يفتح “بيت بيروت” أبوابه امام اللبنانيين بعد غد الأربعاء ليصبح متحفاً لذاكرة بيروت، ومركزاً ثقافياً للفن الحديث، ويستقبل في ارجائه وصالاته ومسارحه اعمال الفنانين، من رسامين ونحاتين وموسيقيين وأدباء وشعراء، بعد انتهاء أعمال الترميم التي استغرقت 7 سنوات، بكلفة بلغت 18 مليون دولار تكبدتها بلدية بيروت.
من يمر امام المبنى الأصفر عند تقاطع السوديكو- بشارة الخوري بعد انتهاء الحرب، لن يلاحظ تغييراً طرأ على معالم هذا المبنى الذي انشىء بين العامين 1924 و1936 على مرحلتين، ويمثل ذاكرة بيروت المعمارية، ويزاوج في معالمه بين الفن العثماني والفن الحديث، وهذا ما يعطيه قيمة معمارية فريدة، خاض المعماريون وهيئات المجتمع المدني وجريدة “النهار” حملات على مدى 7 سنوات للحفاظ عليه معلماً هندسياً ومركزاً للتفاعل والحركة الثقافية.
سيتفاجأ الزائر عندما يرى الصورة النهائية للمبنى المرمم، لأن كل آثار الحرب من هدم وتخريب ورصاص وفجوات ومتاريس وكتابات المحاربين والواجهات المشظاة أبقي عليها للذكرى، وشيد مبنى جديدملاصق يمثل مرحلة ما بعد الحرب. هذا ما اراده مهندس المشروع يوسف حيدر، وسيكون من دون شك محط جدال كبير بين محبذ ورافض. وتطلب التواصل بين المبنيين إزالة الدرج الوسطي الذي كان يميز هذا المبنى، وقد أسفت المعمارية العالمية الراحلة زها حديد لـ”التضحية” به، خلال زيارتها الى لبنان.
تبلغ مساحة المشروع 7000 متر مربع، ويتألف من مبنيين يربط بينهما بهو يؤمن التواصل والترابط:
– المبنى القديم، وكل ما فيه يشهد على الحرب. يضم الطابق الارضي صالة لاستقبال الجمهور، واوديتوريوم وكافيتيريا ومكتبة متخصصة بالذاكرة، من كتب تاريخ وبحوث ودراسات. والطابق الاول ترك مكاناً لحفظ الذاكرة ويضم تجهيزات من الحرب وما قبلها. وسيخصص الطابق الثاني للمعارض الموقتة، فيما يشكل المكان معرضاً دائماً بكل ما يحمله من عناصر البيت القديم، وما تركه القناصون وعاشوه على مدى 15 عاماً من فتحات ومتاريس وحيطان سميكة وكتابات. وطال التجديد الطابق العلوي الذي تعرض للقذائف وتهدم سقفه وأعيد بناؤه، ففتحت الابواب وتغيرت المعالم لتكون صالة ضخمة للمعارض الكبيرة بمساحة 800 متر مربع، وأقيم في الخارج مطعم في الهواء الطلق، ونقلت اليه زيتونة كانت مزروعة في الطابق الارضي. وأعيد استعمال الأبواب الخشبية القديمة فيه، ولا تزال الأرضيات والبلاط القديم في مكانهما، والجدران لم تمس.
– المبنى الحديث ويتألف من 11 طبقة، 6 منها سفلية مخصصة للأرشيف بكل انواعه الورقي والرقمي والتصويري. ويضم أول ارشيف مقتنيات المكان، وأبرزها الصور التي كانت موجودة في استوديو التصوير في المبنى القديم و60 ألف نيغاتيف تخبر صور الناس وحكاياتهم ومناسباتهم واعراسهم وحوادث المدينة بين العامين 1930 و1975. وهو كنز سيتم التعاون مع “المؤسسة العربية للصورة” لترميمها وتجهيزها. اضافة الى 8 “تتخيتات” لعائلات تركتها بكل ما فيها من مقتنيات، تركت مادة للباحثين وعلماء الاجتماع لدراستها. ويضم ايضاً قاعة محاضرات تتسع لـ 300 شخص مجهزة بأحدث التقنيات، ومركز بحوث وتوثيق.
المبنى الجديد لغته المعمارية حديثة ومرتبطة بمنطقي الطقس والمناخ، والشفافية والوحدة في العلاقة بين الامور. صمم زجاجياً شفافاً، بحيث يمكن رؤية كل شيء من اي مكان، تطبيقاً لنظرية القناص الذي كان هدفه دائماً ان يطال الآخر. يتألف من طبقة ارضية و4 علوية، أدراجه دائرية، وتنتشر في كل طوابقه شفرات زجاجية لترد انعكاس حرارة الشمس عن المكاتب. وسيضم مركزاً للباحثين، وينشأ فيه مرصد مدني يعمل على التطور المعماري والمديني لبيروت. ويشرح نائب رئيس البلدية نديم ابو رزق ان “المرصد تابع لبلدية بيروت ويشكل جزءاً من هيكليتها، ويضم فريق عمل مهمته جمع كل المعلومات عن تحديات المدينة مثل الأبنية التراثية، ونوعية الهواء، والسير، والتنظيم المدني وغيرها، ننطلق منها لوضع مخطط استراتيجي للمدينة”.
والمشروع ككل بناء ذكي وأخضر، ويعتمد الطاقة الشمسية، ومجهز ضد الزلازل. وركزت خارجه تجهيزات للإضاءة تنيره بالكامل، وتبث يومياً وثائقياً يروي سيرته ويعرض صوره قبل الحرب وخلالها وبعدها. ووضع فريق العمل خريطة لمواقع القناصين في المبنى من جهتي خط التماس، وتبين وجود 372 موقعاً ستبقى معروضة في شكل دائم، بينها 4 أساسية تتوزع بين الطابقين الاول والثاني، ومتاريس واعمدة رخام لا تزال ثقوب الرصاص واضحة فيها.
ويختم حيدر: “منذ البداية تعاملت مع هذا المبنى ككائن حي وليس حجارة، عمره 90 عاماً يعني عنده ذاكرة وتاريخ وطبقات وجروح وتجاعيد، لم أشأ ان أجري له اي تجميل بل سيبقى كما هو، وجهز وتمم لكي يستوعب الحركة التي سيضج بها”.
النهار