تمرّ وسائل الاعلام اللبنانية بأزمة خانقة، ربما هي الاقسى في تاريخها، باتت تهدد وجودها واستمراريتها، تتمثل بتراجع مداخيلها الى درجة اصبحت معها غير قادرة على دفع رواتب العاملين فيها، وراحت تحصر نفقاتها في الحد الادنى وتسرّح موظفيها كي لا تضطر الى اقفال ابوابها.
هذه الازمة لا تطال فقط محطات التلفزة التي رفعت صوتها اخيرا، بل غالبية الوسائل على انواعها، نتيجة تراجع المداخيل الاعلانية والازمة الاقتصادية.
اشتداد الازمة يلزم هذه الوسائل البحث عن مموّلين، ما يعني فقدان استقلالها واضطرارها الى تغيير سياساتها لمصلحة مَن يضمن لها استمرارها، مع ما يحمل ذلك من تهديد متنوّع للسيادة الوطنية ولخيارات لا تصب دائما في المصلحة الوطنية. وما مبادرة بعض محطات التلفزة لاستيفاء الرسوم من موزعي “الدش” الا تأكيد للازمة وضرورة البحث عن مخارج لها.
واللافت في كل هذا ان وزارة الاعلام لم تحرك ساكناً باعتبار ان الاعلام اللبناني هو اعلام خاص وتملكه شركات استثمارية وعليها تدبر أمرها. غير ان هذا الموقف الرسمي يتجاهل الدور الاساسي للاعلام في الدول الديموقراطية. اذ صار أحد اركان هذه الانظمة، وغياب الاعلام الخاص والمتنوع يهدد الحرية على انواعها، وبالتالي يهدد علة وجود النظام اللبناني الحر. عدا عن ادوار الاعلام على الصعد الاقتصادية والسياحية والثقافية وغيرها.
ان الضرر الذي يلحق بلبنان جراء غياب هذا الاعلام هو أكبر بكثير من بقائه. وصمت الاعلام يعني غياب الدور النقدي والرقابي والتعددي الذي يقوم به، ويهدد بتمرير سياسات خطرة ليس اقلها احادية الرأي والهيمنة الفكرية والسياسية. لذلك فان الحاجة ملحّة الى التحرك من اجل انقاذ الاعلام والبحث معه عن تمويل داخلي يضمن استمراره. وهذا ما تفعله غالبية الدول الديموقراطية التي تدعم وسائل اعلامها بطرق عدة، كاعفائها من الضرائب، وتقديم مواد أولية لها وفرض ضرائب على قطاعات مختلفة يعود مردودها للانتاج الاعلامي والثقافي…
ففي فرنسا بلغت تقديمات الحكومة للصحافة المكتوبة خلال العامين (2012 – 2014) حوالى خمسة مليارات يورو، بغية المحافظة على دورها امام هجمة الاعلام الجديد. عدا الموازنات الضخمة التي تخصصها السلطة للاعلام العام، من محطات تلفزة واذاعات محافظة على التنوع والتعدد. فحرية الاعلام ومهنيته لهما اثمان لا بد من أن يدفعها احدهما، ومن الافضل ان يكون المصدر معروفاً.
ويعود السؤال: كيف ننقذ الاعلام اللبناني؟
طبعا المسؤولية الاولى تقع على السلطة التي عليها البحث حثيثاً في مداخيل تدعم هذه الوسائل، ومنها ضريبة على موزّعي “الدش”، ولو كانت متواضعة. كذلك ضريبة على التقنيات الرقمية، سواء موزّعي الانترنت أو موزّعي الهاتف الرقمي او ضرائب متواضعة على السلع الاعلامية. في الكثير من الدول الاوروبية هناك ضريبة على كل منزل من أجل تمويل وسائل الاعلام العام ومن اجل انتاج برامج راقية في التلفزيون، وهذه الضريبة تتخطى مئة يورو سنويا عن كل منزل.
المسؤولية الثانية تقع على هيئات المجتمع المدني التي عليها أن تتحرك من اجل هذا الهدف، لأن غياب الاعلام هو مقدمة لغياب المجتمع المدني. فهذا المجتمع يستمد قوته الكبرى من وسائل الاعلام، ودفاعه عنها يعني دفاعا عن ذاته.
كما تقع المسؤولية ايضا على المؤسسات الاعلامية كي تقنع الجمهور بمساعدتها ببرامج راقية، والا فان الجمهور اللبناني سيتحول أكثر فاكثر الى الاعلام الخارجي، الذي يغزو فضاءنا بمئات المحطات التي تتنافس على جذب الجمهور اللبناني. لذلك فالاعلام اللبناني مدعو بدوره الى التفكير في خفض نفقاته، كما مشروع التغطيات الموحدة للنشاطات، ومدعو اكثر الى دراسة الجدوى من عشرات المحطات التلفزيونية والاذاعية التي تعجز السوق اللبنانية عن اعالتها.
انها دعوة الى البحث جدياً في كيفية انقاذ الاعلام اللبناني، وفي غياب النقابات الفاعلة في هذا الميدان، يبدو من واجب وزارة الاعلام أن تتخذ المبادرة للبحث عن الحل.
عميد كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية
النهار