نقلاً عن موقع التيار
لا يمكن لمن ذاق بهاء غريغوريوس حداد، أن يعصم نفسه من الانسكاب في زمن كان “الأسقف الأحمر”، محور جدل صاخب ليس في كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، بل في المدى المسيحيّ العربيّ فضلاً عن المدى الإسلاميّ الذي رأى فيه ذلك النمط الفريد في أسقف لم يشأ الانغلاق في حروفيّة مسيحيّة بل رأى في الإسلام مسيحانيّة متحرّكة تجسّدت في سورة مريم، وتجلّت على ضياء كثيف.
في لحظات ما قبل لقائي به، وما كان بعيدًا عنّي جغرافيًّا، تساءلت غير مرّة من هو يسوع المسيح، وماذا تريد الكنيسة من يسوع المسيح وماذا يمثّل المسيح لكنيسته؟ بعد لقائي به ترسّخت الرؤية أكثر فأكثر، يسوع المسيح لا يزال غريبًا شريدًا، في انكباب معظم الكنائس المسيحيّة على المجد والبذخ الفارغ، ونسينا أنّ مسيح المحبّة والرحمة ولد فقيرًا عاريًا في مذود بيت لحم، لأن والدته لم يكن له مكان تضع فيه طفلها، ومات على الصليب كغريب في قومه، ليأتي يوسف الراميّ ويقول لبيلاطس البنطيّ الوالي وبحسب التعبير الطقوسيّ، “أعطني هذا الغريب”. انتمى غريغوار إلى تلك الرؤية بالذات، جمع الناس إليها، خلافًا للمسرى الطائفيّ والتعصبيّ المغلق، لأنّها أدهشته وجذبته كما جذبت حركيين مسيحيين حاولوا الإصلاح في كنائسهم من جورج خضر إلى يواكيم مبارك إلى.. إلى.. وفهم أنّ مجد المسيح لا ينكشف إلاّ للذين أخذوا إلى فقره وبساطته وعرائه، والعراء هو الحقيقة الكبرى.
كان غريغوار مزيجًا من إنجيل ودنيا تولد من رحمه، لا بأس إذا كان لونه أحمر، فدم المسيح المهراق على الخشبة، أحمر قانيّ وأرجوانيّ، أي هو الثورة، ثورة المحبّة. الإنجيل ثورة الثورات في اختراقه حجب الزمان ولحم الكون ومساحة التاريخ. تلك الصفة لم نقتبسها من غريغوار حدّاد، ولا تدحرجت عن لسانه، لكونها قائمة في بداءة الرؤية وانبلاجها في كيانه في اللحظة التي وضع الإنجيل فوق رأسه. في الأصل، فهم هذا الرجل الطيّب بأنّ التجسّد الإلهيّ في حقيقته وجوهره أكبر انقلاب كونيّ في التاريخ كلّه، ورآه حقيقة مبثوثة وممدودة من الصليب في الكيان البشريّ ممسكة بمن تبتّل وأخلص لها، لأنّ الغاية أن تمتلئ الحضارات والثقافات والآداب والفنون من كيان المسيح. تمسّك الرجل بتلك الحقيقة وعمل على تجسيدها بدءًا من كنيسته، رافضًا أن يبقى الهيكل للتجارة والصيارفة، وتتحوّل الكنيسة إلى مؤسّسة دنيويّة تبغي الربح وتخلو من فكر المسيح وحقيقته المطلقة، فيما الزمان الحاليّ موغل بمسيحيّة لا تتحرّك بفكر المسيح.
تلك الرؤية عينًا المكنونة في عمقه تفسّر معنى لقائه بمجموعة عابرة للطوائف والطائفيّة، قائمة في فكر الله بعيدا عن القوالب الجامدة، وتفسّر انبلاج تلك الحركة عند المسيحيين من موارنة وأرثوذكس وكاثوليك، وشيعة وسنّة في ذروة التوق وانشداده إلى التحرّر من فساد التاريخ المؤسّس على زيف الطوائف.
هؤلاء ما كانوا ينتمون في حياتهم وجوهرهم سوى إلى حركيّة الله في الوجود والتاريخ. أسماؤهم مرصّعة بماء الذهب منحوتة على صخور جبالنا الشمّاء تحاكي السماء أو تنزل من فراديس المحبّة، تتجمّع في أجيال تولد كالقديسين وتصرخ كالأنبياء. في لحظات خاطفة وآثرة ما كان بالإمكان لأحد أن يفصل بين غريغوار حداد وموسى الصدر وجورج خضر ويواكيم مبارك وصبحي الصالح وشارل حلو والأب دوبريه لاتور وميشال أسمر وحسن صعب وحسين الحسيني وغسان تويني وبيار حلو وميشال إده… كانوا يسيرون معًا في بلوريّة الرؤية المنجيّة من موت عدميّ تربّص بنا وابتلعنا.
كان هؤلاء مدركين لخطورة الواقع انطلاقًا من المسّ بالأمن الاجتماعيّ، من مذبح الكنيسة إلى محراب جامع وحسينيّة، أليس الجوع والحرمان والفاقة مصادر للكفر كما هي مصادر للتكفير؟ أهميّة غريغوار حدّاد مع تلك المجموعة أنّهم بما يملكون من طاقات فكريّة ولاهوتيّة عالية وراقية وحصيفة حاولوا لمّ الشتات والحطام من الأزقة الغبراء بلوغًا إلى الجنوب وأحياء طرابلسس الفقيرة. لم تغوهم المؤسسة الدينيّة بقدر ما أغوتهم تلك المطارح السوداء، على الرغم من كونها جرحًا بليغًا، إلاّ أنّ الجراح تغري وتغوي الإنسان ليضع إصبعه عليها ويسكب فوقها الطيب.
تلك كانت رسالة المطران غريغوار حدّاد في كنيسته كما الإمام موسى الصدر في حسينيّته، تلك كانت أطروجة يواكيم مبارك في البحث عن الذات المشرقيّة والإنطاكية الملامسة للذات العربيّة والإسلاميّة بتوقها إلى مجتمع متكامل مبنيّ على ثورة المعنى، تلك كانت رسالة المطران جورج خضر في كنيسته مع حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في مواجهة الصنميّة الدينيّة…. غير أن المطران غريغوار حدّاد تفرّد بأمر واحد جاهد في سبيله وهو قيام مجتمع مدني وعلمانيّ. لا تحتاج مقاربة غريغوار إلى مناقشة في ظروف تشدّنا إلى الخلف، إلى جحيم القوى التكفيريّة، في ثقافة حروفها المغلقة وحروبها الجهنميّة المقفرة. ذلك أن معظم النخب الصادقة مع نفسها ترى حالها مسكوبة في ما رنا إليه المطران ورمى. لكنّ الصدق يقتضي القول بأنّ البلوغ إلى كمال الرؤية بحسب منطق الحبيب غربغوار الذي ودعناه على الرجاء، يجب أن ينطلق من داخل الكنيسة، ثورة المعنى مطلوبة الآن حتى تتحرّر الكنيسة من الحروفيّة والصنميّة الدينيّة، حتّى تتحرر من تمأسسها المغلق والمنتفخ حتى الكسل حينًا والإنتاج الأعمى أحيانًا باندراجها في رأسمالية متوحّشة على حساب الفقراء أحبّة المسيح. عند غريغوار الكنيسة في حقيقتها هي كنيسة الروح، والروح وحده يحدّد المعنى. الكنيسة عنده تنطلق من إنجيل الدينونة والتطويبات ليبقى المسيح وجهها وتظلّ عروسة له.
مأساة غريغوار حداد أنّه لم يفهم في الكثير من جدلياته، هناك من ظنّ أنه يشرك في الإيمان، والسؤال المطروح هل الاعتراف بوجود الإسلام ومودوديّة المسلمين شرك؟ في الحيّز الطائفيّ اللبنانيّ الميثاق قائم على شراكة بين المسيحيين والمسلمين فجعلت الشراكة الأرض اللبنانية أرض لقاء دائم ما بين المسيحيّة والإسلام.
وعلى الرغم من حروبنا التي انفجرت وشارك الأب غريغوار بالاعتصام ضدها مع الإمام موسى الصدر والمطران جورج خضر وغسان تويني، قلنا مع هؤلاء بأنّ الله حاشى له أن يتمزّق، وحده الغرب بدهريّته المطلقة وتأثرها وتماهيها بالمنطلقات اليهوديّة أخذه إلى التمزّق بابتداعه الحركات التكفيريّة، في عولمة عبثيّة قاتلة رفضها غريغوار رفضًا مطلقًا، واعتبر غير مرّة بأنّ ثمة تزاوجًا لا يمكن على الإطلاق إنكاره بين المسيحيّة والإسلام قائم ليس على ما هو مشترك بل على أنّ الإنسان في المسيحيّة والإسلام حبيب الله، فهل هذا شرك؟
لم يشرك غريغوار أحدًا في إيمانه المستقيم. بل ازداد دومًا استقرارًا في كينونة التجسّد الإلهيّ بلوغًا حتى الصليب والقيامة، وتصلّب غير مرّة بإيمانه المطلق بالثالوث القدوس. وهنا كانت الرؤية المسكونيّة عنده تنطلق دومًا من معرفة الذات، حتّى أنّه قال مرّة في مجلس خاص بأنّ الآباء اليسوعيين المستشرقين يعرفون عنّا أكثر مما نعرف نحن عن أنفسنا ويشرح دور الأب هنري لامنس الاسنشراقيّ الكبير في ترسيخ النهضة بتجلياتها، كما أحبّ كثيرًا صديقه الأب جان كوربون واعتبر بأن كتابه عن كنيسة العرب، المدى الصحيح لنضهة ذاتية تتوسلها الكنائس المشرقيّة والعربيّة في صياغة نهضة جديدة لذاتها كما لشركائنا المسلمين وشراكتنا بهم.
في الميلاد رحل “الأسقف الأحمر” إلى المذود السماويّ، شاء له ربّه أن يولد فيه فوق أن يتكئ على صدره في اللحظات النورانية الساطعة. لقد تحرّر من جراح الجسد المثخنة بعد واحد وتسعين عامًا. المفارقة التي لم ينتبه إليها كثيرون بأن هذا الرجل، لم يفارق السلام وجهه والابتسامة الرصينة ثغره، كان جبينه دومًا يفيض نورًا يضيء لجميع الأجيال الذين اغتذوا من أبوّته وإرشاده، في صحته ومرضه ظلّ مرشدًا لجيل من الشباب يفيئون إليه من كلّ الطوائف. أذكر أنّ صبية مسلمة اقترنت بشاب مسلم، رفضت أن تتم عملية الاقتران قبل أن يمد غريغوريوس حداد يده ويبارك الزواج ويطلب منهما الإخلاص لبعضهما البعض وفقًا لإيمانهم وبمحبة للجميع. رحل غريغوار إلى السلام ينشده مع المسيح المولود والمنتصر أبدًا، فسلام الله ورضوانه عليه فيما هو يجوز عتبات العرش الإلهيّ ونحن نواكبه ونشيعه إليه في العقل والقلب، وستبقى يا أيها الأب الصديق والطيب مطران المحبّة. والله محبّة.