حل الشاعر سعيد عقل في رحلته الى مثواه الاخير ضيفا على جامعة سيدة اللويزة في زوق مصبح التي احبها واعطاها ربع قرن من عمره وفكره، فوصل اليها عند العاشرة قبل الظهر بمواكبة من قوى الامن الداخلي التي عزفت موسيقاها لحن التعظيم وهو يحمل من السيارة على الاكف الى قاعة عصام فارس في حرم الجامعة ليسجى فيها، وكان في استقبال الجثمان وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس، الوزيران السابقان الياس حنا وغابي ليون، الرئيس العام للرهبانية المارونية المريمية الاباتي بطرس طربيه واعضاء مجلس المدربين في الرهبنة والجامعة، رئيس الجامعة الاب وليد موسى يحوطه اعضاء الهيئتين التعليمية والادارية للجامعة، نائب رئيس الجامعة لشؤون الثقافة والعلاقات العامة سهيل مطر، الاساتذة والطلاب وشعراء ورجال فكر وثقافة واهل الفقيد واقرباء.
بو شبل
وألقى المرشد العام لطلاب الجامعة الاب فادي بو شبل كلمة تأمل جاء فيها: “اليوم وفي جامعة سيدة اللويزة التي كان يحب الراحل الكبير ان يسميها الجامعة المريمية، اجتمعنا للصلاة والتأمل ولنقدم الى الرب شكرنا على كل نعمة وهبها لفقيدنا الغالي وعلى كل نعمة لنا نحن الذين نرغب في الوصول الى الحقيقة والجمال والمحبة. فمع الراحل الكبير نردد ما اجمل من يسوع الا رؤية يسوع وهو الذي كان يستقبل القربان المقدس بحب وحرارة ايمانية لا توصف وكان انقطع في اواخر ايامه عن تناول الطعام لكنه ظل مواظبا على تناول القربان المقدس بفرح كبير وكان الراحل ما ان يسمع ان الكاهن يحمل اليه جسد الرب حتى يفتح فمه ليقبله في كيانه”.
اضاف: “من يستطيع ان يتجاهل تلك المواقف التي عبر بها عن عيشه بكلام الله فهو ادرك ان “من وضع نفسه ارتفع ومن رفع نفسه اتضع”، لذلك كان يريد ان يكتب قاموسا للصلاة يدعوه قاموس السماء فيه يجد الانسان طريق التواضع والوداعة والمحبة وفي هذا القاموس ليس من مكان لكلمات لا تذبل في عالم السماء، عالم النقاء والبهاء، عالم البراءة والقداسة والفرح المطلق”.
وتابع: “عجب كيف كان هذا الرجل يحب القداسة وهو الذي قال لي مرة القداسة مثل الكرم، معتبرا ان الكرم ام كل الفضائل ويأتي من القداسة وهناك من يتكارم مثل القديسين، فالقديس يعطيك حياته بفرح”.
وقال: “لا بد هنا من الاشارة الى علاقة الراحل الكبير البنوية بمريم العذراء التي اعتبرها حالة فريدة بين القدوس والقديس فمريم بوصفها مخلوقة هي اقل من القدوس ولأنها ام ليسوع المتجسد فقد فاقت كل القديسين والحق”.
واضاف: “ان سعيد عقل نادى في لحظاته الاخيرة بأعلى صوته “مجد مريم يتعظم” فشكرا لك ايها الراحل الكبير لأنك أحببت رهبانيتنا المريمية وعززت رهبانها. شكرا لانك احببت الكلمة والكلمة كانت عند الله وكان الكلمة الله وبه كان كل شيء وبغيره ما كان شيء مما كان فيه. كانت الحياة والحياة نور الناس والكلمة صار بشرا وعاش بيننا فرأينا مجده. اليوم معك نستطيع ان نصرخ امامه وامام العالم كله حقا ليس اجمل من يسوع الا رؤية يسوع الله الكلمة المتجسد”.
و”لأنه لا يجوز ان يدفن سعيد عقل الا بشيء يليق به وفريد من نوعه”، كما قال النحات رودي رحمة الذي اعد نعشه من الصخر اللبناني الذي جرحته الرياح ومحمل من خشب الارز الخالد حافرا عليه اسماء جميع كتب الراحل الكبير وواضعا منه كل الحب للحياة التي غناها سعيد وجملها”.
ورنمت بعض التراتيل والتآملات من كلمات الراحل ادتها كل من: ليال نعمة مطر، ساجدة وهبي وجمانة مدور، بمرافقة جوقة سيدة اللويزة وفرقتها الموسيقية بادارة الاب خليل رحمة. وكانت مقتطفات بصوت الشاعر الراحل ووثائقي عن مسيرته الفكرية ولمحات عن محطات المئوية التي احتفلت بها الجامعة وكلمات في الراحل الكبير من رفاق دربه الشعري والفكري.
مطر
وألقى مطر كلمة جاء فيها: “ها قد وصل، ها قد يعود مخمرا بالقيم والجمال، مضمخا بعطر الارز، متوجا بغار الحب،مبتلا بدموع الحنين سكبناها، البارحة على صباح، مرفوع الجبين كأنه صنين.
ها قد وصل مشوار جينا عالدني … مشوار
وها هو في مشواره الاخير الى هذه الجامعة. آلاف المشاوير منذ 25 عاما الى اليوم، يقوم بها، كل صباح، الى هذه الجامعة، يدخل الصفوف ، يبتسم للطلاب، يصلي معهم، يخاطبهم، يحاورهم، يرتفع بهم، ويترك عطر اشعاره والصدى، مرشوشا في الزوايا، وفي عيون الشباب والصبايا.
وفي هذه القاعة بالذات، كم سمعناه، يخاطب الجميع بلغة الكبار:
في كل حرف رمى كان الكبارا، كأن من جودة وحده والناس من عدد
نتذكر المرة الاخيرة، منذ عاغمين، وهو جالس على ذلك الكرسي، وجنبه عملاق آخر، وديع الصافي وتحتار الجامعة: ايهما الملك؟
اليوم، نحن نتكرم به.
هو من سجى جثمان الاخطل الصغير، منذ 45 عاما في الجامعة اللبنانية.
وهو الذي كان يرد: هذه جامعتي اوصيكم بها،
نحت، يا معلمي، يا سيد، نحن للوصية اوفياء،
جامعتك، اليوم، تبكي بفرح، تودعك وتودعك اجمل الاماني والصلوات،
وفي نعش من صخر لبنان، في نعش من كتب وحبر وشعر، في نعش صنعه الحب
نردد معك:
اقول: الحياة العزم حتى اذا انا انتهيت ، تولى القبر عزمي من بعيد.
ولنتنته، فالكبار المتمردون لا يسعهم نعش، ولا تسجنهم قبور، ولا يغيبون بإغماضة عين. مع كل رندلات بلادي، مع يارا، مع إغنار، مع رشا، مع الزنابق والورد والبخور، مع دمعة البردوني، ودموع الشام وعمان والقاهرة وبغداد، مع دموع مكة والقدس – زهرة المدائن، مع انحناءات اعمدة بعلبك، ننحني ونقول:
من زهر لبنان خذ عرشا ومن قيم لا زهر لبنان منان ولا القيم”.
قداس وعظة
وظهرا، ترأس الاباتي طربيه قداسا لراحة نفس الراحل عاونه فيه رئيس الجامعة الاب موسى ولفيف من الاباء والكهنة.
وبعد الانجيل، ألقى عظة بعنوان: “تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي”، ومما جاء فيها: “نعظم الرب مع مريم ونبتهج به لاجل عظائمه ونشكره لاجل الانسان المؤمن، الاديب المفكر والعبقري سعيد عقل. نودعه اليوم ونحن نتذكر من كان امام الله والبشر الانسان المميز المدهش بتفكيره وتصرفه ورؤاه بفطرة انسانية روحية، عرف هذا الرجل ان يتعدى محدودية البشر ليتوق دائما الى غير المحدود ويسعى اليه لم تكن نفسه لتكتفي بالقليل والعادي لان افاقه لامحدودة. أحب الكتابة شعرا ونثرا فأبدع، أحب لبنان ففك عقده صغره واعطاه ابعاد الكون، وأحب الله الثالوث الاقدس والعذراء فنمت معرفته في العشق الالهي وتبنى الخير قالبا وقلبا ونبذ الشر صراحة وكره الزيف بثبات، انه الصنديد الجريء الذي يعمل ولا يتعب، يحيا ولا ينتهي، يرقد ويملأ الحاضر ذكريات وكأنه حي يرزق”.
واضاف: “يتكلم فتجد ذاتك امام اساطير اذا تعمقت بها تجدها حقيقة وحياة، يكمن سر نجاحه في الايمان، فقد اغتذى من كلمة الله وابدع فكرا روحيا قل نظيره، اذ جمع بين العقيدة والجمال ورأى في الكيان البشري المخلص رائعة اللاالوهية وتتميم تدبير الخلاص. سلبت العذراء مريم قلبه فتفنن بها وكرمها، عاش النبوة فوجد نفسه منتميا الى كنيسة ابنها ملبيا دعوة الابن له “ها هي امك”، انه المحدث المحفز في جامعة سيدة اللويزة وقد زين منابرها لسنين بفكره وتأملاته وعلم العقل حسن السبيل والقلب سر الحياة ناظرا الى مريم، ترك لنا ميراثا نستقبله في تواضع مريم معتبرين مرور سعيد عقل من هنا نعمة مميزة لنا كجامعة رهبانية مريمية هي ابنة الكنيسة المارونية والكنيسة الكاثوليكية”.
وأضاف: “أرقد بسلام يسوع يا سعيد عقل، ولتكن سعادة الاب حظك الاوفر وليكن الجمال الالهي سقف عقلك مدى الابد”.
وختم: “يا مريم، ايتها الساهرة سيدة اللويزة، احفظي ابنك سعيد في عبوره الى دار الخلود وليكن نصيبه مع الابرار في الفرح الابدي بمشاهدة وجه ابنك الكلمة الاله منشدا “تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي”.
وتستمر الجامعة في استقبال المعزين حتى السادسة مساء اليوم.
وطنية