إلى نديم وباسم والكثيرين
خلق الله الإنسان، وفق التراث المسيحيّ، “حرًّا، عاقلاً، ناطقًا”. ميّز الله الإنسان عن باقي المخلوقات بأن جعله على “صورته ومثاله”، فتكون هذه الأقانيم الثلاثة: الحرّيّة والعقل والمنطق هي صورة الله في الإنسان. أمّا إذا انعدمت هذه الثلاثة فيبطل أن يكون الإنسان إنسانًا.
دعا الله الإنسان إلى استثمار المواهب التي خصّه بها في سبيل الخدمة، خدمة الإيمان وخدمة الإنسان، “وأمّا من جهة المواهب الروحيّة… فإنّه لواحد يعطى إظهار الروح للمنفعة. فإنّه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم، ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد…” (كورنثوس الأولى 12، 1-11).
كلّ موهبة نافعة يختصّ بها الإنسان هي موهبة روحيّة، مصدرها الروح القدس، لذلك هي تُنسب إليه فتُسمّى روحيّة. أمّا موهبة الروح القدس، وفق اللاهوت الأرثوذكسيّ، فليست سوى الروح القدس نفسه. ذلك أنّ الروح القدس يهب نفسه كاملاً لا بعضًا منه، فهو الجوّاد الجائد بأفضل الذوات، أي بذاته. عطيّة الله غير قابلة للتبعيض ولا للتجزئة.
يخطئ إذًا مَن يجعل تضادًّا أو تناقضًا ما بين العقل أو العلم من جهة، والإيمان من جهة أخرى. فالمؤمن مدعوّ، بمقتضى الإيمان، إلى استعمال كلّ ما يمتلكه من مواهب وطاقات عقليّة وجسديّة وروحيّة في سبيل خير البلاد والعباد. من هنا، يسعنا القول إنّ العلم موهبة من الله إذا ما استثمر في سبيل خير الإنسانيّة وخدمتها الفضلى.
لا ننتبه أحيانًا إلى أنّ الله حين منح المواهب للبشر إنّما جعل الإنسان بالموهبة التي منحها إيّاها شريكًا له في تجديد الخليقة وديمومتها. فالله سلّم الإنسان الأرض وما عليها أمانةً ليرعاها وينتفع منها ويدبّرها أحسن تدبير، لا أن يفرّط بها فيجعلها خرابًا يبابًا. الإنسان مدعوّ إلى أن يعمل عمل الله على الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
يرينا تاريخ الإنسان مع الله أنّ ثمّة أشخاصًا استطاعوا عبر استعمالهم مواهبهم أن يحقّقوا عمل الله في الأرض، إلى حدّ اجتراحهم العجائب. ليس المقصود، هنا، بلفظ “عجائب” ما يتعارف عليه المؤمنون من معجزات، وبخاصّة معجزات شفاء مستعصية، يقوم بها القدّيسون. ألا يسعنا اعتبار اكتشاف عقار جديد لمرض مستشرٍ يشفي ملايين من البشر بمثابة أعجوبة عظمى؟ أليس اكتشاف عقار جديد يشفي الملايين أهمّ بما لا يقاس من أعجوبة يجريها أحد القدّيسين، على الرغم من أهمّيّتها، ويشفى بموجبها شخص واحد؟ أليس القضاء، بفضل الطبّ، أي بفضل العلم، على وباء يقتل الملايين، أهمّ من أن تحدث أعجوبة خارقة للطبيعة والقوانين الطبيعيّة قد لا يكون لها أي نفع للبشريّة؟
لقد خصّ التراث الكنسيّ الأطباء على سواهم من أصحاب المهن، أو الرسالات لـمَن شاء أن تكون مهنته رسالة، بتذكيرهم أنّهم عبر موهبتهم التي صقلوها بالعلم والمعرفة والدرس والسهر والتخصّص، يستطيعون أن يصبحوا شركاء لله في الخلق. فالأطباء هم أكثر خلق الله تماسًّا مع اللحظات المصيريّة التي وفق قراراتهم الآنيّة تقرّر حياة الإنسان أو موته.
الأطباء صانعو عجائب حين يرى فيهم المرضى يدَي الله الواهب الشفاء بواسطتهم. هم صانعو عجائب حين يشاركون في تجديد الخليقة، إذ يعيدون الحياة إلى جسد بلا ريب مائت بعد حين يقصر أو يطول. يكفيهم قداسةً أن يبثوا الرجاء والمحبّة في قلوب المرضى. يكفيهم قداسة أنّهم السبب في جعل المرضى يشكرون الله ويمجّدونه على شفائهم الذي تمّ على أيديهم.
ليبانون فايلز