15 حزيران 2015
يصاب من يقف أمام تلك الصور بجمود قسري، يفرضه تمزّق يصيب الوعي والزمان والمكان، ليبعث في العقل وجوداً مختلفاً ضمن حدود زمنية ومكانية مختلفة تخص فقط ذلك الحدث الذي تدور حوله الصورة، وهكذا لا يعود للمشاهد وجود خارج ذلك الإطار، وترى نفسك في طرق غريبة تشبه ذاك اللبنان القروي الطابع، تجول بين الخرب المنكوبة فتسمع أنيناً خافتاً تطمره الدموع واليأس، فيما الموت يجول باحثاً عما تبقى من أنفس حية يخطفها بعدما تلذذ الشرّ طويلاً بعذابها. وكأن ثمّة من اتخذ قراراً بالاجهاز على الحياة في جبل لبنان، فالجثث الحية في الصور تخاطبك… تؤكّد لك ذلك. هناك من تئن في ناحية، صوتها خافت جداً يقارب الهمس، والحق أن ضجيج العالم لن يستطيع صم أذنيك عن سماعها. هي ملقاة على الأرض وفي حضنها طفلان جائعان، نبشت شعرها ومكثت تتوسل الموت أن يأخذها وطفليها بعدما سئمت الجوع وعصر الطفلان ثدييها المكشوفين يومياً لعلها تخرج منهما نقطة حليب. وفي ناحية أخرى تحتضر أمام ناظريك طفولة فتاة لا يتجاوز عمرها الـ14 عاماً، وهي تحفر قبراً لأخويها الصغيرين لدفنهما.
ولن يكون المرور سهلاً أمام تلك الشابة العارية، سيكون عليك التدقيق جيداً بتقاسيم جسدها النحيل ليتبين لك جنسها، بعدما أخفى الجوع كل ملامح أنوثتها. هي عارية تماماً وغير آبهة بالرجل الذي يقوم بتصويرها، ففتات الخبز الذي تلتهمه بنهم أهم من ستر عريها، فالعثماني لم يصادر الحنطة فقط بل الملابس أيضاً.
ويحتفظ ذلك الرجل الذي شنق نفسه يائساً أمام عتبة منزله فوق جثث أطفاله الجياع الذين توفوا أمام عينيه وهو عاجز عن إطعامهم، بالضربة الأقوى لكل من زار معرض الصور المتعلقة بالمجاعة الذي أقيم في حرم العلوم الانسانية في الجامعة اليسوعية، اختصر هذا الرجل بشخصه يأس شعب ترك وحيدا ليواجه الموت عمداً، وهو يشكّل اليوم صرخة الضمير لدى كل من ينكر سياسية التجويع الممنهجة التي فرضها العثمانيون على الجبل، متسببين بموت 250 ألف لبناني من دون ان تلتفت الى ايحاء ذكراهم لا الدولة اللبنانية ولا الكنيسة المارونية التي شكل 9% من هؤلاء رعاياها وأبناءها.
ويأتي السرد الخاص بهذا الجزء من الصور التي تشكل جزءاً من مجموعة أوسع، على هامش المعرض الخاص بالمجاعة في ذكرى مرور 100 عام على المجاعة، بتنظيم من رئيس الجامعة اليسوعية الأب سليم دكاش وليلى كنعان عيسى الخوري ابنة المؤرخ الراحل ابرهيم نعوم كنعان. ويتألف معرض الصور من مجموعتين الأولى خاصة بالآباء اليسوعيين، والثانية خاصة بكنعان. وتولى أستاذ التاريخ في الجامعة كريستيان توتل التحدث عن مجموعة الرهبنة اليسوعية مشيراً الى أنه قام مع الأب اليسوعي بيار فيتوك طوال أربعة أعوام “بقراءة آلاف عدة من الوثائق التي لا يمكننا عرضها كلها، وقد قررنا حجب بعضها، خصوصاً أننا كنا نعمل على الأرشيف الخاص بالآباء اليسوعيين، الذي يتضمن كل ما كتبوه في دفاترهم الخاصة وليس فقط الرسائل التي قاموا بإرسالها للآباء الفرنسيين او للعثمانيين. وتتضمن هذه الرسائل أسماء واضحة جداً لأشخاص شاركوا في التجويع أو في الاضطهاد وهم نوعاً ما عملاء”. أما عن سبب حجب أسماء هؤلاء فقال: إن نشر هذه المعلومات لا يخدم التاريخ ومن شأنه أن يثير النعرات الطائفية، خصوصاً أن الجوع لم يصب كل اللبنانيين، فالمجاعة ضربت جبل لبنان الذي كان مكوّناً بأغلبيته من المسيحيين. ويقال إن اعداد الذين ماتوا نحو 200 ألف شخص، 90% منهم كانوا مسيحيين. جاع المسلمون والدروز طبعاً، لكن لم تصبهم المجاعة كما أصابت سكّان جبل لبنان”. وأضاف: “أصبح من الواضح أننا عاجزون عن الاتفاق حول مستقبلنا فلنتفق على الأقل على ماضينا. ومن هذا المنطلق أقول إن مجاعة 1915 توحّد اللبنانيين، فما من لبناني إلا واضطهد تحت الحكم العثماني الى أي طائفة انتمى”.
وتحيي الجامعة ذكرى المجاعة في طاولات مستديرة ومحاضرات، وكتاب طبعته ومعارض متفرقة أقيم أولها في بيروت في أيار 2014، ثمّ في باريس، وهي تحضر حالياً لمعرض في المكسيك، فيما يتألف أرشيف الآباء اليسوعيين من 500 لوحة. وأوضح توتل أن “الناس يصابون بالدهشة لدى رؤية الصور، ومن اللبنانيين من لا يعرف شيئاً عن المجاعة، فقد كان هناك طمس للحقائق تتحمل الدولة مسؤوليته. فمنذ العام 1915، أو منذ انشاء دولة لبنان الكبير، لم تأخذ أي مبادرة لإحياء ذكرى هؤلاء في يوم وطني. ومع احترامي الكبير للإبادة الأرمنية لكن أيعقل قفل المدارس اللبنانية في ذكرى الابادة الارمنية في حين أن الصفوف لم تتوقف دقيقة صمت واحدة في هذه المدارس على أرواح أجدادنا الذين توفوا من الجوع؟ على الدولة تحمّل مسؤوليتها في إحياء ذكرى بهذا الحجم”.
مجموعة كنعان
ويرتبط المعرض في شكل مباشر بمجموعة كنعان، اذ يضم 20 صورة منها وكلها مأخوذة، وفق حفيد كنعان إميل عيسى الخوري، “بين منطقتي بيروت وجبل لبنان، لا نملك اليوم معلومات دقيقة عن المناطق والقرى التي تم التقاط الصور فيها، لكن ما نحن أكيدون منه أن المشاهد تعود الى متصرفية جبل لبنان وبيروت”. ولفت الى أن “هذه الصور محزنة جداً وتكشف عمق المأساة في العائلات التي عانت من المجاعة، ويبدو من صور الاطفال والأمهات أنهم ينازعون. كان جدي آنذاك مدير الجمعيات الخيرية في متصرفية جبل لبنان، وبحكم عمله تمكّن من مساعدة بعض سكان الجبل، وكان يستطيع خلال الليل تهريب بعض أكياس الحنطة وتوزيعها في المناطق التي كان يمكنه الوصول اليها. وبما أنه كان يجيد استخدام آلة التصوير فقد التقط بعض الصور، وقام حتماً بعمل جبار، فلو تم ضبط هذه الصور من قبل الجيش العثماني لكان أعدم فوراً لأنها صور خطرة عن تلك المرحلة”.
وتبلغ مجموعة كنعان “نحو 25 صورة، 20 منها لا تزال في حال جيدة وقد قمنا بعرضها بعد ترميمها، وكانت هذه خطوة مهمة جداً للمحافظة على هذا الإرث وعرضه على اللبنانيين. سوف نقدّم لوحات المعرض المستنسخة عن الصور الأصلية الى الرهبنة اليسوعية كي تحتفظ بها في أرشيفها، فتشكل مادة بحث غنية لأي طالب أو باحث يرغب في اجراء دراسات عن هذه الحقبة”.
النهار