ورد في “تحف العقول” (أحد أشهر مصادر الحديث عند الشيعة) عن السيّد المسيح أنّه قال: “بحقّ أقول لكم: مَن نظر إلى الحيّة تؤمّ أخاه لتلدغه، ولم يحذّره حتّى قتلته، فلا يأمن أن يكون قد شارك في دمه. وكذلك مَن نظر إلى أخيه يعمل الخطيئة، ولم يحذّره عاقبتها حتّى أحاطت به، فلا يأمن أن يكون قد شارك في إثمه. ومَن قدر على أن يغيّر الظالم ثمّ لم يغيّره فهو كفاعله”.
الظلم النازل بالسوريّين كافّة، وبأهل حلب في هذه الأيّام الأخيرة، هو الذي ذكّرنا بقول المسيح أعلاه. فلماذا هذا الصمت المريب عمّا يجري في حلب؟ أليس الصمت تواطؤًا ما بين الشركاء في الجريمة الواحدة من أهل الشرق وأهل الغرب على السواء؟ أليس يقال: “الصمت علامة الرضى”؟
لكن لماذا نلوم دول العالم على صمتها اللئيم وتواطؤها الخبيث، فيما نحن ننساق بسهولة فائقة إلى تصديق هذا الطرف أو ذاك ممّن له المصلحة بالسيطرة علينا، والهيمنة على بلادنا وثرواتها وخيراتها. ألسنا نحن أيضًا شركاء في هذا الظلم المبتلين به؟ لماذا نقبل الاستقواء بالأجنبيّ ضدّ شركائنا في الوطن الواحد؟ لكن، أيضًا وأيضًا، هل يمكننا الادّعاء بأنّنا حقّقنا على أرض الواقع مفهوم “الوطن” واشتقاقاته من مفاهيم الحرّيّة والعدالة والمساواة ودولة المؤسّسات؟
في مقالة لنا عنوانها “نذهب إلى الفتنة طوعًا” (النهار، 15 أكتوبر 2014) ذكّرت فيها بما قاله المفكّر الإسلاميّ جمال الدين الأفغانيّ (1897)، في نهاية القرن التاسع عشر، في مقالة له عنوانها “الغرب والشرق” يعرض فيها للسبل التي يطرقها الغرب للسيطرة على الشرق. هذه المقالة كأنّها كُتبت اليوم، ولـمّا يمرّ عليها زمن غير يسير.
يقول الأفغانيّ: “ما من دولة غربيّة، تطرق باب مملكة شرقيّة إلاّ وتكون حجّتها، إمّا حفظ حقوق السلطان، أو إخماد فتنة قامت على الأمير (…)، أو غير ذلك من البهتان والختل والخداع، وواهي الحجج. فإذا لم تكفِ تلك الأضاليل للبقاء، تذرّعت إمّا بحجّة حماية المسيحيّين، أو حماية الأقلّيّات، أو حقوق الأجانب، وامتيازاتهم، أو حرّيّة الشعب، أو تعليمه أصول الاستقلال، أو إعطاء الشعب حقّه، تدريجًا، من الحكم الذاتيّ، أو إغناء الشعب الفقير بالإشراف على موارد ثروته”.
يتابع الأفغانيّ قائلاً إنّ الشرقيّين يرجعون معلّلين أنفسهم بأنّ الغربيّين سيوفون لهم بوعدهم إذ يتركونهم “شعبًا حرًّا، مستقلاًّ بإدارة شؤونه، منتقيًا من أبنائه حكّامًا، من أنزههم نفسًا، وأحسنهم سيرةً وسيرًا، وأصدعهم بالحقّ قولاً وفعلاً”. أمّا ما يفعله الغربيّ فهو برنامج يحمله من بلاده مسطور فيه عن الشرقيّين: “شعب خامل جاهل متعصّب، أراضٍ خصبة، معادن كثيرة (هذا قبل ظهور النفط)، مشاريع كبيرة، هواء معتدل، نحن (أهل الغرب) أولى بالتمتّع بكل هذا”.
ويخلص الأفغانيّ في توصيفه إلى القول أنّ الغربيّ يضع خطّة للوصول إلى الاستيلاء على البلاد، وذلك عبر “إقصاء كلّ وطنيّ حرّ يمكنه الجهر بمطالب وطنيّة، وتقريب الأسقط همّة والأبعد عن المناقشة والمطالبة بالحقّ، والدخول على البلاد بتفريقها طوائف وشيعًا، فتؤثر طائفة على أخرى حتّى تستحكم النفرة من بعضهم فيضعون بأسهم بينهم”…
ثمّة قول شائع مفاده أنّ “التاريخ يعيد نفسه”. هو قول خاطئ إلاّ إذا كان المعنيّون لا يعتبرون بدروس الماضي. نعم التاريخ يعيد نفسه، لأنّنا شئنا أن يعيد نفسه. فدول العالم كافّة تستبيح أرضنا وسماءنا وبحرنا، تستعمرنا من جديد، تنهب ثرواتنا، تسلّط علينا حكّامًا مستبدّين، تعدنا بالحرّيّة والسيادة والاستقلال والديموقراطيّة وحقوق الإنسان… تكذب، وتكذب، وتكذب… لكن ينبغي ألاّ نلوم إلاّ أنفسنا، فالغرب يسعى إلى مصالحه، ونحن نتقاتل عبثًا، ونذهب إلى الفتنة طوعًا. “لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين”، وها نحن نُلدغ على الدوام.
ورد أيضًا في “تحف العقول” أنّ المسيح قال: “الحكمة تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار. ألم تعلموا أنّ مَن شمخ برأسه إلى السقف شجّه؟ ومَن خفض برأسه عنه استظلّ تحته؟ وكذلك مَن لم يتواضع لله خفضه، ومَن تواضع لله رفعه”. لماذا، يا مسيحي، العادمو الحكمة والفاقدو الإنسانيّة يحكمون العالم؟ لقد بلغ المتكبّرون إلى السقف، فمتى سيشجّون رؤوسهم كي يستظلّ الآمنون تحت سقف وطنهم الحبيب سوريا؟