باعلان الخلافة، استطاع أبو بكر البغدادي أن يعيد رسم خريطة الحدود الفاصلة بين الثقافة الفارسية وثقافة روما واليونان أي ثقافة البحر المتوسط، أذ ان هذه الحدود بقيت حوالى سبعماية سنة على حالها بعد اتفاق ضمني بين الرومان والفرس، ولم تتغير إلا مع الفتح الاسلامي الذي أزال هذه الحدود الثابتة وأعاد النظر في اتفاقات دولية سابقة.
العالم العربي والاسلامي يشهد اليوم موجة من الفوضى تستتبعها حتماً خارطة جديدة لدول المنطقة، لكن هذه الفوضى لا تشمل كل الدول بل تطال معظمها. فمصر مثلاً تشكل تجانساً ملحوظاً يأتيها من تاريخ طويل، أما الدول الأخرى فغالبيتها دول هشة الحدود وهي مهدّدة باستمرار بثورات داخلية عرقية أو مذهبية.
التاريخ حلقة تصاعدية تبدأ من الماضي لتلقي بظلالها على الحاضر والمستقبل، إننا أبناء هذا التاريخ المثقل بالأحداث والعبر وإن تردداته أصدق ألف مرة من كل المحاولات الهادفة الى جعل المنطقة العربية والاسلامية مساحة متجانسة لغوياً وعرقياً ودينياً.
نقرأ في التاريخ المشرقي أن هناك عواصم تاريخية تحوطها قفار وبواد تشغلها قبائل وعشائر واتنيات لم يهدأ أمرها ولم تسلم أدارتها لهذه المدائن الكبرى، ولو عرفت هذه العواصم استبداداً مركزياً (بغداد، دمشق، حلب… الخ) وسواها من المدائن، إنها جزر في محيط متحرك لم تصل اليه ثقافة الحضر بالشكل الذي يؤدي الى حال من الاستقرار. إنها مساحات تضم الكثير من العادات والقيم وأنماط حياة مختلفة، لم تعمل الدولة المركزية لاحقاً على صهرها في بوتقة المدينة وقبول شريعة القانون، بل ظلت على حالها وكأنها تطلع اليوم من البداوة وما فيها من ميل الى الثأر والسيف والتمرد.
إضافة الى هذه المساحات التي لم تدخل في أثر المجتمعات الحضرية هناك اتنيات ومذاهب ما زالت تعاند الانضمام والسير في منطق الأكثرية وسياسة النسق الواحد نذكر منها: الأكراد، التركمان، البربر، الدروز، العلويون، الشيعة، الموارنة، استطاع الاستعمار ان يلحق الأقلية بالأكثرية وأن يستغل الأثنين معاً تاركاً الباب موارباً على المناكفات والمواجهات والخصومات.
وحين نذكر بالخليفة الجديد للمسلمين فأننا نطرح سؤالاً وجيهاً عن شكل هذه الخلافة والمرجعية التي تستند اليها وآفاقها الفقهية والشرعية وعن حدودها وتوجهاتها الانسانية والحضارية، وعن طموحاتها. هل كلمة “خليفة” هي تسمية قانونية واضحة المفاهيم؟ في الشرع الاسلامي لا يجوز للخليفة إلا ان يكون عربياً ومن قبيلة قريش تحديداً، فهل استطاع الاسلام يوماً توحيد المفاهيم وصهر الشعوب التي دخلته؟ واذا كان الخليفة حكماً عربياً قرشياً، فهل يقبل به تنظيماً “البوكو حرام” و”الطالبان”؟ وهل تقبل الشعوب الأخرى المنضوية تحت لواء الاسلام حكم العرب؟ لذلك نجد أن “القاعدة” تتنصل من فلسفة الدولة الاسلامية، لأن قادتها لا يرغبون في سلطة مركزية وهم يرون في الدولة الاسلامية وفي الخليفة خروجاً عن المنطق والحكمة؟
هذه المتناقضات المستمدة منذ فجر الاسلام تشكل في حد ذاتها أسئلة اعطاها المفكرون الاسلاميون اجوبة متناقضة وملتبسة، ولم يتفق عليها كبار فقهائهم.
إن الصراع البارز والمفتوح اليوم بين الجهاديين الذين يحصرون الاسلام الحقيقي بهم وبين كل الفرق الاسلامية من شيعة وعلويين ودروز المتهمين أصلاً بالكفر والزندقة ما يطرح سؤالاً جوهرياً عن البيئة الفكرية بكل هؤلاء الجهاديين وقدرة استيعابهم حقيقة الاسلام وتعاملهم لا مع الخارج والمختلف، بل في قلب الاسلام المتنوع أصلاً والمحاور الرصين عبر العصور.
إن المصطلحات السياسية تختلف باختلاف مضامينها، فالقومية مصطلح سياسي يحمل امكانية المواطنة، ويضع حداً للفجوات الداخلية وتوتراتها. أما الأمة الاسلامية فمصطلح يعني البعد عن المواطنة والتفريق بين الناس وعزلهم، بل اصطيادهم لشبكته الخاصة والا اعتبروا اعداء يحل قتلهم.
المشروع الجهادي الاسلامي هو حكماً مشروع عالمي وليس مشروعاً وطنياً قومياً فما هو موقف المسلمين الوطنيين والقوميين والعقائديين وهم الأكثرية الساحقة، من هذا المشروع الانتحاري، وهو يحمل في ذاته مواجهة مستمدة ومتجددة مع العالم بأسره.
المسألة الأخطر في الدولة الاسلامية العابرة للحدود والأوطان هي في أنها مشروع خلافي كبير في مواجهة العالم بأسره، أنها بالفعل حرب عالمية، لأن الاسلام منتشر في بقاع الارض كلها، وإن لم يخرج المسلمون المعتدلون عن صمتهم وتخرج الدول الاسلامية من اللغة الملتبسة فان العالم سيذهب الى مواجهات مدمرة.
الخوري اسكندر الهاشم