في شهر مارس من كل عام تحتفي الكنيسة بوجوه نورانية للقديس البابا كيرلس السادس والبابا المعلم الأنبا شنودة الثالث، والمتنيح طيب الذكر القمص بيشوﻱ كامل، ورجل الله القمص ميخائيل ابراهيم، وانضمَّ معهم القمص فلتاؤس السرياني لابس الاسكيم؛ والقمص بيشوﻱ بطرس ملاك الطريق الصحراوﻱ .
كانوا نورًا فوق منارة؛ وآنيةَ حكمةٍ؛ مقتدرين في الأفعال والأقوال، كشفوا لنا سر الحياة الجديدة؛ وحملوا الروح وصاروا به شهودًا أحياء للإيمان، مقيمين في النعمة المثمرة التي فاضت على جيل وأجيال… ألقوا بشباكهم وذاقوا العمق في البذل والإمحاء، فصار نورهم مشعًا إلى أقصى الأرض.. حافظين الوصية ومعبِّرين عن ما لا يعبَّر عنه… كل من رآهم رأى مسيحًا حيًا محبًا وديعًا مصليًا متواضع القلب .
ابتعدوا عن النفسنة الذاتية وتجردوا؛ فنقلوا لنا حياة الكنيسة الجامعة في غناها وعمقها وبساطتها وابتهاجها وفكر عموم آبائها… وقد أصبغ الله عليهم وقارًا وهَيْبة سماوية، أظهرت قوة الله التي فيهم والتي تضبط الكل. سندتهم الأذرع الأبدية وحملتهم على أجنحة النسور، ففاحت رائحتهم زكيةً كالناردين، وحلَّقوا بخِفَّةٍ وانطلاق؛ كونهم أفرغوا مساكنهم ليأتي فيها القوﻱ ليحيا ويعمل ويسكن. تخلصوا من نسبيتهم في مُطلقية المسيح، حاسبين أنهم كلا شيء؛ فصاروا نوافذ واسعة ومفتوحة على المجد الأسنى ومُطِلَّة على الفردوس. لذا اشتهروا بعشقهم للتسبيح والصلاة والقداسات والقديسين، وقد عرفنا لاهوتهم لاهوت التمجيد والسجود والنسك والمسكنة والدعة والوحدة وغنى الطِّيب الغامر.
حمل فكرهم اللاهوتي ملء حياتهم في صمتهم وكلامهم ومشورتهم التي حولت كل كيانهم باتجاه الفردوس الأبدﻱ.. لاهوتيين بالنية والعطية وخبرة الحياة والجهاد المستقيم… وأهم ما عُرف عنهم أنهم عاشوا ما قالوه (العمل والقول والسيرة)، في شركة صافية وحية؛ لم يكن فيها فصل بين الروحانية واللاهوت في الواقع والحياة، كثمرة عشرتهم الإلهية .
ولعل من يرى أيقونة وجوههم وشخوصهم؛ يلمس طوباويتهم وقداستهم في الثالوث القدوس، بنموٍّ لا نهائي في الصلاة التي كل من يصليها بالحق يصير لاهوتيًا. عشقوا المذبح وتعلموا معرفة اللاهوت من الكتاب المقدس؛ وتقووا بالسجود والأدب الروحي. أسسوا وبنوا ورمموا وصنعوا مستحيلات وعجائب أمام مضايقيهم.. وأساساتهم قد صارت في الجبال المقدسة، وجِدَّة عظمتهم تحمل ذكرى عرق محبتهم وإخلاصهم وسهرهم ونسكهم للأجيال كلها، حبًا وكرامة للاسم القدوس، وكأنها ملتحمة بالقرون المسيحية الأولى؛ حين كانت الكنيسة تُبنَى من الداخل والخارج وكان الرب يتمجد ويضم إليه الذين يخلصون .
عندما نتطلع إلى وجوههم المنيرة نرى صورة واحدة للآباء عبر الأزمان والدهور في رزانة القديسين ومسكنتهم وأمانتهم وصداقتهم للروح القدس؛ ومعاينتهم للحب الإلهي… لقد شاهدناهم ورأينا صلاتهم تخرج من أفواههم بكلمات من نور تُبهر الروح وكأنها أجنحة مفرودة تطير عليها القلوب وتشتهي لو أن لا تحطّ على الأرض أبدًا… وإني لموقن أن صلاتهم وقداساتهم وحركات أجسادهم ومَحياهم كانت صورة لقلوبهم الصارخة لطلب معونة النعمة ليلاً ونهارًا.
لقد كان كل منهم تحديدًا باكورة حصاد مقدم للرب؛ تبارك به الحصاد والقطيع والجيل كله، بعد أن تلمذوا قادة كثيرين أثروا العمل الكنسي المعاصر، وتخمَّرت بهم نعمة جزيلة سَرَتْ في دورة العمل الإلهي… ونقلوا تسليمًا أغنى حاضرنا برحيق الأولين؛ وقد نفضوا الغبار عن ممارسات بالية، بنموذج اقتدائهم سواء في الرهبنة والخدمة والكرازة والعمل الرعوﻱ.
إن كل من يمدحهم يمدح الصلاة والإنسكاب، يمدح التقوى الحقيقية والأبوة، يمدح التَرْك وغيرة الهِمَّة الروحية الحسنة، يمدح النسك والفضيلة والبَنَّاء الحكيم، يمدح رعاية الخروف الضال والفقير والمحزون والمتروك، يمدح خدمة التأسيس وصنع الخير وأعمال الرحمة، يمدح خدمة التسبيح والسجود والتمجيد والتعبد .
ويا للعجب؛ فقد أناروا جيلنا وكانت لهم علاقة وثيقة ببعضهم البعض في حياتهم، لأن المثيل يستريح إلى مثيله، وهم الآن أحياء عند إله الأحياء؛ يطلبون من أجل كنيستهم كي يُغنيها الله من خيراته الكاملة، ومن أجل شعبهم كي يرحمنا الله كعظيم رحمته .