينفونها لتأكيد وجود ثلاثة شهداء. قالوا إنّ من نفّذ التفجير انتحاريّة، ثم تبنوا فرضية التفجير عن بُعد، ليتبيّن لاحقاً أنّ كلّ ذلك يندرج في خانة التخمينات.
لا تكمن المشكلة في مسألة الخطأ الناتج من العمل العاجل. التلفزيونات في هذه اللحظات هي ملجأ الناس الوحيد لمعرفة ما يجري، وبعد مرور سنوات على التأزم الأمني، لم يعد من المقبول الحديث عن هفوات إعلامية. بعض تلك «الهفوات» يتكرّر بشكل متسق، مثل نقل صور أشلاء بشريّة، وتصويب العدسة عليها لوقت طويل، وثمّ استصراح شهود عيان يقدّمون معلومات متضاربة أو خاطئة، أو يطلقون عبارات تحريضيّة أو طائفيّة. يتواجد المراسلون بشكل متكرر، في أماكن الأحداث القاتلة، ويُفترض أنهم للأسف اكتسبوا خبرة في تغطية هذا النوع من الأخبار. لكنّهم ما زالوا يرتكبون الأخطاء ذاتها، وينصاعون لشائعات تأتيهم من هنا وهناك، يستعجلون قولها كأنها حقائق، متناسين القاعدة الرئيسة للعمل الإعلامي وهي البحث عن الحقيقة، والتدقيق بالمعلومات قبل نشرها.
قضيّة الشائعات باتت تمتد لما هو أبعد من الخبر العاجل. منذ أكثر من أسبوع ساهمت التلفزيونات اللبنانية في الترويج لشائعة قيام نفق جديد من مخــيم برج البراجــنة نحــو منطقة الضاحية الجنوبية. أُذيع الخبر على الشاشات الصغيرة وانطــلق منها ليغزو صفحات المواقع الإلكترونية ومنتديات التواصل الاجتماعي، أُلصقت به صورة، فاكتسب في نظر مروّجيه «مصداقية» مضـاعفة.. وبعد الصورة جاء وقت التحليلات، إنه نفق الغاية منه تسهــيل التفجيرات ضد الضاحية، ما يعني بالضرورة أن «الفلسطــينيين» يريدون تفجــير «اللبنانيين». مرّ أسبــوع أو أكثر ولم يــتمّ تكذيب الشــائعة، ما زال كثيرون يتبنونها باعتبارها حقيقة مطلقة، وقاعدة لبناء تحليلات عن نشاط اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
لم تتساءل وسائل الإعلام التي روّجت للحديث عن النفق ما الذي حلّ به، لم تكلّف نفسها عناء متابعة «خبر/ شائعة» له تأثيرات كبيرة وخطيرة متعلّقة بالعلاقة بين اللبنانيين والفلسطينيين. الأسوأ أن تلك الشائعة جاءت في وقت متأزِّم على الصعيد الأمني.. ولكم لم يُكذّب أحد الخبر/ الشائعة، ولم يتم تأكيده ومتابعته، رغم أنّ آثاره أدّت إلى خلق حالة من الغضب والتنافر بين بعض الفلسطينيين واللبنانيين.
يتبجّح أحد السياسيين اللبنانيين أمام زواره المقربين بأنه ساهم في إطلاق شائعة قبل سنوات، فتمّ توظيفها في إطار زيادة كره اللبنانيين للسوريين، كان يدرك ما يفعله، لكن وسائل الإعلام اللبنانية لا تبدو مدركة لنتائج الشائعات التي تروّج لها، فتسهم في ترسيخ الهوة بين مجموعات تعيش على أرض لبنان، بينما تدعي أنها تتبنى سياسة تحريرية جامعة لتلك المجموعات. هذا إضافة إلى أن بعض الأخطاء والشائعات مقصودة، وقد يكون لها فعل قاتل.
«تغطية غبيّة»
اتفق اللبنانيون مساء أمس الأوّل، على إدانة أداء الإعلام اللبناني في التعاطي مع تفجير الطيونة، بنبرة كادت تتجاوز في قسوتها، إدانتهم للتفجير ذاته. أو كما كتبت إحدى المغرّدات على «تويتر»: «لا يوازي مأساة الانفجار سوى تغطية الإعلام اللبناني له!». على «تويتر»، تسابق المغرّدون في إعلان رفضهم لنقل بعض المحطّات لصور الأشلاء المتناثرة في مكان الجريمة ولم يتردّد بعضهم في وصف التغطية بـ«الغبيّة»، و«غير المسؤولة». ونالت قناة «الجديد» النصيب الأكبر من الانتقاد، خصوصاً لتبرير المذيعة سمر أبو خليل نقل صور أشلاء بشريّة، معتذرةً من المشاهدين عن قسوة المشاهد، لكن مبرّرة نقلها بأنّه الواقع. كما سخر بعض المغرّدين من مراسل القناة مالك الشريف، والذي قام باستصراح طفل، لأخذ تفاصيل منه حول التفجير. وكتب أحد المعلّقين على «فايسبوك»: «حدا يسحب المحقّق كونان من مسرح الجريمة كرمال الله. مالك الشريف أقفل الملف قبل ما يوصل صقر صقر». كما طالت الانتقادات أيضاً أداء «أل بي سي آي» التي بثّت صوراً للجرحى من مستشفى الساحل، إلى جانب تأكيد وجود ثلاثة شهداء رغم عدم صحّة الخبر، واستصراح المراسلة رنيم أبو خزام لشاهد عيان أطلق عبارات تحريضيّة. كما نالت «أم تي في» قسطها من النقد، خصوصاً أنّها بقيت تؤكّد طويلاً أنّ منفّذة التفجير انتحاريّة، ليتبيّن لاحقاً أنّ ذلك عارٍ من الصحّة.
بيسان طي / السفير