إنّها سلسلة طويلة، طويلة فعلاً، من محاولة تغيير، والأدق تطويع، بنية الصحافة التركية المكتوبة والمرئيّة ترهيباً وترغيباً، سواءٌ في الضغط السياسي على صحافيّين معارضين والمالي على صحف معارضة أو في تغيير ملكية بعض الصحف ومحطّات التلفزيون الأساسية ومواكبة ذلك بدفع معلِّقين بارزين إلى الاستقالة منها…
… بعد كل ذلك يبدأ الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان مرحلة جديدة سافرة ضد حرية الصحافة بمداهمة مقر صحيفة “زمان” وشبكتها التلفزيونية واعتقال بعض كبار صحافيّيها ومدرائها بينهم رئيس التحرير. حصل ذلك أمس الأول الأحد وشمل حتى صباح الاثنين 31 شخصاً. لم يقتصر الاعتقال على الصحافيّين والمدراء التنفيذيّين بل شمل أيضا فنانين من ممثلي بعض المسلسلات التي تذيعها محطة التلفزيون.
لا سابق لهذا القمع للصحافة الذي يتورّط به الرئيس أردوغان منذ الانقلاب العسكري عام 1980 مما يُدخل تركيا في عهد قمعي سافر أخذ البعض يسمّيه في تركيا “الانقلاب المدني” لأن الرئيس أردوغان سبق ذلك في الأشهر الماضية بحملة اعتقال وطرد لعشرات من ضباط الشرطة والقضاة وإحالتهم على القضاء بتهم الانتماء إلى منظّمة الداعية الإسلامي فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة الأميركية والتي يتهمها أردوغان بأنها تقف وراء كشف عمليّات الفساد التي كان نجله وبعض أنجال وزراء في حكومته السابقة متورّطين فيها. (يقمع المنظمة الإسلاميّة الكبرى (غولن) الداعية إلى تبنّي الإسلام للثقافة الغربيّة في وقت يدعم فيه “داعش” ويسمح لأنصارٍ لها بالتظاهر في اسطنبول قبل مدة!!).
صحيفة “زمان” لها سمتان:
الأولى أنها الصحيفة الأكثر توزيعا في السنوات الأخيرة في تركيا مع رقم توزيع يقارب يوميّاً المليون نسخة في بلد هو من البلدان التي لا زالت الصحافة الورقية فيها مزدهرة إضافةً طبعا إلى تحديثها الرأسمالي و الإلكتروني.
السمة الأخرى أنها الصحيفة القريبة وطبعا المموّلة منذ تأسيسها من منظمة فتح الله غولن.
لم يقمع الصحافة بهذه الطريقة أحدٌ في تركيا حتى العسكر في أزمنة سطوتهم على السياسة. والمفارقة أن المجموعة الإعلامية التي ولدت منها صحيفة “زمان” تأسست عام 1980، عام الانقلاب العسكري، بينما ظهرت الصحيفة نفسها إلى الوجود عام 1986 وهي اليوم تتعرّض إلى ضغط لم تتعرّض إلى مثله سابقا رغم محاولات منع الشركات من الإعلان فيها ومحاولات ترحيل الصحافيين منها سابقا كما قال بيان الصحيفة بعد المداهمة.
على أن أهم ما نوافق بيان “زمان” عليه هو قوله “نحن على ثقة أن تركيا ستطوي هذه الصفحة المظلمة لبناء ديموقراطية أفضل” يجعلها اليوم رجب طيّب أردرغان “حزينة” كما قال البيان نفسه.
نوافق على ذلك لأننا مثل العديدين، لا سيما في العالم العربي، الذين يعتبرون النموذج التركي سابقاً على “حزب العدالة والتنمية” وسيبقى بعده أيا تكن السطوة الشعبويّة الحالية للحزب ورئيسه لأن هذا النموذج، سياسيا واقتصاديا، هو تجربة مميزة لعلاقة بلد مسلم مع الحداثة ونجاحاته عائدة لجهود أجيال أتاتوركيّة متعددة منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 وليس فقط لجهود الجيل الإسلامي الأردوغاني الحالي.
انتجت الحداثة التركية تجربة “حزب العدالة والتنمية” وليس الحزب هو الذي أنتج النموذج التركي كما يروّج البعض بسطحية في العالم العربي فإن هذه الحداثة ستصحّح الردة اللاديموقراطية التي يلجأ إليها رجب طيّب أردوغان حاليا بعد سنواته الذهبية التي وقفت فيها معه النخب الليبرالية والثقافية واليسارية التركية كلها في إنهاء الوصاية العسكرية على الحكم المدني. لن تقبل تركيا ونخبها على المدى الأبعد سيطرة نظام بوليسي مدني على الحياة العامة التركية صار بديلا عن السيطرة العسكرية. ولهذا فإن “جنون” أردوغان السلطوي قد وصل إلى حد بات معه السؤال عن سقوط عهده مسألة وقت. فكيف إذا أضفنا أسئلة مستنكرة باتت تطلقها أوساط داخل الحزب الحاكم نفسها بمن فيهم، كما يقال، رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو الذي صرّح أحد مستشاريه أمس الأول أنه لا يمكن السكوت طويلا عن فضائح الفساد ولا بد أن تفتح الحكومة ملفّاتِه عاجلاً أم آجلاً. هذا دون أن نضيف ما بات يقوله لمقرّبين الرئيس السابق وشريك أردوغان السابق عبد الله غول عن أخطاء أردوغان في السياستين الداخلية والخارجية.
دفاعا عن النموذج التركي وليس فقط دفاعاً عن حرية الصحافة التركية يجب تصعيد الاستنكار العالمي وخصوصا من النخب العربية والمسلمة ضد هذا القمع لأنه في العمق دفاع عن قضايانا ونضالاتنا لأجل التقدم الديموقراطي والحداثي.
جهاد الزين / النهار