قد يتساءل البعض: لم أصدر البابا فرنسيس رسالة عامة – ولربما كانت أكثر الرسائل انتظارًا في العقد الأخير – عن البيئة؟! أليست البيئة موضوعًا ثانويًا بالنسبة للمؤمن؟ أوليست موضوعًا ثانويًا في زمننا المعقد والمليء بأوليات أخرى؟ ألا يجب أن يكون إرشاد البابا متمحورًا حول حياة الإنسان الروحية؟
إذا ما نظرنا إلى الصفحات الأولى من الإرشاد الرسولي، نرى كيف أن الأب الأقدس يوضح ترابط علاقتنا بالبيئة بنظرتنا إلى هوية الإنسان. فالإنسان ككائن مخلوق وروحي هو، بادئ ذي بدء، كائن متجسد، يعيش في العالم، في التاريخ وفي واقع الجسد. هو ليس فقط روحًا وإرادة، بل هو أيضًا طبيعةً وجسد.
وليس البابا فرنسيس أول من تطرق إلى هذا الموضوع. فعلى سبيل المثال، سبق وتحدث عنه بندكتس السادس عشر عندما قال أن الخليقة تتعرض للخطر كل مرة يزعم الإنسان أن له فيها السلطة النهائية والمطلقة، وحين يعتبر أن الأشياء هي ملكه وأنها موضوعة لاستهلاكه وحسب. هذا الموقف من الخليقة ليس مجرد موقف استهلاكي، بل هو يشير إلى واقع وفهم روحي مغلوط لموقع الإنسان في الخليقة. فبدل أن يرى نفسه كخليقة الله، يتصرف كأنه خالق ورب. ولذا فللموقف البيئي أصداء وأبعاد روحية هامة.
هذا وإن موقف الاستهلاك غير المسؤول لموارد الطبيعة يؤدي إلى تبدل خطير في المناخ وهذا ينعكس بأشكال عديدة على الحياة في كوكبنا، وعليه فالمسألة البيئية ليست فقط مسألة متعلقة بالأشياء، بل لها تأثيرها المباشر على البشر، وخصوصًا الفقراء منهم. ولذا لا يبالغ البطريرك برثلماوس عندما يعتبر هذه التصرفات أي هذه الجرائم ضد الطبيعة كـ “جريمة ضد أنفسنا” وكـ “خطيئة ضد الله”.
الرسالة العامة “كن مسبحًا” ليست نشيدًا وثنيًا لـ “الأم الأرض” المعروفة باسم “غايا”. هي نشيد المخلوقات، الذي يتلوه الإنسان، خليقة الله، تسبيحًا لخالقه. الرسالة العامة هي مسيرة لتجاوز الجشع، الأنانية، الانغلاق، الاستهلاك غير المسؤول لعيش حياة روحية مترسخة في سر التجسد، في نظرة كتابية للعالم والطبيعة والإنسان.
إن “ثقافة الهدر” كما يسميها البابا (عدد 20) ليست فقط مرتبطة بالموارد الأولية بل هي موقف مستهتر وأناني يؤدي إلى تلوث سيكون له مع الوقت أثار كارثية على قابلية كوكبنا للعيش الصحي. وهذا التدهور يؤدي ليس فقط إلى مشاكل بيئية بل إلى تفكك اجتماعي بحيث يرجح بعض الدارسين أن حروب المستقبل ستكون بشأن المياه نظرًا للاستهلاك غير المسؤول.
إنجيل الخليقة
أمام هذه النظرة الاستهلاكية للطبيعة والأرض، يقدم البابا النظرة اللاهوتية للبيئة، نظرة “إنجيل الخليقة”. فمنذ الفصول الأولى من الكتاب المقدس، نرى أن الوحي الكتابي لا ينفك يربط بين العلاقة بالخليقة والعلاقة بالخالق. لله رأيه ومشروعه بشأن الخليقة، ولذا فلعلاقتنا بالخليقة بعد لاهوتي لا محالة.
وسفر التكوين يبين لنا أن العلاقة المتردية مع الخليقة هي ثمرة الخطيئة واستمرار لمفاعليها، ولذا فالعودة إلى علاقة سليمة مع الخالق تمر لا محالة بعلاقة إيجابية مع الخليقة. والقديس بونافنتورا يذكرنا بأن القديس فرنسيس الأسيزي، عبر المصالحة الشاملة مع المخلوقات قد عاد بطريقة أو بأخرى إلى حال البراءة الأصلية (عدد 65).
دعوة الإنسان نحو المخلوقات بحسب الكتاب ليست الاستهلاك، بل “الحراسة” (راجع تك 2، 15). هذه الحراسة التي تعني الحماية، العناية، الحفظ والسهر هي طاعة للخالق وبالتالي هي عمل روحي رغم “أرضيته”. ومن هنا نلاحظ أن راحة اليوم السابع (والسنة السابعة) ليست فقط للإنسان بل للخلائق كلها.
من خلال علاقته مع باقي المخلوقات يفهم الإنسان نفسه أكثر ويعي كيانه في حضرة الرب. فقد صدق بول ريكور عندما كتب: “أنا أعبّر عن ذاتي عندما أعبّر عن العالم؛ وأكتشف قدسيتي عندما أفكّ شيفرة قدسية العالم”.
د. روبير شعيب / زينيت