شريط الأحداث
أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | “ظلماتي في خدمة الشمس، تلك أوجاعي. حَرْق النار لتصبح نافذة” “كان هذا سهواً” لأنسي الحاج: الاختمار الصافي لا تبدّده سماء
“ظلماتي في خدمة الشمس، تلك أوجاعي. حَرْق النار لتصبح نافذة” “كان هذا سهواً” لأنسي الحاج: الاختمار الصافي لا تبدّده سماء
أنسي الحاج

“ظلماتي في خدمة الشمس، تلك أوجاعي. حَرْق النار لتصبح نافذة” “كان هذا سهواً” لأنسي الحاج: الاختمار الصافي لا تبدّده سماء

تشبه نصوص أنسي الحاج المنشورة في كتاب “كان هذا سهواً” (نوفل- هاشيت أنطوان) الاختمار المذهل بالوهج والحكمة. شاعرٌ لا يكفّ المرء عن النظر إليه بهيبة تليق بقلّةٍ حضورها لا يأفل. يترك في المجموعة المنشورة بُعيد عامين على رحيله، خلاصة الرؤية الصافية إلى الإنسان والعقل والسلوك والأدب. كأنّ في النصوص، وهي هنا شذرات مقلَّمة بعناية خلّاق، طريقاً طويلة تفضي إلى الذروة. هي طريقٌ بحجم حيوات كثيفة وعمر لا يذبل. روح الشعر تجترح بدايات جديدة وإن غاب البدن، والعظماء كالغيوم، لا تبدّدهم سماء.

كالقطرات الرقيقة المنهمرة، تروي كتابات أنسي الحاج. تحفر وتبقى. كأنّ البلوغ هنا أقصاه، والمعرفة والوعي والحكمة. لا تتولّى الشذرة دور الوعظ. لا تنحرف أُنملة عن كثافتها. ولا ترتبك بهاجس قُرب الأجل. تبدو كالأقمار وهي تكتمل في فضاءات شاسعة. وكالعطاء المستمدّ من البحر، بدرره ولآلئه ومنطق الأمواج الهادرة. لا يناقض هدوء الشذرة الضجيج الوجودي الكامن فيها. يفسّره بأناقة. ويمنحه ندرة التميّز. أنسي الحاج ولاّد إشكاليات وصنّاع أسئلة القلق. هدّام على طريقة نيتشه، وخلّاق على طريقته الخاصة. يتخلّى في “كان هذا سهواً”، بعض الشيء، عن مطرقته الجميلة. يرسلها إلى الاستراحة، ويتابع التأمل. وفي لحظات، يستلّها فلا يترك حجراً فوق حجر. في الميتافيزيك والدين والذات والسلوك والأدب والفن والحبّ. وفي الإنسان ليس بكونه مثالاً غير قابل للتفكك، بل عُرضة للانتهاك والهفوة والارتفاع والسقوط والتفوّق والفشل.

الخلق والموت والمداعبة
يطلّ من باطن الشذرة صوتٌ يحاكي الطبيعة الإنسانية. بثباتها وديمومتها واحتمال أن تُحرق ولا يبقى منها سوى المادة الأولى والقدرة الجبّارة على اجتراح الحياة والعبور خارج الصيرورة: “سيبقى على الإنسان بعد أن ينتصر على حدود المكان والزمان أن ينتصر على حدود ذاته”. لا تُبقي المجموعة حروفاً من غير نقط. تعيد الوضعيات إلى نصابها والمعاني إلى صواب القصد. لا يمكن كاتبها أن يُحتضر. أو أن يموت بسوى الجسد. لن يكون ممن يختبئون بظلال الله بذريعة النجاة من الخوف، ولا ممن يستحضرون الملائكة في لحظة انخطاف أخيرة. أنسي الحاج حين لم ينتظر الله، جاءه ورفض المغادرة. يرى في الاعتقاد بوحدة الكون نفياً لعبثية الحياة التي ظنّها شكسبير صخباً تمثيلياً بلا معنى. يحفر في التابو المؤلَّه. يجرّده من ذعر المساس به. يعرّضه للشكّ والنقد والأسئلة. يكتب: “يصوَّر الله أنّه العارف العليم بالغيب والأقدار والذي لا قبله ولا بعده. الجبّار الأكبر والعلّامة الأكبر. ألا يُمسي بهذا اليائس الأكبر وسجين الوحدة المطلقة؟ شهيد وعيه ولا مفاجأة؟ نفهم عند ذلك أن يقبل بأن يسلّيه الشيطان بحكاية امتحان أيوب، وتظهر الخلائق لديه دمى، ابتُدعت لتموت، لا لأنّ الموت شرط الحياة، بل لأنّ الموت التذاذٌ للخالق، أما الحياة فسلوى تمهّد للموت كما هي المداعبة تمهيد لما بعدها”.
أنسي الحاج حفّار الأغوار. يتساءل حيث ينتظر الآخرون الصمت، ويفكّر حيث يجدر الإذعان المطلق. فيلسوف القصيدة المكتوبة من أجل عبرة وهدف. المنشورة لتُورِّط العقل وتخربط المسلمات وفق فلسفة ديكارت لحظة تمجيد الشكّ. خذ نموذجاً صارخاً بحقيقيته: “عندما انتقلت البشرية من الوثنية إلى التوحيد، كانت المرأة الخاسر الأكبر. لقد انحصرت الألوهة في إله واحد لا ريب في ذكوريته، على الأقل من الناحية اللغوية”. سيمون فايل تقول إنّ الله لا يمكن أن يكون حاضراً في الخليقة إلا في شكل الغياب. الله أنسي الحاج “أغلب الظنّ” كائن قبل الأجناس، فوق الأجناس، ما بينها وما وراءها: “ليس محازباً لجنس ضدّ جنس، ولا يحقّ لجنس أن يدّعيه ويحتكر بنويّته”. ذلك تكثيف مبهر بدلالاته، عارف مقاصده، واضح في الإشارات والحسم. هكذا هي شذرات الكتاب. لا تقف معها على انزلاق أو إضافة. مقطَّرة كالمثلّث من العرق. وهّاجة كعظمة شمس ليس لها حضن.

الغياب منتشراً في قيلولة السكون
مذهلٌ في شعر أنسي الحاج توغّل قصيدته في الذات، تفكيكها، ولِمَ لا، جلْدها وبلوغ النشوة. في مجموعته هذه، هو فيلسوف حكيم أكثر منه مبحراً في الأحاسيس، مذعناً للتقلبات والأمزجة. لكنه سيظلّ كاتب الجماليات بالفطرة لا بالتعمّد والافتعال، بالروح الحرة لا بقيد اللغة وسجون الإنشاء. من بديع ما نقرأ، وهو كثيرٌ غزيرٌ متّقد: “ظلماتي في خدمة الشمس، تلك أوجاعي. تحويل شياطيني إلى شموع. حَرْق النار لتصبح نافذة، نهراً. (…) لم أعرف غير سماء الليل. في النجوم رأيتُ البلاهة والفزع. لم أستكشف غير سماء الليل. تلك الصحراء المضيئة كئيبة في العدم. أعطيتُها اندفاعة النهار. نفختُ فيها شمساً. نظّفتُها من نجومها المسلولة. أنسيتُها وحشة عدمها وصارت تحبني. وصارت تنتظرني. وشيءٌ من أحلام طفولتي تحقق. شيءٌ يتعلّق بالشرّ. بالمجهول. بوقت للإله لا يرى فيه أحداً غيري”. هذا شعرٌ عن مرّات ينهار فيها كلّ شيء، فتتوتّر الحياة وتتضع وتُفلت وتضيع وتُؤكل، ولوهلة لا يبقى منها ما يُذكر. يتوقّف أمام اللحظة مفتوناً بها، مبتهجاً بالقبض عليها واعتبارها بمثابة عمر لا يدرك الفناء. اللحظة الشعرية عند أنسي الحاج هي الامتلاء الجارف من دون تعب الأيام وضجر الزمن. وفي ومضة مكمِّلة، هي الخواء العميق في داخل النفس، والإقامة في الخوف والوجع واستدعاء الزوابع كلّ فجر. “ستذهب إلى مكان تُسمع فيه روحكَ أكثر. ينتشر غيابكَ في قيلولة السكون، ملغياً حسّ الحدود”. وفي الشذرات، شاعرٌ يلحّ لينحرف العقل عن الصراط ويخربط أمر اليوم: “كونوا أيها العلماء شعراء أيامكم”. بالغرائز الحرة ونقاوة الهواء. وبالدموع التي تعيد الأمان للشارد، واللحظات القصوى، ومثلها تلك الدنيا، لحظات الأسى والكآبة، وانجذاب الخير إلى الشر، ومتعة صاحب الضوء وهو يعوّض بحضوره عن الوصول المتأخر واحتمال الغياب الدائم.

ضابط إيقاع خارج المظلة
في نقد رخاوة ادّعاء البعض فنّ الكتابة، والفارق بين المصقول والهش في الشعر والأدب والصحافة، يُفرد الشاعر شذرات “فجّة”، غاضبة، لا تهادن ولا تمتهن المسايرة. من روائع ما كتب: “إنّ مجتمعات تعتقد أنّ منتهى الثورية هي في كتاب “الأدب الجاهلي” لطه حسين، ومنتهى التمرّد في أدب جبران، ومنتهى السخرية في الجاحظ والشدياق، ومنتهى الفسق في أبي نوّاس وعمر الخيّام، ومنتهى الإلحاد في المعرّي، ومنتهى الجنوح في المتصوّفة، ومنتهى الغزل في عمر بن أبي ربيعة، ومنتهى الحبّ في جميل بثينة، ومنتهى التجديد في عهدنا، هي مجتمعات ساذجة فقدت ذاكرتها الدهرية وأجلستْ محلّها ذاكرة عقدية أو جيلية، بل سنوية وأحياناً شهرية ويومية ولحظوية لا تراكم في قاعها، بل ثقب في فراغ”. هنا الشذرة لا تتلطّى تحت مظلّة. تمسّ المعضلة بأظفارها، تتساءل: كم تحرِّر قراءة الأدباء العرب؟ وتجيب: “كتاباتهم لا تتداول القضايا الأساسية للإنسان والمجتمع، ولا حتى نصف الأساسية، وإنما تكتفي بالعموميات، أو بالتصدّي (؟!) لمشكلات بديهية واتخاذ مواقف تقليدية (المحبة ضدّ البغضاء، التسامح ضدّ التعصّب، الخير ضدّ الشرّ، الولاء للأرض والوطن، مناهضة العادات البالية (؟!)، الاقتباس عن إصلاحيين غربيين أكثرها في حدود “المقبول”، إلخ…). جرأة تقف عند نوع جبان من الهزل أو ملامسة العناوين الحساسة ملامسة هاربة ودائماً في إطار مراعاة التوازنات “المقدسة”. تعود من مطالعة أدبائك ومفكريك العرب وأنتَ أكثر حاجة إلى الانعتاق”. ضابط إيقاع مدهش هو أنسي الحاج. قصيدته لا تترنّح وأوراقه لا ترتجف. يطرح الإشكاليات ليُمسك بها من الصلب، ويعيد صوغها وفق رؤية حديثة. إنه الهدم الجذاب المرغوب، فيقول عن شعره: “كثيرٌ من شعري هو رفضٌ عنيف للشعر في صورته الغبطوية والتي أعتقد أنّها لم تُسهم في تزوير الشعر والفنون فحسب، بل في تضليل القيم والحقائق والمشاعر والأفكار وفي تنشئة بشرية مُستَهبَلة. لولا ذلك الليل الهارب من كلّ نهار، لكنتُ في قبضة من الهدم والانهدام. لكنّ الهرب إدمان يحتاج إلى تحليق لا إلى تحديق”. هو الذي يرى الشعراء نايات وكمنجات وعصافير ومغنين مجبولين بالأثير. أما عنه، رغم كتابته الشعر، فسيظلّ طافحاً بالشكوك كبعضٍ من عصفور بين قنفذ وأرنب.
الارتفاع كنسمة. ألمٌ مميت في داخل ليّن لا يراه أحد. روح بودلير وهي ترتمي في مطاهر لتُشفى. مسرح صموئيل بيكت وهو يعبّر عن العزلة. المركيز دو ساد وهو يوظّف العقل مساعداً للجنون. الأشياء وهي تخضع لغيابها لا لحضورها. وفيروز حين تجعل الله يتمنّى لو لم تكن الكائنات جميعها محكومة بالموت. كلّ هذا كان سهواً. لمعة سراب في قصيدة. شعوراً غامضاً بأنك مهدد، مشبوه أو متهم. ونشازاً وسط صمت. “على الشعر أن ينسحب بعض الوقت، كلياً، فلا يعود يظهر منه ولا في وسيلة نشر فترة طويلة”.
فاطمة عبدالله
النهار

عن الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان

عضو في الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة UCIP الذي تأسس عام 1927 بهدف جمع كلمة الاعلاميين لخدمة السلام والحقيقة . يضم الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان UCIP – LIBAN مجموعة من الإعلاميين الناشطين في مختلف الوسائل الإعلامية ومن الباحثين والأساتذة . تأسس عام 1997 بمبادرة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام استمرارا للمشاركة في التغطية الإعلامية لزيارة السعيد الذكر البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى لبنان في أيار مايو من العام نفسه. "أوسيب لبنان" يعمل رسميا تحت اشراف مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بموجب وثيقة تحمل الرقم 606 على 2000. وبموجب علم وخبر من الدولة اللبنانية رقم 122/ أد، تاريخ 12/4/2006. شعاره :" تعرفون الحق والحق يحرركم " (يوحنا 8:38 ).