كم كان المشهد بالأمس حزيناً وكئيباً ومؤلماً وفاضحاً وصادماً في تلك الكابيلا المتواضعة في مدافن رأس النبع في قلب العاصمة اللبنانية، حيث التقت مجموعة متواضعة بعددها وبناسها للاحتفال بذكرى راحل كبير من لبنان والمشاركة في الصلاة لراحة نفس تعبت وجاهدت وناضلت وعانت نكران أهل الوطن وألم بُعد المنفى عند الولادة، كما في الوفاة.
شعور بالمرارة ترافق مع الخشية، كل الخشية، وعدد الأوفياء يتضاءل سنة بعد سنة، أن لا يبقى من يتذكّر العميد ريمون إده، ذلك الرجل الذي ترك بصمة مشرّفة، بيضاء، ناصعة، مميزة بنظافة الكف وشفافية الأخلاق ووطنية المواقف.
في هذا المشهد المظلم وحدها كلمات معدودة وعفوية جاءت لتضيء المناسبة وقد قالها كاهن وقور وهي كانت أبلغ من كل الخطب الرنّانة والعظات المطولة، وهو اختصرها بتوجيه دعوة الى الله بأن “يأتينا برئيس ذي ضمير كالعميد ريمون إده الذي أحوج ما يكون لبنان الى أمثاله لقيادة الوطن في هذه الظروف الحرجة”.
بالأمس القريب وقف لبناني بيروتي سني في ساحة مدينة جبيل وأمام نصب العميد التذكاري يتلو بجرأة وشجاعة “فعل ندامة واعتذار” من “عميد الوطنية” ومجدداً فعل الايمان بـ”لبنان الهوية والانتماء والرسالة، لبنان الحرية والسيادة والعدالة، الذي ناضل “شهيد المنفى” بصلابة طوال حياته من أجله.
فهل من يجرؤ اليوم من أهل البيت الماروني ومرجعياته أن يحذو حذو نهاد المشنوق ويبادر الى فحص ضمير ليس لاعطاء ريمون إده حقه فحسب، بل للخروج من “حال الجنون الذي يصيبهم كل ست سنوات”، على حد تعبير نسيب العميد وكبير آخر من آل إده وهو ميشال إده المتأصّل بمارونيته والمتمسك بلبنانيته المنفتحة والمتجذر بعروبته المشرقية، ولاخراج لبنان ورئاسته من حال الانتظار القاتل الذي يهدّد استمرارية الكيان والصيغة والوجود.
في أحد لقاءاتي العميد رحمه الله في باريس، ورداً على سؤالي له: بعد وفاتك، ماذا تريد أن يحتفظ به اللبنانيون عنك في ذاكرتهم؟ بعد تفكير عميق، قال: “أريد أن تكتب على مدفني هذه العبارات، وأخذ ورقة صغيرة وقلماً ليدوّن هذه الكلمات بالفرنسية (والتي اشتهرت من وقتها): “Ici git Raymond qui avait raison” ترجمتها: “هنا يرقد ريمون الذي كان على حق”.
ليعذرني العميد إذ استبدل اسمه بمرادفه لأقول: حقاً الضمير كان وسيظل على حق.
النهار
الوسوم :الضمير الذي كان وسيظل على حق