ضمن مؤتمر «الفن مضاد للقدر» الذي احتضنته «جامعة القديس يوسف» أخيراً، كنا على موعد مع مهيار. لقاء تناول الشعر، والواقع الثقافي، والإسلام وغيرها من الثيمات التي تشكّل مرتكزاً رئيساً في تاريخه وسجالاته المستمرّة
أدونيس «ثابتاً» ومكرّساً مرّة جديدة في بيروت، بدعوة من «جامعة القديس يوسف» التي احتفت بالشاعر المفكّر ضمن مؤتمر «الفن مضاد للقدر» الذي أقيم أخيراً في الجامعة. انطلاقاً من عبارة أندريه مالرو الشهيرة «الفن مضاد للقدر»، ضمّ البرنامج الذي قسّم على يومين (1 و2 أكتوبر)، محاضرات ولقاءات فنية وسينمائية وشعرية ومسرحية متنوّعة. اليوم الأوّل شهد محاضرات ولقاءات عدّة مع أحد مؤسسي Art Reoriented اللبناني سام بردويل، ومخرج فيلم «غدي» أمين درّة وغيرهما ليختتم بعرض «حرية التعبير» في «مسرح مونو». أما انطلاقة اليوم الثاني فكانت مع الفنان نديم كرم ضمن محاضرة «طفرة المدن سريعة الزوال».
بعدها، قدّم الأكاديمي جورج سلهب محاضرة بعنوان «أدونيس والتجديد في النظرية الشعرية». هنا، قارب أبرز مكوّنات الشعر الأدونيسي؛ حيث الرفض والرحيل والحلم منطلقاتٌ لعلاقة متشاكسة طالَ أمدها مع هاجس التجديد الشعري، والبحث في واقع عربي متردٍّ. وفق سلهب، تعددت ملامح الرفض عند أدونيس حيث الاستكشاف والتفلّت والصورة البكر، والثورة شعراً وعاطفةً وفكراً في سبيل التغيير المنشود. ثم استحضر نماذج من التجارب الحداثوية عالمياً كالسوريالية ورموزها أندريه بروتون وبول إيلوار وغيرهما، وأقام مقارنات بينها وبين النص الأدونيسي، ليخلص إلى توصيف حالةٍ من التفلّت والاستسلام للدفق الشعوري عند أدونيس، حيث اللغة وسيلة الاستكشاف والجِدّة.
أما الموعد المنتظر مع أدونيس، فقد احتضنته «المكتبة الشرقية» في الجامعة تحت عنوان «هل يقدر الشعر أن يغيّر؟ ماذا يغيّر؟ وكيف؟». أسئلة تشكّل مرتكزاً في تاريخ أدونيس وسجالاته المستمرّة. قدّم الشاعر عبده وازن صاحبَ «مفرد بصيغة الجمع» في هذه الحلقة الحوارية، واصفاً إياه بـ «محطم الأيقونات وصاحب المقولات الزلزالية في الفكر العربي الجامد»، و«صاحب الآراء السجالية» التي كان آخرها موقفه من الربيع العربي لاسيما في صيغته السورية. اعتبر وازن أنّ سياق مسيرة أدونيس يتوافق ويتكامل فكرياً مع طرح ماركس بتحويل العالم، أما شعرياً فهو يتشابه وتغيير الحياة عند شارل بودلير.
أما أدونيس، فقد افتتح الحوار بتوطئة، فصّل فيها ما يمكن أن يكوّن موجزاً عن قضايا طرقها طويلاً في مؤلفاته الفكرية. وفي البدء كان السجال عن الشعر والفكر: هل هما منفصلان أم متحدان؟ أجاب بأنْ لا فصلَ هنا، إلا أنّ الحاسة تفكّر والفكر يحسّ، وأن كلَّ شعرٍ هو فكرٌ منذ مطالع الآداب مع جلجامش والأوديسة وسفر أيوب. بعدها، عرج على مفارقة تأسيسية في فكره، ألا وهي التعاطي مع الجذور والأصول التي لا يكون بتجاهلها بل باعتبارها مشكّلاً أساساً؛ إذ «اللامرئي جزء من المرئي».
رؤية الواقع الثقافي، ما هذا الواقع؟ كان لجواب أدونيس تفرّعان، حيث تقوم الثقافة السائدة الآن على أمرين: ثقافة النقل/ الاستعادة، وثقافة النقل الاستعارة. الثقافة الأولى هي ثقافة السلطة ـــ كما سمّاها ـــ وهي لا تعتمد الحوار والنقاش والبحث طريقاً لمجابهة عراقيلها. أما الثقافة الثانية فمتّبِعة مُستتبعة ترتكز على الحلول الغربية للحصول على أجوبة في شؤونها. وتابع أن الملمحَ الأبرز حالياً أن العرب فكرياً «منقسمون ماضوياً لا مستقبلياً»؛ أي أن الخلاف ليس حاصلاً على أساس تنافس على سلطة أو منصب، بل هو واقع في الارتباط مع الإسلام الأصل وتحقيق الصلة الأمثل معه. وهذا الخلاف متمثّل في جوانب عدة أولها التأويل، وبالتالي امتلاك الحقيقة الأصوب، وهو ما يعزّز حكماً توجّهاً دون آخر عند معتقديه. وهذا برأي أدونيس صادر عن ختام الحقيقة في الإسلام حيث محمد خاتم الأنبياء، والحقائق التي أتى بها هي آخر الحقائق، ما يستتبع انعدامَ دورِ الإنسان في التغيير الذي لن يبقى لديه في أقصى ما يُمكن إلا أن يشرح ويؤول ويطيع ويطبّق. وأوضح أيضاً إشكالاً أصيلاً في الثقافة الإسلامية السائدة ألا وهو «الآخر»؛ فهو عمقياً غير موجود إلا منبوذاً، والمسيحي مثلاً منهوب ومحروق ومسبيٌّ فيها وغائب عن المشهد ككل، وهو الذي كان مكوّناً حضارياً متجذّراً في هذه المنطقة وفق أدونيس.
«الإسلام بلا ثقافة الآن والمسلمون العرب في عالم ديني بلا ثقافة، وثقافتهم مستلبة متأثّرة بالغرب، يعيشون في عالم محكوم بالعنف. لسنا أنفسنا ولسنا غير، نحن في الفراغ، نحن في الصفر» قال أدونيس.
أما في ما يخص السؤال الجوهري في المحاضرة أي كيف يغيّر الشعر، فرأى بأنه لا بدّ من البدء بالبحث في الواقع ومعرفته، فالشعر ينطلق من الواقع ولا ينفصل عنه. وذهب بعيداً معتبراً أنّه لم يعد هناك أي معنى للشعر في واقعنا أو في ما يندرج في سياق ثقافتنا القائمة. وأضاف أن الشعر يغيّر أو غيّر تاريخياً في العلاقات بين الكلمات، وتفريغ المحتويات والعلاقات القديمة بينها لإنشاء معنى جديد وبالتالي إنشاء وعي جمالي جديد، ما ينعكس في علاقة الإنسان بالكلمة والشيء وما يُحسب عليهما.
الحوار شعّب توجّه المحاضرة إلى مفردات ملحّة كالهوية وإشكالية الشعب/ الفرد والخطاب الايديولوجي السائد. واقترح أدونيس إلغاء مفردة الأقلية من المعجم السياسي لأن «الفرد هو الأساس». وأشار إلى أنّ لا إيمان عنده بالجمهور والشعب والخطاب الأيديولوجي؛ فكل ايديولوجي يتحدّث عن حزبه. وفي النهاية، اعترف بأن السينما والمسرح والتشكيل اليوم فنون تغيّر أكثر من الشعر الذي يمر في «حالة مضعضعة». وأخيراً قرأ على الحضور قصيدتين من «أغاني مهيار الدمشقي».
نهاية الاحتفالية كانت مع عرض مسرحي يجسّد قصيدة أدونيس «الغائب قبل الوقت» أخرجها عضو «فرقة زقاق» عمر أبي عازار. تمّت تأدية العرض من خلال قراءة القصيدة تتابعاً بالعربية والفرنسية على إيقاع وتري وتحت ضربات سكين متتالية على لوح خشبي تصعيداً للقصيدة وتمثيلاً مُسقِطاً لمفرداتها في التاريخ والحاضر وحلم التغيير. وصّف العرض مشكلة الآخر، والآن، والعلاقة المضطربة بين الأصول والمعيش… مفردات تقع في صلب التاريخ الأدونيسي؛ «هذي نارُنا، هذا سُرادِق الأخوّهْ والزّمن الأعجفُ قرنُ ثورٍ يَموت».
الأخبار