في إطار مقاربة مصير الأقلّيات في المنطقة عموماً والأقلّية المسيحيّة خصوصاً، لا بدّ من التوقف عند الوضع المسيحي في إيران بعدما شهد هذا البلد تقلبات عدة بدءاً من إنتصار الثورة الإسلاميّة والدخول في الحرب الإيرانيّة – العراقية، مروراً بالعقوبات الغربية ووصولاً إلى الإتفاق النووي مع الغرب. وفي هذا الإطار كان لـ«الجمهوريّة» لقاء مع رئيس أساقفة طهران للأرمن الأرثوذكس المطران سيبوه سركيسيان، طمأن فيه الى الوجود المسيحي، وأنّ الصلبان مرتفعة ومضاءة وأنّ الأرمن والمسيحيين جزءٌ لا يتجزّأ من المجتمع الإيراني.
يوضح سركيسيان في مطلع حديثه أنّ «الوضع الإقتصادي قبل رفع العقوبات الأميركيّة والغربيّة عن إيران كان لا بأس به، واليوم أيضاً لا بأس به، لكنّ الشعب الإيراني يأمل أن تتحسّن الظروف المعيشية نحو الأحسن وأن تعطي هذه الخطوة نتائج إقتصاديّة ملموسة».
ينتفض سركيسيان لدى سؤاله عن أوضاع مسيحيّي إيران، ويقول: «هذا السؤال أسمعه كثيراً في لبنان وعند مشاركتي في مؤتمرات عالمية حيث يستفسر المسؤلون الغربيون عن أوضاعنا، وأستغرب هذا الأمر وكأنّ إيران دولة تضطهد المسيحيين، لذلك أؤكد «أنني راعي أبرشية طهران منذ 17 عاماً، ولم نشعر يوماً بأيّ إضطهاد أو تمييز بحقنا، فالأرمن والمسيحيون يمارسون طقوسهم الدينيّة بكلّ حرّية ويرفعون القداديس ويحتفلون بأعيادهم ولا يتعاطى أحد معهم أو يتعرّضون لأيّ تضييق». ويضيف: «الكنائس موجودة وترتفع عليها الصلبان مثل كنائس لبنان وهي مضيئة وتشعّ بالأنوار».
وينفي سركيسيان «منع السلطات الإيرانيّة المسيحيّين من إستعمال الخمر خلال قداديسهم، فنحن نصلّي ونتناول القربان المقدّس والدولة تتفهّم عاداتنا الدينيّة ونحن في المقابل نحترم قوانينها»، لكنه لا يخفي وجودَ بعض الممارسات «مثل إجبار النساء الأرمنيات على إرتداء الحجاب في الشوارع، وهذه مسائل نعمل على حلّها مع المسؤولين لكن في نوادينا ومقرّاتنا لا يتدخلون معنا».
ويشدّد على أنّ «علاقة المجتمع الشيعي والدولة مع الأرمن مبنية على الإحترام المتبادَل، فنحن في هذه الأرض منذ ما قبل المسيح، ونتكلّم الأرمنية ونعلّم اولادنا في مدارسنا بحرّية مطلقة وطبعاً نعطي الدروس الدينية في المدارس».
يتحدّث سركيسيان عن الواقع المسيحي في بلاد فارس، فيلفت الى أنّ الهجرة ظاهرة عالمية تضرب كلّ المجتمات، ويقول: «في طهران هناك 70 ألف مسيحي، 60 ألفاً منهم من الأرمن، وهناك الأرثوذكس والكاثوليك والآشوريين ومذاهب أخرى، إضافة الى حضور ماروني حيث هناك موارنة من آل الجميّل وهم أقرباء لعائلة الجميّل اللبنانية وتحصل زياراتٌ متبادلة بينهم وأنا ألتقيهم باستمرار».
«الثورة الإسلاميّة»
َيَشرح سركيسيان سببَ شعور الأرمن بالراحة في إيران وتمركزهم فيها، «فإيران وأرمينيا بلدان مجاوران ويجمعهما العرق الهندوأوروبي، والعلاقات بين الشعبين مستمرّة وإيران وقفت مع الحقّ خلال الحرب الأرمنيّة- الأذربيجانية».
عرفت إيران عصراً من الإنفتاح على أيام حكم الشاه، ومع إنتصار الثورة الإسلامية عام 1979 تغيّرت مسائل دينية واجتماعية، وفي هذا السياق يقول سركيسيان عن تبدّل أحوال المسيحيين بعد إنتصار الثورة: «في عهد الشاه كانت هناك حرّية مطلقة لكن من دون دين، فكانت جماعات من باريس مثلاً تقصد طهران للقيام بأعمال منافية للأخلاق، وكان هناك فساد أخلاقي كبير، وبعد الثورة الإسلاميّة أصبح هناك دين وإلتزام بالشرائع والأخلاق، وأنا كرجل دين مسيحي أرحّب بهذه الظاهرة وأدافع عنها لأنّه عندما تزول الأخلاق من المجتمع فإنّ هذا المجتمع ذاهب الى الإنحلال والخراب».
وعن حصة المسيحيين داخل التركيبة السياسيّة، يشير سركيسيان الى أنّ «لديهم 3 نواب: 2 أرمن وواحد آشوري، وهناك موظفون داخل الإدارات العامة ومستشارون للوزراء، ويتطوّع قسمٌ منهم في الجيش الإيراني لكنهم في معظمهم تجّار وأصحاب مصالح ولا يحبّذون كثيراً الوظائف».
ويكشف سركيسيان أنّ «النظام الإيراني يولي الأرمن إهتماماً خاصاً، والمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي الخامنئي يتحدّث كثيراً عنّا، وفي النتيجة نحن مواطنون إيرانيون وأبناء هذا البلد وندافع عنه ونعمل لتطويره».
وينفي سركيسيان تعرّض بعض المسيحيين للجلد بسبب إحتسائهم الخمر في إحدى المناسبات الدينية، «بالشكل الذي رُوِّج»، موضحاً أنّ «هناك قوانين خاصة بكلّ دولة، ففي السعودية مثلاً لا تستطيع المرأة الخروج بلا حجاب وتُعاقب، من هنا علينا إحترام القوانين الخاصة لا مخالفتها في كلّ البلدان».
«برج حمّود»
يشبّه سركيسيان تمركزَ الأرمن في طهران ببرج حمّود لبنان، «إذ إنّ مناطقهم متشابهة ويعملون في التجارة، ولديهم 3 مناطق أساسيّة هي: الوحيدية التي يقطنها نحو 15 ألف نسمة، زيتون التي تضمّ نحو 15 ألف أرمني، والساردابات نحو 5 آلاف ارمني، وهؤلاء يساهمون في نهضة الإقتصاد الإيراني».
يصيب مسيحيّي إيران ما يصيب كلّ المنطقة، حيث يرى سركيسيان أنّ خطر الإرهاب يطاول المسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء، لكنّ المسيحي يهاجر بسرعة بحثاً عن الأمان لذلك نقول لشعبنا: إبقَ في أرضك فنحن موجودون قبل الإسلام وتعايشنا مع المسلمين و»تآخينا هلالاً وصليباً» وسنستمرّ في العيش معاً».
وعن موقفه كرئيس أساقفة إيران من الإنتقادات التي تُوجَّه لإيران نتيجة تدخلها في المنطقة ودعمها جماعات مالياً وعسكرياً، يوضح سركيسيان أنّ «هذه قضايا سياسيّة وهناك دول تتدخل في شؤون دول أخرى وتدعم المسلّحين، مثلما يحصل في سوريا من دعم خليجي لـ«جبهة النصرة» وميليشيات إسلاميّة أخرى، فيما «حزب الله» حزب لبناني ولديه مبادئ وإلتزامات وشعور وطنيّ ويحاول الحفاظ على التوازن في لبنان على رغم ميله نحو إيران».
في النهاية، يُبدي سركيسيان أسفه لما يتعرّض له مسيحيّو الشرق وللفراغ في سدّة الرئاسة اللبنانية، ويدعو المسيحيين الى «العمل بعضهم مع بعض لإيجاد الحلول التي تنقذ الكيان اللبناني وتحافظ على المسيحيين فيه».
ويتأمّل خيراً من المصالحة المسيحية التي حصلت بين رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ورئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون، داعياً الموارنة الى «لعب دور قياديّ ومعتدل وجامع بين مختلف الأطراف كما كانوا دوماً».
الجمهورية