يمتدح القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (+407)، السوريّ الأنطاكيّ بطريرك القسطنطينيّة، شجاعة النسوة النبيلات اللواتي رافقن يسوع في حياته وفي مماته. فهنّ، النسوة الحاملات الطيب كما تسمّيهن الكنيسة، لم يخفن كما خاف تلاميذه الأقربون ففرّوا من مواجهة المصير المهين لمعلّمهم، فتخلّوا عن وعودهم بمشاركته مصيره، أو بمرافقته على الأقلّ… وقبل صياح الديك.
يقول الذهبيّ الفم، قبل الحركة النسويّة بما ينوف عن خمسة عشر قرنًا، إنّ على الرجال أن يتمثّلوا بشجاعة النسوة اللواتي ذهبن إلى القبر لتطييب جسد يسوع: “فلنتمثّل بهاتين المرأتين (مريم المجدليّة ومريم الأُخرى)، أيّها الرجال! فلا نتخلّى عن يسوع في وقت التجربة! لقد أنفقتا عليه من مالهما كثيرًا وهو ميت، وعرّضتا حياتهما للخطر. لكنّنا نحن معشر الرجال – أكرّر القول – ما أطعمناه وهو جائع ولا كسوناه وهو عريان. وعندما نراه يستعطي ندير له ظهرنا. لكن لو أبصرتموه حقًّا لجرّدتم أنفسكم من كلّ ما لكم”.
قبل النسوة الحاملات الطيب ظهرت فتاة قاصرة كانت أكثر منهنّ شجاعةً وإقدامًا، القدّيسة مريم والدة يسوع، أو والدة الإله كما تؤكّد الكنيسة الجامعة. هذه الفتاة قبلت، بإرادتها الحرّة وطاعتها لكلمة الله، أن تحبل من الروح القدس بيسوع، من دون زواج. فواجهت خطر الحكم عليها بالزنا والقتل، لو لم يتدارك الأمر القدّيس يوسف، خطّيبها، فيشهرها زوجة له أمام الناس من دون أن تكون زوجة له في الواقع. نقول إنّها واجهت خطر الموت رجمًا تصديقًا لقول ملاك البشارة لها، قبل أن تنال موافقة يوسف لتغطيتها أمام أبناء قومها. لم تستشر أحدًا من البشر حين ناداها الربّ إلى قبول مهمّتها الأسمى بإعطاء ابن الله جسدًا.
لكن في الحالتين كان في المشهد العامّ ثمّة يوسف. يوسف خطّيب مريم، الصامت الكبير، ويوسف الراميّ الذي طلب جسد يسوع الذي أسلم روحه على الصليب كي يدفنه كما يليق. يوسف الأوّل لم يتوانَ عن احتضان مريم المدعوّة إلى الإسهام في التدبير الإلهيّ عبر قبولها بشارة الملاك، ويوسف الثاني الذي تجرّأ على أن يطلب من بيلاطس تسليمه جسد يسوع. عن يوسف الراميّ يقول الذهبيّ الفم: “كان يوسف يخفي تابعيّته من قبل. لكنّه أصبح جسورًا جدًّا بعد موت المسيح. لم يكن مغمورًا أو منسيًّا، بل كان وجيهًا محترمًا جدًّا، وعضوًا بارزًا في المجلس (اليهوديّ). يتّضح من هذا أنّه كان جريئًا ومقدامًا. فقد عرّض نفسه للموت واستعدى الجميع حبًّا بالمسيح”.
إذا ذهبنا في المقارنة إلى دلالاتها الرمزيّة لكرّرنا مع القدّيس إيرونيموس (+420) الذي لاحظ أنّ يسوع قد وُضع في قبر جديد لم يوضع فيه أحد قبلاً، فقال إنّ “القبر الجديد يشبه رحم مريم العذريّ”. فكما وُلد يسوع من مريم العذراء، هكذا بزغ يسوع من القبر الأعذر مولودًا جديدًا.
يوسف الرامي والنسوة الحاملات الطيب لم يكونوا من الاثني عشر تلميذًا المختارين. التلاميذ الأقربون أنكروا وقت المحنة أنّهم يعرفون يسوع، وواحد منهم أسلمه للصلب، أمّا الذي لم يكن معدودًا منهم فتجرّأ وأعلن إيمانه جهارًا، فصار تلميذًا ليسوع. التلميذ الحقيقيّ ليسوع، ذكرًا أم أنثى، ليس هو مَن يحمل هويّة مسيحيّة بمقتضى معموديّته، بل هو مَن يتحلّى بشجاعة مريم ويوسف الراميّ والنسوة الحاملات الطيب والشهداء الذين قدّموا ذواتهم في سبيل التمسّك بالإيمان… الشجاع وحده يستحقّ أن يكون حبيبًا ليسوع.