يعيدنا عادل مالك بالذاكرة إلى “حرب السنتين وبعد…” (عنوان الكتاب، دار سائر المشرق) تلك الحرب التي يقول اللبنانيون “تنذكر وما تنعاد”، ويتمنّون، وهي لن تعاد حتى الآن، لأنها لا تزال مستمرة من دون مدافع وقذائف فقط. وربما هذا ما عناه بكلمة “وبعد…”.
جمع مالك من موقعه كمسؤول عن نشرة الأخبار في “تلفزيون لبنان” الوحيد العامل آنذاك، كتاباً أرشيفياً بناه على ذكريات خاصة، وضمّنه “الوثائق المعلوماتية وذات الارتباط المباشر والوثيق بالهاوية التي سقط فيها الوطن، بل من أسقطه فيها”. خلال الحرب كانت الشائعات تعلن وقف النار وخرقه، وتتوقع حوادث ستحصل وتحدّد مواقيت لمعاودة الاقتتال أو القصف أو التهجير. هكذا الحرب نفسها كانت نذرها ترد على ألسنة الزعماء السياسيين وأشهرها “قبرصة لبنان”، وكانت تركيا آنذاك احتلت الجزء الشمالي من جزيرة قبرص، وضمّته إليها، ثم نصّبت عليه دمية تابعة لها رئيساً، فصارت شطرين بحكمين، هذه هي القبرصة.
عاش اللبنانيون الحرب بتداعياتها واسقاطاتها قبل أن تحدث. يقول مالك: “كانت أخبار حرب السنتين معروفة وشائعة، بل إنّ البعض أنذر بها قبل أن تقع”. من ذلك قول سفير دولة كبرى كما نقل عنه كمال جنبلاط: “إن الأحداث التي بدأت في لبنان لن تنتهي قبل سنتين على الأقل”. لكنها استغرقت 15 سنة!
بوشرت الحرب على العراق باتهام باطل، واعتراف به، وبوشرت الحرب اللبنانية باتهام باطل لحزب الكتائب، وحتى الآن لم يعترف ببطلانه. حادثة إطلاق النار على “بوسطة عين الرمانة” التي اتهمت الكتائب بارتكابها، تبيّن في ما بعد “أنّ لا علاقة للكتائب بالحادث كما حصل، والتحقيق العسكري الذي جرى – متأخّراً جداً – أثبت أنّه لا علاقة للكتائب به. ورأت التقارير الأولية التي أرسلت من الدرك وتالياً من وزارة الداخلية أي من رشيد الصلح – من المكتب الثاني – ومن قيادة الجيش… ارتكز الاثنان على مظهر القضية: وجود الشيخ بيار ومقتل كتائبي وردّ الفعل… كان هناك حلقة مفقودة وهي توريط الأوتوبيس لإشعال النار، وإن الأوتوبيس كان يجب ألاّ يمر بعين الرمانة، بل منع من المرور وطلب منه عدم التوجه في هذه الطريق التي لم يعتد الفلسطينيون سلوكها. دخول الأوتوبيس كان مخططاً لأن يقتل ركّابه. هذه عملية أصبحت معروفة”… “لم يكن مطلوباً من الكتائب التنصل من الحالات، إنما تقبل التهمة، من إصدار بيان استنكار، كان المطلوب من الكتائب الاعتراف بجريمة لم ترتكبها”. وكانت الغلطة المقصودة قرار عزل الكتائب، الذي غلّب التطرف على الاعتدال والتهور على الحكمة والمصالح الشخصية على المصلحة الوطنية. وتمسك بيار الجميّل بقوله: “لو كانت المشكلة بين اللبنانيّين كنا أنهيناها منذ البارحة”.
الذين عاشوا تلك المرحلة سواء في الصحافة أو في الحياة العامة، يعرفون الكثير مما جرى، وإن غاب عنهم بعض ما كان يجري في الغرف المغلقة والكواليس السياسية، وهذا ما يحاول مالك أن يقدّمه. على الرغم من أن الكثير مما ورد فيه هو جزء من أرشيفه الخاص، كما من أرشيف الصحف والتلفزيون، لكن المرء إن يستعيده لا يستعيد حوادث حقبة عاشها، أو لم يعشها من الأجيال الجديدة التي تجاوز عمرها الأربعين، إذا كانت قد ولدت خلال حرب السنتين، وهو ليس بالعمر القصير. تالياً، هناك جيلان كاملان سيجدان في هذا الكتاب ما لا يعرفانه عن الحرب، وما يجب أن يعرفاه لعلّه يكون عبرة لهما. أما لجيلنا ففي إعادة قراءة الحوادث متعة الذكرى والتذكر، إذا لم يقترنا بمأساة أو حوادث شخصية أليمة وهي كثيرة، وذلك على قاعدة “ينذكر وما ينعاد”، وهذا ما نخشاه دائماً. يصفه مالك بأنه “كتاب معلومات وليس كتاب موقف أو انحياز”.
نجح مالك في اختصار حرب السنتين في عِبَر وأهداف ونتائج بالتساؤلات التي سألها، وحاول الاجابة عنها، وهي نفسها اختزنت مضمونها: إذا كانت هي حرب العرب، فقد نجح العرب في تدمير لبنان ولو إلى حين وبأيدي أبنائه، لكن هذه الكأس المرة التي حاول البعض ابعادها عنه ومنع وصولها إليه، بَلَغته، ولو بعد حين، وبمسميات مختلفة. لنلاحظ لاحقاً سقوط المنطقة في أتون الحريق الكبير. وإذا كانت حرب كمال جنبلاط، كما يزعم البعض، فهو لم ينجح في تقويض “الحكم الماروني”، ولو أنه سيطر بتحالفه مع المقاومة الفلسطينية على ثمانين في المئة من الجغرافيا اللبنانية خلال الحرب. وإذا كانت حرب مطالب المسلمين ضد ما كان يسمى “امتيازات المسيحيين”، فلم يحصل المسلمون على “الإنصاف”، بل زادت الحرب في بعثرة قياداتهم وشعوبهم؟ وإذا كانت هي “حرب المحرومين” كما طرح البعض، فإنّ محروماً واحداً لم تصل إليه العدالة ولا أيّ اكتفاء، بل إنّ الحرب ساوت غالبية اللبنانيين في الحرمان، إلاّ طبقة أثرياء الحرب التي “وظّفت” نفسها في الحرب، كما يوظّف آخرون أنفسهم في حالات السلم. وإذا كانت الحرب اللبنانية هي حرب تصفية القضية الفلسطينية وتحجيمها، كما أشاع البعض، فإن الفلسطينيين باقون في لبنان، رغم كل ما أصاب الثورة الفلسطينية من طعنات في الصميم. وإذا كانت حرب المقاومة الفلسطينية، كما بدا في بدايات الحرب، فقد فشلت المقاومة في تشديد قبضتها على لبنان، رغم كل المحاولات لاعتبار لبنان الوطن البديل من فلسطين، وبذلك تكون المقاومة قد خسرت فلسطين ولبنان. وإذا كانت هي حرب أميركا – كيسينجر، فقد ذهب كيسنجر واستمرت الحرب، وبقي لبنان. أمّا إذا كانت حرب اسرائيل في سبيل إعادة رسم خريطة المنطقة وضرب التعايش في لبنان، فقد أثبت اللبنانيون بالممارسة، ورغم كل ما حدث، أن الانقسام الطائفي لم يفصل بين أبناء الشعب اللبناني.
لكن الممارسات خلال الحرب أحدثت تباعداً طائفياً رغماً عن ارادة بعض اللبنانيين، الذين لم تكن حربهم البتة، لكنهم كانوا ضحاياها، وخصوصاً المدنيين الأبرياء، لذلك هي حرب السياسيين والمخابرات والميليشيات.
في خضم الصراعات القائمة حالياً، يبدو أن السياسيين الذين كانوا في معظمهم قادة ميليشيات يأتمرون بأولياء نعمتهم من سوريين أو فلسطينيين أو أميركيين أو سوفيات أو… أو بمجموعة من مخابرات هؤلاء وقلّ ما تفترض أحداً يأتمر بنفسه كان يمكن أن يرفض الاستعانة بالجيش لوضع حد للتدهور الأمني الذي بدأ فعلياً في 13 نيسان في ما سمي “حرب السنتين”… هؤلاء ومن خلفهم من أبناء أو أحفاد أو تابعين تداركوا خطأهم السابق فعمدوا إلى الاستعانة بالجيش لحماية الحدود حيث الأخطار تتهدّد لبنان سواء في الجنوب أو البقاع أو الشمال، كما في الداخل، حيث كلّف مهمة حفظ الأمن في المدن والمناطق التي تشهد توترات.
في حرب السنتين كانت مشكلة الاستعانة بالجيش مشكلة عويصة طالب بها القادة المسيحيون ورفضها القادة المسلمون، ما اعتبره كثيرون سبباً لانقسام الجيش ثم تشرذمه وتوزّعه ألوية طائفية أو مناطقية، وفقدان الانضباط والالتزام لدى عناصره، لكن هذه المشكلة تفاداها السياسيون حالياً فاستعانوا بالجيش في كل المهمات العسكرية والامنية. عدم “إنزال الجيش”، كما كان يقال، أدى إلى انقسامه.
لكن السياسيين ما زالوا يمارسون الاهمال و”التنحيف” لمخصّصات تسليح الجيش، هكذا الحال عبر كل العهود وحتى الآن، كما يقول مالك: “إن جميع العهود المتعاقبة أهملت الجيش كثيراً ولم تمدّه بالمال ولا العتاد ولم تقرِّر القيادات السياسية والعسكرية على مرّ الزمن من العمل على إنشاء جيش لبناني يكون قادراً على مواجهة التحديات في الداخل والخارج”. ويبدو أن المعترضين على التسليح ما زالوا هم أنفسهم.
يتساءل مالك عن معنى “… وبعد” التي يختم بها الكتاب، ويحصر السؤال بالآتي: هل “الصيغة اللبنانية” لا تزال صالحة فعلاً لاستيعاب مختلف “الفصائل” المكوَّنة للتركيبة اللبنانية، كما تمّ التفاهم عليها لدى “الاستقلال الأول” في العام 1943؟ هل المتغيّرات التي طرأت على الواقع اللبناني عموماً، تستوجب البحث والتفكير في صيغة أخرى؟ ما هي الصيغة التي يمكن أن تلقى قبولاً لدى مختلف ألوان “الموزاييك اللبناني”؟”.
هل نجا لبنان من الأطروحات التقسيمية التي تحدث البعض عنها؟ وما هي الاتجاهات التقسيمية في المنطقة كلها؟
إن الطائف يطوف بنا في بحر هائج!
النهار