“مرحباً صديقي العزيز. لا استطيع ان أكلمك وجها لوجه عن رحلتي الى سوريا، وأخبرك ما هي الحرب هناك وألتقط تعليقاتك. لو تعرف كم افتقد تحليلاتك وملاحظاتك. كالعادة كنت محقا في شأن الطبيعة الصلبة للنظام، ولكنه أسوأ بعد مما كنت تقوله لي عنه. نحن نواجه عصابة مجرمين، جلّادين ومرضى نفسيين، مستعدين للتضحية بسوريا ونحرها للاحتفاظ بالسلطة. وعلى الرغم من ذلك سأحاول ان أخبرك…”.
هكذا ينهي الصحافي والكاتب الفرنسي جان بيار بيران الفصل الاول من كتابه “الموت خادمي” (رسالة الى صديق اغتيل، سوريا ٢٠٠٥- ٢٠١٣) الصادر عن دار فايار، يروي من خلاله بداية الحوادث في سوريا لصديقه سمير قصير الذي لم يشهدها، والذي تنبأ ان الديموقراطية في العالم العربي لن تحصل من دون “ربيع دمشق”، ويخبره عن الثورة السورية التي ما استطاع ان يواكبها، وعن حمص وحلب وضياع 4500 سنة حضارة، وعن مجازر النظام وصعود الاسلاميين المتطرفين، وانزعاجه من الالتباس في العلاقات السورية الفرنسية… لم يسرد في الكتاب وقائع الحوادث فقط، بل استدعى التاريخ والادب والجيوبوليتيك وعزاء الشعر، كما يقول، محاولا ان يفهم كيف يمكن بلداً ان يغرق هكذا في التدمير الذاتي، متأكدا من ان الفظائع في سوريا انما تعكس فساد العالم. في الكتاب كلمات حارقة تتحدث عن صديقين، احدهما اغتيل والآخر يكتب عنه وله، لعله بالكتابة يعزي نفسه عن غياب صديق.
في عام ١٩٩٧ عرّفني سمير قصير بالصحافي بيران، ناقلا اليّ عدوى صداقته، فعرفته من كثب وقرأت له العديد من المقالات والكتب التي غالبا ما مزج من خلالها واقع تغطياته الصحافية في المنطقة، من افغانستان والعراق وسوريا ولبنان لجريدة “ليبيراسيون” الفرنسية، بالجانب الروائي الذي يتمع به.
بكتابته المميزة البسيطة يلاحظ بيران أدق التفاصيل، يروي البعض منها بسخرية كما شخصيته الخجولة الساحرة، يمتزج السرد الواقعي بأسلوبه الروائي الأدبي الشيّق. بدأ الكتاب بسرد رحلة ذهابه وايابه الخطرة على الطريق الذي لا يؤدي الاّ الى الموت، الى حمص، التي فرض عليها قدرها الرهيب، يصل الى بيروت ويذهب الى مقهى يحبه سمير قصير يشرب نخبه، فهناك التقاه للمرة الاخيرة، وكان يجب ان يلتقيه ايضا فيه صباح ٢ حزيران ٢٠٠٥ يوم اغتيل في الاشرفية امام منزله، غير انه ارجأ الموعد لارتباطه بلقاء استجد عليه.
فصله الثاني يبدأ باغتيال سمير قصير “الراقص الأنيق في حقل الغام” كما قال عنه محمود درويش في رثائه له في الذكرى الأربعين، للمثقف الأبرز في العالم العربي.
في الفصل الثالث “النفق” يعود الى حمص ويتحدث عن النفق الوحيد الذي ربط المدينة بالعالم، ورحلة العذاب والمخاطرة في دخول المدينة، وكيف شهد مقتل زميلته الاميركية ماري كولفن. ويعود الى حكم بشار وكيف وصل الى السلطة ولجوئه الى التعذيب وعلاقاته مع الغرب وايران وروسيا. كتب بشفافية اسلوبه عن الوجع القاتل العنيف، وعن رحلة التعذيب من مجازر حماه وصولا الى التعذيب في بيروت وعنجر، الى ما يحصل في سوريا اليوم.
جان بيار بيران سفير الانسانية الخاص لا يسرد الوقائع ويرمينا في وجع حوادثها فقط، بل يمر على الوقائع الساخرة، مثل قصة ناهد مصطفى طلاس عشيقة وزير الخارجية السابق رولان دوما التي كانت تعيش حياة الترف والبذخ في باريس حين كان والدها وزير الدفاع السوري يعدم الاف السجناء.
ويسلط الكتاب الضوء أيضاً على ثقافة “العصبية”، وعلى السياسة الخارجية الفرنسية الملتبسة، وعلى الآذان الصم التي لم تعر يوما موضوع التعذيب في العالم العربي اي اهتمام، الى درجة انه شعر بأنه يكتب على الرمل.
رلى معوّض / النهار